(5) طرائق القرآن في تفسير العلم الأعجمي وبيان منهج المؤلف في كتابه:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (5)
للقرآن في تفسير علمه الأعجمي طرائق شتى، وقع لي بفضل من الله ونعمة استظهار ست منها وهي:
التفسير بالتعريب (ومثاله «ميكال») – التفسير بالترجمة (ومثاله «ذو الكفل») – التفسير بالمرادف (ومثاله «موسى») – التفسير بالمشاكلة (ومثاله «زكريا») – التفسير بالمقابلة (ومثاله «عاد) – التفسير بالسياق العام (ومثاله «لوط»).
وقد تجتمع في تفسير علم واحد أكثر من أداة، فيفسر مرة بالترادف، ويفسر أخرى بالسياق العام، إلخ.، بنفس المعنى أو بقريب منه.
أما التفسير بالتعريب فهو تعريب العلم الأعجمي على وزن عربي يفيد بذاته أصل معناه في لغته.
من ذلك أن القرآن في «ميكائيل» (وتنطق كافها في العبرية خاء لتقدم الياء عليها كما مر بك) لا يعربها على «مكئال»، ولا على «مكئيل»، ولا على «مئكال»، وإنما يعربها على «ميكال»، فيصيب التعريب ويصيب المعنى في آن واحد، كما سترى.
وشرط إمكان التفسير بالتعريب، اتحاد الجذر في اللفظين، الأعجمي والمعرب. ولا يتسنى هذا إلا في لغتين من نفس الأسرة اللغوية، كما هو الحال في اللغتين العربية والعبرية.
ويتعين التنبيه إلى أن «التفسير بالتعريب» ليس هو التفسير بالترجمة: التعريب كما مر بك هو استبقا ءاللفظ الأعجمي في صورته الأعجمية بعد تهذيبه على مقتضى مخارج أصوات العربية وأوزانها، من مثل «جيورجيوس» التي عربت إلى «جرجس»، باستيفاء أحرف الاسم الصحيحة (ج – ر – ج – س) والاستغناء عما عداها،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/139]
فاستقام نطقُهُ على وزن عربي، أي أصبح الاسم الأعجمي عربيًا بصورته، وإن بقي أعجميًا بمعناه، إذ لا معنى للفظ «جرجس» في العربية، لأن اللغتين اليونانية والعربية ليستا من نفس الأسرة اللغوية، فلا تفهم معنى «جرجس» إلا أن يُقال لك إن أصلها في اليونانية «جيورجيوس» وأن معنى «جيورجيوس» هذه في اليونانية «الحارث»، أعني أنك في التعريب تبقى محتاجًا إلى من «يترجم» لك، أما إن ترجمت الاسم العلم إلى معناه في لغتك، غير عابئ بأصل صورته في لغته، كأن تسمى «جيورجيوس» باسم «الحارث» مباشرة فقد أصبت «المعنى» وفاتك المبني»، وينتج عن هذا أن من يسمعك تقول «الحارث» لا يدري إن كنت تقصد رجلاً عربيًا اسمه الحارث، أم تقصد رجلاً يونانيًا اسمه «جيورجيوس» ترجمت أنت معناه إلى «الحارث».
من ذلك في القرآن «ذو الكفل»، الذي لا خلاف على عربيته مبني ومعنى ولا مجال لاشتقاقه من العبرية أو الآرامية، فتتوقف فيه: هل هو نبي عربي لم تتحدث عنه التوراة، أم هو علم من أعلام التوراة، نص القرآن على معناه، ولم ينص على مبناه، وسيأتي.
أما لماذا يعمد القرآن أحيانًا إلى الترجمة ويهمل التعريب، فهذا إعجاز من ثلاثة أوجه: الوجه الأول «العلم»، أصل كل إعجاز في القرآن، والوجه الثاني تحاشى التعريب حين تفيد الصورة التي يعرب عليها الاسم عكس معناه في لغته، مثل «يشوع» بمعنى «الناجي» في العبرية (عيسى في القرآن) المعدول عن تعريبها «يسوع» (كما فعل المترجم العربي في الأناجيل اليونانية) لأن «يسوع» معناها في العربية «الهالك». وأما الوجه الثالث فهو خصيصة من خصائص لغة القرآن: تحاشى الوحشي وتحرى الجمال. ولو علمت أصل «ذي الكفل» في التوراة لأدركت ما أعني، ولما جوزت فيه إلا الترجمة. وسيأتي.
التفسير بالتعريب والتفسير بالترجمة، هو كما ترى متضمن في بنية الاسم ذاته، معربًا أو مترجمًا، لا يحتاج من ثم إلى مزيد بيان، فلا يفسر بغيرهما من أدوات التفسير الست في القرآن: الترادف، والمشاكلة، والمقابلة، والسياق العام.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/140]
أما التفسير بالمرادف، فهو الإتيان بالعلم الأعجمي على التجاور مع مرادف له في العربية يفيد معناه في لغة المتسمى به، كما رأيت من قبل في «ملك / رسول» وكما رأيت في «شيطان / عدو». ولا يشترط في المرادف العربي أن يأتي على صيغة اسمية تفسر معنى العلم الأعجمي، كما في «موسى»، ومعناها في المصرية القديمة «وليد»، تجدها في: {ألم نريك فينا وليدا * ولبثت فينا من عمرك سنين} [الشعراء: 18]، وإنما قد يأتي المرادف أيضًا على صيغة جملة اسمية أو فعلية، كما في: {لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا}[القصص: 9]، والمقصود في الحالتين «موسى»، المحذوف لدلالة السياق عليه. وسيأتي. من ذلك أيضًا «إسحاق» في قوله عز وجل: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق} [هود: 71]، وفي ميلاد مريم عليها السلام: {قالت رب إني وضعتها أنثى – والله أعلم بما وضعت – وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم} [آل عمران: 36]، وكما في قوله عز وجل: {يا مريم اقنتي لربك} [آل عمران: 43]، وسيأتي بيان هذا كله في موضعه إن شاء الله.
وليس التفسير بالمرادف كالتفسير بالترجمة كما لعلك حدست: في التفسير بالمرادف يظهر العلم الأعجمي إلى جوار مرادفه العربي الدال على معناه. أما في التفسير بالترجمة فالعلم الأعجمي يختفي تمامًا في كل القرآن، ولا يظهر في القرآن إلا باسمه العربي ترجمة، كماس ترى في «ذي الكفل».
أما التفسير بالمشاكلة، فهو ذلك الجناس المعجب الذي مر بك من قبل في قوله عز وجل: {كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريا} [مريم: 1] بين «زكر» العبرية، «ذكر» العربية، لا فرق بينهما إلا إبدال الزاي العبرية ذالاً، مع اتحاد المعنى. إنه فرع من التفسير بالمرادف، ولكنه ليس هو: لاتفاق المرادف العربي مع مرادفه العبري في اللفظ والمعنى، لا في المعنى فقط. والتفسير بالمشاكلة ليس هو أيضًا التفسير بالتعريب، لأن المفسر بالتعريب لا يظهر في القرآن إلا بصورته المعربة، كما في «ميكال»، أما المفسر بالمشاكلة، مثل «زكريا» فيظهر بصورته المعربة هذه، مفسرًا بغيرها.
وأما التفسير بالمقابلة – والمقابلة هي «الطباق» عند أهل البديع – فهي الإتيان بالعلم الأعجمي مقابلاً بعكس معناه، أي أنها عكس الترادف تمامًا. من ذلك في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/141]
القرآن «عاد» قوم هود، وهي في العبرية – الآرامية من «الأبد»، «الخلود»، و«عدني» عبريًا بمعنى ما زلت وما أزال. ولكن القرآن يقول: {وأنه أهلك عادا الأولى * وثمود فما أبقى} [النجم: 50 – 51]، أي أنه سبحانه أزال الباقية الخالدة التي لا تزول، فيفسرها بما آلت إليه. وسيأتي.
أما التفسير بالسياق العام فهو أنك تستخلص من سياق الآيات وصفًا لبطل الحدث المروي في القرآن، يلابسه ويلازمه حتى تكاد تسميه به، وإذا هو نفسه معنى اسمه العلم في التوراة.
من ذلك اسم «لوط»، ومعناه بالعبرية «محجوب»، الذي تجده مفسرًا بالمقابلة في قوله عز وجل: {وجاء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون} [الحجر: 67 – 68]. ولكنك تجده أيضًا مفسرًا بالسياق العام أو الجو العام الذي توحي به إليك الآيات التي تصور لك لوطًا وهو «يراود» عن ضيفه ولا يملك ما يدافع به إلا أن يفتدي ببناته فلا يقبل منه، ويهمون به ليبطشوا به إلا أن يخلى بينهم وبين ضيفه هؤلاء ليفعلوا بهم ما أرداوا، ويجزع لوط أشد الجزع وقد غلب على ضيفه فيتوجع: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80]، ولكن ضيفه يهونون عليه: {قالوا يا لوط إنا رسل ربك * لن يصلوا إليك} [هود: 81]، ولكن الملائكة المكرمين لا يحاجزون عن لوط، ولا يبطشون بالكفرة الفجرة، فلم تحن بعد ساعتهم، بل يضربون بينه وبينهم بحجاب، فتغشى الذين ظلموا الظلمة: {فطمسنا أعينهم} [القمر: 37] فيحتجب منهم لوط كما تحتجب الملائكة، ويضرب الليل بأستاره على القرية المجرمة، ويمضي لوط في ساتر الليل متبعًا ما أمر به: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} [هود: 81]، لينجو بسحر: {إلا آل لوط نجيناهم بسحر * نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر} [القمر: 34 – 35]، ولا ينجلي الليل عن القرية إلا وقد صبحهم عذاب مستقر: {ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر} [القمر: 38]. وهلك الظلمة ردمًا وعميانًا: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل} [الحجر: 72 – 74].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/142]
هذا الحجاب المضروب على لوط في إفلاته من بطش الذين كفروا، وفي فراره من القرية الظالم أهلها، حجاب باطنه من قبله الرحمة، وظاهره من ورائه العذاب، ولذلك قيل له: {فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد} [الحجر: 65]. أي النجاء أمامك، وكل ما وراءك هالك، فاجعل القوم وراءك، ولا تلتفت.
هذا الجو العام، الذي توحيه الآيات، سمة يتفرد بها القصص القرآني من دون كل قصص: الحدث المروي في القرآن لا يسرد عليك كما يسرد الخبر ولكنه – على خلاف ما تجد في التوراة والإنجيل – يبعث لك من غياهب التاريخ حيا ناضبا مشخصًا، وإذا أنت في قلب الحدث، تسمع وترى، وقد طويت المسافات واستدار الزمن. تجد قريبًا من هذا في قصة نوح مع قومه (الآيات 25 – 48 من سورة هود) حين يبلغ الحدث ذروته، فتحسب أنك من ركاب السفينة مع نوح وهي تجري بك في موج كالجبال، وربما اشتد بك «الحضور» فهممت بأن تمد يدك إلى قمة جبل حاذاها الماء، تريد أن تلتقط الابن العاق وهو يغرب، ولكن موجة عاتية تحول دونك، فتسترجع ويسترجع نوح، فقد نهى عن ذلك من قبلك، ولا يفرخ روعك إلا بانتهاء المشهد وقيله عز وجل: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك} [هود: 49]، فتثوب إليك نفسك.
هذا لون من وجوه الإبداع الفني المعجز في القرآن، ولو كان موضوع كتابنا هو هذا الإبداع لزدناك، ولكنك تعلم منه ما أعلم، ولم أرد من هذا إلا التمثيل لأسلوب القرآن في التفسير بالسياق العام، أي التفسير بالتصوير.
والذي يجب التنبيه إليه أن التفسير القرآني لأعلامه الأعجمية، أيا كانت أداة التفسير المستخدمة، تفسير به خفاء، ليس هو خفاء التطابق بين المُفَسَّرِ والمُفَسَّرِ به، فالتطابق تام، ولكنه خفاءُ القصد، لأن النسيج القرآني نسيجٌ محكم، بالغ الإيجاز، برئ من الحشو والافتعال، كل لفظ فيه موزون بميزان، معناه مطلوب لذات معنى الآية، واللفظة أو العبارة المفسرة لمعنى الاسم العلم جزءٌ في هذا البنيان المتضام المتكامل، أو أداة لتصوير الحدث نفسه، لا لتفسير الاسم، فلا تفطن إن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/143]
كنت لا تعرف لغة الاسم العلم لوجه «التناسب» بين المفسر والمفسر به، أو لوجه المشاكلة بين هذا وذاك، كما تجد في تفسير اسم «إسحاق» بقوله عز وجل: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق} [هود: 71]، فالعبارة هنا تعطيك وقائع الحدث المروي عليك بالكلمة والصورة باختصار بليغ اقتضى من كتبة التوراة عدة أسطر، دون أن يلم «سفر التكوين» (تكوين 18/9 – 15) بكل ما ألمت به تلك الألفاظ الخمسة من سورة هود، فقد سقط منها على سبيل المثال اسم المبشر به «إسحاق» فتنتظر إلى الإصحاح 21 (2 – 5) كي تعلم أن إبراهيم هو الذي سمى ابنه «إسحاق»، وأن امرأته سارة قالت في تفسير الاسم: «قد صنع إلي الله ضحكا . كل من يسمع يضحك لي». ولكنك أمام تلك الألفاظ الخمسة في القرآن بمحضر من مشهد متكامل: ترى سارة قائمة تخدم ضيف إبراهيم، وتفهم بغير كلام أن الضيف (وهم وفد من الملائكة صلوات الله عليهم) قالوا شيئًا ما يتعلق بسارة رضي الله عنها، ضحكت له عجبا وحياء، فأعيد عليها القول، فتفهم أن الذي قالوه قد كان بشارة بالمحال وقوعه لعجوز عقيم أياستها السنون، وكأن الملائكة قالوا: «ضحكت يا أم ضحاك»، تسمية من الملائكة للمولود المبشر به، ولكنك لا تفطن لوجه التناسب بين «ضحكت» و«إسحاق»، لأنك لا تعلم أن «إسحاق» هي «ضحاك»، كما لا تفطن لوجه المشاكلة في عبارة من مثل: أحسنت يا حسن! إن قيلت لك بالإنجليزية هكذا: “Well-done, Hassan!”.
ولكن علمك بلغة الاسم العلم لا يكفي وإن كان شرطًا أول، لأن القرآن لا يفسر لك أعلامه الأعجمية بمثل تلك الصورة المباشرة الفجة: أحسنت يا حسن! فلا يقول لك مثلاً: «وامرأته قائمة فضحكت ولذا سمينا «إسحاق»، حتى يستثار فضولك إلى معرفة معنى «إسحاق» في لغة إبراهيم وسارة، ولا يقصد إلى التفسير قصدا كما فعل كتبة التوراة، فيخطئ الكاتب ويصيب، كما رأيت في تفسير اسم حواء الذي تصدى الكاتب لتفسيره فقال: «ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي» (تكوين 3/20)، يريد أن اسمها أخذ من «الحياة»: (وإن كان آدم أول الأحياء من البشر كما تعلم). القرآن لا يعلل لك تسمية إسحاق بِضَحِكِ سارة،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/144]
فضحكها واقع وقع، وجزء لا يتجزأ من صور الحدث المروي عليك، ملتحم بالمعنى العام للآية، لا حشو ولا افتعال، ولا خروج عن القصد، بل تأتي العبارة سلسلة، ويجيء «إسحاق» في موضعه، غير مقحم، فتظن أنت أن التفسير عارض عرض، بعد علمك بأن «إسحاق» هي «ضحاك»، لا مدخل له البتة في مقصود الآية، فلا تلتفت إليه.
ولكن هذا الذي لا تلتفت إليه بتواتر في كل علم أعجمي مذكور باسمه أو بكنيته في القرآن. فتتساءل أمقصود هو أم غير مقصود؟ أم أنه الإعجاز البياني الذي يؤلف بين الألفاظ والصور على هذا النسق المتناغم المتجانس لا يراد منه إلا هذا؟
وأنا لا أقول لك إن المقصود هو هذا أو ذاك، فلا يملك مخلوق تقييد مقاصد الخالق عز وجل، وإنما الذي أقوله لك هو أن لإعجاز القرآن وجوها هذا أحدها: إنه دليل العلم، ودليل القدرة.
ثمة محاذير في تفسير معنى العلم الأعجمي من القرآن وبالقرآن. وأهم هذه المحاذير ألا تقع فيما وقع فيه بعض قدامى المفسرين، كأن تقول إن «يوسف» من الأسف، معتلاً بالمشاكلة والتجاور بين اللفظين في قوله عز وجل على لسان يعقوب: {يا أسفا على يوسف} [يوسف: 84]، دون أن تمحص معنى «يوسف» من العبرية نفسها، وكأن «يوسف أصلها «يؤسف» لأن يوسف كان سببًا في أسف أبيه. هذه تخريجات لا تفيدك شيئًا، لأن «أسف» العربية ليست بالضرورة جذرًا مشتركًا بين اللغتين، بل هي بالأحرى من جذر عربي آخر لحقه القلب والإبدال: إنها في العبرية من «ضفا» العربية بمعنى نما وكثر، وهي أيضًا من ضاف / يضيف العربية بمعنى أماله إليه وضمه وأضافه، وأيضًا آواه واستضافه، وهذا كله لا صلة له بالأسف الذي تعنيه مادة «أسف» العربية.
والذي أقصده من هذا ألا تتلمس معنى العلم الأعجمي مستدلاً عليه بقرينة التجاور وحدها، فالتجاور ليس هو بالضرورة «الترادف»، وإلا خبطت خبط عشواء فظننت أن «إسحاق» بمعنى «العلم» في اللسان العبراني، مستدلاً على ذلك بتواتر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/145]
وصف «إسحاق» بالعلم في القرآن مرتين: {قالوا لا توجل * إنا نبشرك بغلام عليم} [الحجر: 53]، {فأوجس منهم خيفة * قالوا لا تخف * وبشروه بغلام عليم} [الذاريات: 28] – يريدون إسحاق. هذا عبث لا يليق ببحث جاد، ولغو لا يصح في كتاب الله عز وجل.
وإنما الصحيح أن تؤصل أولاً معنى العلم الأعجمي في لغته، ثم تتلمس هذا المعنى نفسه في الآيات من القرآن التي تتحدث عن هذا الاسم، مصرحًا به، أو مكني عنه، أو محذوفًا لدلالة السياق عليه، وأنا زعيم لك بأنك ستجد هذا المعنى في كل علم، مرة واحدة على الأقل، وهذا كاف. وحبذا لو تواتر هذا الترادف في أكثر من موضع، إذن لاستبان لك أن هذا الترادف لم يأت عَرَضا. وحبذا أيضًا لو أتيح لك ترجمة تلك الآية من القرآن إلى لغة ذلك الاسم العَلَم، كي يتجلى لك كالشمس سطوعًا تطابق اللفظين في تلك اللغة: الاسم العلم ومعناه. من ذلك قوله عز وجل: {ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه} [يوسف: 69]، وترجمتها الحرفية بالعبرية هي: «ويبؤر إل يوسف ويوسف إلاو أحيو»، ومرة أخرى في قوله عز وجل: {فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه} [يوسف: 99]، وترجمتها العبرية هي: «ويبؤر إل يوسف ويوسف إلاو أبوتاو». في الترجمة العبرية (والترجمة من عندي فلا ذكر لهذا في التوراة العبرانية) تجد لفظة «يوسف» مكررة على التلاصق – يوصف ويوسف – الأولى هي الاسم العلم يوسف عليه السلام، أما يوسف الثانية فهي فعله (ترجمة «آوى»: فلما دخلوا على يوسف آوى إليه) فتستخلص أن القرآن يدلك على معنى اسم «يوسف» عليه السلام بفعل صدر منه – الإيواء والاستضافة – كان بحق محور دوره عليه السلام في تاريخ بني إسرائيل، وكأن الاسم يلخص لك هذا الدور أصدق تلخيص: كان يوسف لبني غسرائيل في مصر نعم «الآوى – المضيف».
ولكن علماء التوراة – وعلماء العبرية أيضًا – يرون أن «يوسف» مشتق من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/146]
جذر عبري آخر هو «يسف» الذي يفيد الإضافة بمعنى الزيادة، ولا يفيد الإضافة بمعنى «الضيافة»، فهو عندهم بمعنى «يزيد»، ربما لأن أم يوسف قالت في سفر التكوين وهي تضعه إنها سمته يوسف و«يزيدها» الله ابنًا آخر. نعم، قد استجيبت دعوة راحيل فولدت ليعقوب وهي تجود بنفسها ابنًا آخر هو «بنيامين» (أي ابن اليمن والسعد)، وكأنها وهي تسمى يوسف تريد معنى يزيد. وليس لنا بالطبع – ولا لعلماء التوراة أيضًا – ادعاء العلم بمقصد راحيل رضي الله عنها من تسمية مولودها «يوسف» - إن صح أنها هي التي سمته ولم يسمه أبوه – وإنما الذي يعنينا من الاسم منطوقه ودلالته: النطق على المعنيين (يزيد، يستضيف) في العبرية واحد، ولم يتسم باسم يوسف من العبرانيين قبل يوسف بن يعقوب أحد، ودلالة الاسم على مسماه تصح بالمعنى الذي تستخلصه من القرآن (يستضيف) ولا تصح بالمعنى الذي يريده علماء التوراة (يزيد)، لأن «يوسف» لم يكن أكثر الأسباط الاثنى عشر نسلاً، ولكنه كان وحده لبني إسرائيل جميعًا الآوى المضيف، والتسمية على قصد النبوءة فاشية كما تعلم في أعلام التوراة (أو في سفر التكوين على الأقل)، لا يكاد يخلو علم من النص على أن التسمية تنظر إلى ما سوف يؤول إليه، والذي أفسر لك به اسم «يوسف» الآن مفيد لعلماء التوراة في هذا الباب، ولكنهم لم يفطنوا إليه.
والذي يعنينا في هذا المقام أن نسجل للقرآن هذه الأستاذية السامقة في فقه اللغة العبرية، فيستخلص «الإيواء» من يوسف التي تفيد أيضًا «يزيد»، فيصيب المنطوق والمعنى كما يصيب الدلالة التاريخية ليوسف في بني إسرائيل، وسبحان العليم الخبير. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله عند تحليل اسم يوسف في موضعه.
ويعنينا أيضًا في هذا المقام التنبيه على محذور ثان، وهو فرط الوثوق بما ورد في نصوص التوراة من تفاسير تبرر التسمية، فليست هذه التبريرات جزءًا من وحي الله على رسله، وإنما هي اجتهادات الكابت الذي يخطئ ويصيب. بعض هذه الاجتهادات متناقض مع نحو اللغة، فتحيل على الله عز وجل أن يكون هو الموحي،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/147]
وبعض حشو مقحم يتعالم به الكاتب فيزل القلم، ويفتضح الجهل. من ذلك ما تقرؤه في سفر التكوين (تكوين 11/1-9) من تفسير الكاتب لاسم مدينة «بابل» فيقول على لسان الله عز وجل: «وقال الرب هو ذا شعبٌ واحد ولسانٌ واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دُعِي اسمها بابل. لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض. ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض». تصدى الكاتب هنا لما لا يعرف فتردى في أخطاء جسيمة لا تصح من كاتب وحي: أخطأ في حق التاريخ، فظن أن أهل بابل كفوا عن بناء المدينة فلم يكتمل بناؤها، والواقع التاريخي أنها بنيت وحسن بناؤها، بل وكانت من أعظم مدائن التاريخ. وأراد تفسير ظاهرة اختلاف لغات البشر، فوقع في خطأ علمي بين، لأن الناس لا تتباين ألسنتهم فيتفرقون، وإنما يتفرقون فتتباين الألسنة. ولم يكتف بهذا بل افترى على الله عز وجل الغيرة من عباده الذين أتقنوا الصنعة، فبدد شملهم كيلا يتموا ما بدأوه، كما افترى على الله من قبل (تكوين 3/22 – 24) الخشية من أن يغافله آدم، الذي «صار كواحد منا عارفًا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا (بعد أن أكل من شجرة المعرفة) ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها. فطرد آدم وأقام شرقي جنة عدم الكروييم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة». وهذا كله أدخل في باب الأساطير والقصص الشعبي، لا يصح في جنب الله عز وجل، فتقطع بأن هذا النص من عند غير الله، لا يلزمك. أما خطأ الكاتب في جنب اللغة، فقد توهم أن «بابل» من البلبلة، فبنى على هذا الوهم كل ما سبق. والصحيح أن «بابل» لفظة أكادية (أي بابلية – أشورية) أصلها «باب + ايلو» تحورت في الآرامية إلى «باب + ايل»، أي «باب الله»، وظنها الكاتب العبراني من الجذر العبري «بَلَلْ» بمعنى خلط واختلط،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/148]
ضعف كما في «زل»، «زلزل» العربية، فصار «بلبل»، ولكن كيف تأتي «بابل» من «بلبل»؟ لا يستقيم هذا بالطبع في نحو اللغة، فيضطر علماء العبرية رغمًا عنهم من بعد هذا الكاتب إلى افتراض ما لا يصح افتراضه، وهو أن بابل كان أصلها بَلْبِلْ! كل هذا ولا يتوقف أحد ليتساءل: ولماذا يستعير البابليون اسمًا من العبرانية لمدينتهم؟
عليك أن تكون من هذه التخريجات وأمثالها على حذر، فليست لها حجية النصوص الموحي بها. تقطع بهذا آمنا مطمئنًا، لأن نسبة الخطأ إلى الله عز وجل لا تصح. بل ينبغي لك أن تؤصل معنى العلم الأعجمي في لغة صاحبه غير متأثر بتفاسير ساذجة أو مغرضة، كما رأيت من قبل في اختراع قصة زنى لوط بابنتيه ليكون لهما نسل من ماء الأب (مو + آب) فيكون منه الموآبيون، تشنيعًا على قبائل الموآبيين بعد أن قهروا بني إسرائيل، رغم أن الموآبيين أسبق وجودًا على الأرض من لوط وابنتيه. أو بتفاسير أملتها العقيدة من بعد، كما تقرأ في إنجيل متى (متى 1/21 -23): «فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابنا يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا». فتفهم أن الكاتب يفسر لك هذا الاسم العبراني «يشوع» بأن معناه «المخلص»، بل هذا هو ما تصر عليه كل المعاجم المسيحية، رغم تصادم الترجمة مع منطق اللغة العبرية، ولكنهم يقولون لك إن أصلها «يهى – يهى شوع» اختزلت إلى «يشوع»، فلا تفهم لماذا وكيف، ولا تفهم لماذا يتفرد عيسى عليه السلام بهذا التفسير المفتعل من دون كل «يشوع» قبله في بني إسرائيل وقد تسمى به كثيرون، ولا تفهم أيضًا لماذا يستدل متى بنبوءة النبي القائل بأن العذراء تحبل وتلد ابنا يدعون اسمه «عمانوئيل» (الله معنا) وهو ينص في العبارة السابقة على أن اسم المولود سيكون «يسوع»، وقد كذبت النبوءة بهذا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/149]
المفهوم، لأن ابن مريم عليهما السلام دُعي بالفعل يسوع، ولم يدع عمانوئيل. أيريد «متى» أن يعرض بأن هذا المولود هو «الله»، صار جسدًا وحل «بيننا» كما قال يوحنا في إنجيله (يوحنا 1/14)؟ وإذا كان هو الله فكيف «يخلص شعبه» كما قال متى آنفًا؟ أفلله شعب يختص به من دون البشر؟ إن صح هذا في عقيدة اليهود (شعب الله المختار) فهو لا يصح البتة في دين المسيح عليه السلام، الذي شدد النكير على دعوى اختصاص «أبناء إبراهيم» بالخلاص، فقال إن الله عز وجل قادر على أن يخلق من الحجارة أبناء لإبراهيم، ولكن «متى» كما تعلم يهودى تنصر. إلى هذا ومثله يفضي التفسير بالهوى والتفسير بالعقيدة، أو التفسير بغير علم، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله عند تحليل اسم عيسى عليه السلام في موضعه.
أما المحذور الثالث، فهو أن تظن أن أعلام التوراة والإنجيل جميعًا أعلام ع برانية، تفسر بالعبرية وحدها، غير ملتفت إلى الإطار الجغرافي التاريخي لصاحب الاسم العلم. فأنت لا تتصور مثلاً أن يلتقط آل فرعون موسى من اليم، ثم يتكلفون تسميته تسمية عبرانية «موشيه» بمعنى «اللقيط» (أو الممسو من الماء) وإنما المنطقي أن يتحدث آل فرعون فيما بينهم بالمصرية القديمة، فيسمون الذي عثروا عليه في التابوت باسم مشتق من لغتهم هم، ولا ينتظرون حتى تسميه أخته «التي قصته»، أو أمه التي صارت مرضعًا له. ولا تظن أيضًا أن أم موسى رضي الله عنها ألهمت تسميته «موشيه» يوم وضعته أو يوم قذفت به في اليم، تفاؤلاً بما سيكون من أمر التقاطه من الماء، لو صح هذا لما أخطأت التسمية، ولما قالت «موشيه» على الفاعلية (أي الماسي)، بل لقالت «ماشوى» على المفعولية (أي الممسو)، كي لا يحار من بعدها علماء العبرية في تعليل سبب التسمية على زنة الفاعل، لا على زنة المفعول، عليك إذن أن تلتمس للفظ «موسى» معناه في لغة «آل فرعون»، وستجد أن أصله «مسو» ومعناها «وليد». وسيأتي.
من ذلك أيضًا اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، تجدها في أصول الأناجيل اليونانية مرسومة MARIAM بفتح الميم والياء (أي بنفس نطقها في القرآن). كما تجدها أيضًا في تلك الأناجيل اليونانية مرسومة أحيانًا MARIA «ماريا» محذوفة الميم في آخرها، على غير علة من «الإعراب» في اللغة اليونانية. ولكن أحدًا لم يتوقف ليتساءل لماذا فتح كتبة الأناجيل اليونانية «ميم» مريم ولم يكسروها كما في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/150]
«مريام» أخت موسى عليه السلام، بل أجمعوا على أن مريم أم عيسى عليهما السلام سمية «مريام» أخت موسى (مكسورة الميم) التي يفسرونها في العبرية من «التمري»، «الامتراء». بل ذهب أدعياء الاستشراق إلى أن القرآن، بقوله في سورة مريم: {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} [مريم: 27، 28]، يخلط بين مريم أم عيسى ومريام أخت موسى وهارون، بدلالة تقريعهم إياها في القرآن بعبارة: «يا أخت هارون»، أي ما كان يليق بك هذا وأنت من أنت، أخت هارون! وسيأتي تفنيد هذا في موضعه إن شاء الله عند تحليل اسم مريم عليها السلام. ولكن أحدًا لم يلتفت إلى أن «الجليل»، موطن مريم عليها السلام شمالي فلسطين، لم يكن عصر المسيح وقبله بثلاثة قرون على الأقل يتكلم العبرية، بل كانت اللغة الفاشية على ألسنة الناس هي «الآرامية»، بعد أن توارت عبرية التوراة في كل فلسطين منذ القرن الخامس قبل الميلاد، فلا تسمع إلا من حبر أو «رباني» (وهي «ربوني» كما تقول الأناجيل) يقرأ من التوراة فلا يفهم منه إلا أن يفسر ما يقرؤه. وقد مر بك أن إصحاحات كاملة من سفر «عزرا» (القرن الخامس قبل الميلاد) كُتبت بالآرامية مباشرة، كما تقرأ في سفر «نحميا» (معاصر عزرا) ما يلي: «وقرأوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسروا المعنى وافهموهم القراءة» (نحميا 8/8). وبهذه الآرامية نفسها كان كلام المسيح عليه السلام مع عشيرته وحوارييه. ولا بد أن تتوقع لهذه الآرامية تأثيرًا في نطق الأسماء الأعلام، بل وفي صياغة الأسماء الأعلام، على الأقل بالنسبة لأعلام المسيحية الواردة في الأناجيل، فلا تستبعد أن «تبتكر» في بني إسرائيل عصر غلبة الآرامية على ألسنة الناس، أعلام آرامية التركيب والصياغة يستشكل تفسيرها بالعبرية، ولا يفهم معناها إلا أن ترد إلى الآرامية التي اشتقت منها. من ذلك اسم «مريم» بفتح الميم البادئة لا يصح أن تكون هي «مريام» العبرية مكسورة الميم البادئة، ممدودة الياء، إلا إذا خطأت كتبة الأناجيل اليونانية في رسمها مفتوحة الميم، والإنصاف يقتضي منك – وتوجب نزاهة البحث عليك – ألا تبادر إلى تخطئة كتبة الأناجيل في «تهجئة» الأسماء الأعلام خاصة، قبل أن تلتمس لهم العلة، فقد كانوا – ومنهم خلصاء المسيح وحواريوه – ينطقون تلك الأعلام على الوجه الذي به كتبت، لا سيما والخط اليوناني لا يحتاج إلى الشكل والنقط، بل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/151]
تكتب «مريم» مثلاً: ما – ري – ام MARIAM، لا شبهة في فتح ميمها البادئة. فهي إذن غير «مريام» MIRIAM العبرية، أخت موسى وهارون، من المراء والمرية. ولا يجوز أيضًا افتراض جواز كسر الميم وفتحها في «مريام» العبرية، لأن هذا غير جائز في نحو تلك اللغة. ولا يصح افتراض أنهم «لحنوا» في نطق «مريام» العبرية بتأثير «آرامي» لأن الآرامية لا تفتح مكسورًا في العبرية، وغلا لفتحوا ياء «يشوع» اسم المسيح عليه السلام، وهو اسم عبري خالص، تسمى به قبله في بني إسرائيل أعداد لا تحصى. وإنما الذي يصح منك هو افتراض آرامية اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، لا شأن لك بمريام أخت موسى وهارون.
ونحن في هذا البحث نفترض آرامية اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، مفتوح الميم، لأنه لا يصح لدينا وجه في تفسير معناه إلا بافتراض آراميته. وهو عندنا اسم مزجي، مركب من عنصرين آراميين: «ماري + أما»، سهلت همزته، ثم رخم، فأصبح «ماري + م»، أي «مريم» (قارن «فاطمة» العربية التي ترخم «فاطم»). أما «ماري» فمعناها بالآرامية «الرب»، أو «رب» على النداء والمناجاة والابتهال، أما «أم» الآرامية فهي نفسها «أمة» العربية، مؤنث العبد، فهي عليها السلام «أمة الرب». والذي يستوقف النظر أنها عليها السلام فسرت اسمها بهذا المعنى نفسه فيما يرويه على لسانها لوقا في إنجيله، ولم يفطن إليه من قارئ هذا الإنجيل أحد: «فقالت مريم هو ذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك. فمضى من عندها الملاك» (لوقا 1/38)، ولو ترجمت عبارة «أنا أمة الرب» إلى الآرامية، لغة مريم وعشيرتها، لجاز لك أن تقول باللسان الآرامي: أنا لـ «ماري» أما، أي أنا للرب أمة. أما القرآن فيقول: «يا مريم اقنتي لربك» ومعنى القنوت في العربية كما يقول معجمك العربي هو «الإقرار بالعبودية لله»، كما تقرأ في القرآن في مناسبة تسمية مريم قوله عز وجل: {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى * والله أعلم بما وضعت * وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/152]
ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا} [آل عمران: 36 – 37]. كانت أم مريم رضي الله عنهما في الآية 35 من سورة آل عمران قد نذرت ما في بطنها للرب محررًا، أي خالصًا لعبادته عز وجل، أي للخدمة في المعبد، عابدًا متحنفًا، وكانت ترجوه ذكرًا تهبه لله، وسألته عز وجل أن «يتقبل منها». وتنبئك الآيتان 36، 37 بأن المولود جاء أنثى على خلاف رجائها فخشيت ألا يصح نذرها بأنثى فقالت «رب إني وضعتها أنثى»، وكأنها حين فوجئت قالت: «أمة يا رب أمة!»، وهي بالآرامية: «ماري! أما!»، ولكن العالم بما وضعت تقبلها بقبول حسن، فهو عز وجل هكذا أراد وقدر، ليخرج منها «علم للساعة»، عيسى عليه السلام، المولود لغير أب، مولودًا من عذراء، لا تزن بريبة، كما قال عز وجل: {يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك * واصطفاك على نساء العالمين} [آل عمران: 42].
أظنك أيها القارئ العزيز قد تهيأت الآن لمصاحبتي فيما بقى من فصول هذا الكتاب، لنحلل معًا العلم الأعجمي في القرآن، علمًا علمًا: معناه في لغة أصحابه، قول مفسري القرآن فيه (إن وجد)، تفسيره من القرآن بالقرآن، وهو المقصد النهائي لهذا الكتاب الذي نكتب.
أما من حيث ترتيب تناولنا لتلك الأسماء الأعلام علمًا علمًا، فقد كانت أمامنا خيارات ثلاثة:
الخيار الأول: أن نتناولها بترتيب «ألفبائي»، أي بترتيب أوائلها على حروف المجم العربي، فنبدأ بإبراهيم وننتهي بيحيى عليهما السلام مُراعين ذات الترتيب في أحرف الاسم التالية للحرف الأول، فيجيء بعد إبراهيم «إبليس» وبعد «إبليس» آدم، وبعد آدم «آزر»، إلخ.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/153]
الخيار الثاني: وهو تناول الأعلام بترتيب نوعها، كأن نبدأ بأعلام الذات، ونثني بأعلام الجنس، وننتهي بأعلام الموضع.
الخيار الثالث: وهو تناول تلك الأعلام بترتيبها التاريخي، فنبدأ بالملائكة وآدم، وننتهي بعيسى ابن مريم، صلوات الله وسلامه على ملائكته ورسله وأنبيائه، غير مفرقين بين علم الذات وعلم الجنس وعلم الموضع، بل يجيء كل في إطاره، فتجيء مثلاً التوراة ومصر مع موسى، ويجيء هود مع عاد، وثمود مع صالح، وشعيب مع مدين والجودي مع نوح، والإنجيل مع المسيح ابن مريم.
وقد آثرنا في هذا الكتاب الأخذ بالخيار الثالث الذي يتناول الأسماء الأعلام بترتيبها التاريخي، لأن الخيار الأول – الألفبائي – وإن كان ييسر رجوع القارئ إلى الاسم العلم بترتيبه «المفهرس»، يعيبه أن ترتيب الأسماء الأعلام ترتيبًا أصم على حروف المعجم يقتطعها من إطارها الجغرافي – التاريخي – اللغوي، فتجيء توراة موسى العبرانية بعد إنجيل عيسى الآرامي اليوناني، ويجيء عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل قبل نوح خليفة آدم، بل وقبل أمه مريم رضي الله عنها. أما الخيار الثاني الذي يفصل بين علم الذات وعلم الجنس وعلم الموضع، فيعيبه أنه يقطع مثلاً ما بين الإنجيل وصاحبه، وبين مدين ورسولهم، وبين فرعون ومصر.
أما الخيار الثالث، الذي يحترم وحدة الأرض والتاريخ واللغة، ويراعي التسلسل التاريخي للأسماء الأعلام، فهو في رأينا أفضل الخيارات الثلاثة جميعًا، لأنه يضع الاسم العلم على أرضه، وبين معاصريه، حيًا مشخصًا، يفسر بعضه بعضًا. وهو النهج الذي نلتزمه في أغراض هذا البحث.
أما «الترتيب التاريخي» فنحن نستدل عليه من القرآن حين ينص القرآن عليه، ضاربين صفحا عما سواه، وإن خالفه وتعارض معه، ونستدل عليه من «التوراة» حين لا ينص عليه القرآن. أما أعلام الإنجيل الخمسة التي يتناولها البحث «زكريا – يحيى – عمران – مريم – عيسى، فترتيبهم التاريخي منصوص عليه في القرآن، الواحد بعد الآخر، ترتيبًا يتفق فيه الإنجيل مع القرآن.
ولأن الملائكة رضوان الله عليهم الذين يتناولهم هذا البحث: جبريل وميكال
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/154]
ومالك وهاروت وماروت، هم خارج الزمان والمكان، وكذلك «الفردوس»، «عدن»، «جهنم»، «إبليس»، فسوف نفتتح بحثنا بفصل يتناول هذه الأعلام التسعة مع «آدم» عليه السلام.
ولأنه ليس في القرآن – ما بين آدم إلى نوح – أعلام، باستثناء «إدريس» عليه السلام، الذي اختلف المفسرون في ترتيبه التاريخي على عمود الأنبياء، أهو قبل نوح أم بعده، وإن كانت الكثرة على أنه قبل نوح، فنحن نلحقه أيضًا بالفصل الذي يتحدث عن «آدم»، لا على وجه التسليم لرأي الجمهور، وإنما استدلالاً عليه باسمه في التوراة، لأن «إدريس» في رأينا ترجمة قرآنية دقيقة للفظة «أخنوخ»، جد «لامك» أبى نوح، و«أخنوخ» أصلها العبراني «حنوك» (التي تنطق كافها خاءً لاعتلال ما قبلها)، ومعناها «المحنك» المحنوك، وسيأتي.
أما باقي الأعلام من نوح إلى عيسى عليهما السلام، فتجيء موزعة على خمسة فصول، بترتيبها التاريخي.
وكما لعلك حدست، سيأتي تفسير أعلام الجنس وأعلام الموضع في سياقها المناسب، أي في سياق تفسير أعلام الذوات المتصلة بها.
والله سبحانه ولي التوفيق.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1 / 139-155]