(4) تاريخ كتابة التوراة والإنجيل وبيان حفظ الله للقرآن وهيمنته على الكتب السابقة:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (4)
مر بك أننا نكتفي في هذا الكتاب بتفسير العلم الأعجمي في القرآن، لا نتجاوزه إلى أعجميه المعنوي – إن سلمت بوجوده – لأن مقصد الكتاب هو استجلاء إعجاز القرآن في تفسير المختلف فيه، الذي لا علم للعرب بمعناه، لا الأعجمي المعنوي الذي عربوه من قبل وتكلموا به.
أما لب هذا الوجه من إعجاز القرآن، فمداره أيضًا على «العلم»: القرآن يعلم علماء التوراة والإنجيل، أحبار الآرامية والعبرية على عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي كل عصر، السابق واللاحق، والخائضين في أسرار اللغة المصرية القديمة منذ القرن الماضي فحسب، علم ما لم يعلموه، أو ترددوا فيه، جهلوه أو أنسوه.
ولعلك تذكر أن كفار قريش وأهل الكتاب في يثرب ونجران، شأنهم شأن أدعياء الاستشراق في هذا العصر، اتهموا القرآن بالأخذ من الكتب السابقة، وبالنقل عن الأحبار والرهبان، من يهود ونصارى. قالوا حين يتفق القرآن مع التوراة والإنجيل: سمع فأدى، ما أحفظه وما أوعاه! وقالوا عكس هذا تمامًا حين يعارض القرآن كتبهم التي بين أيديهم: تشوشت في ذهنه الأمور، واختلطت الرؤى والأحلام، وتحرفت عليه الوقائع والمواقع والأعلام فما «آزر» هذا الذي يسميه أبا لإبراهيم وهو «تارح»؟ أليس قد تحرف عليه اسم «لعازر» خادم إبراهيم فظنه أباه؟ وما «طالوت» تلك التي يسمى بها «شاءول» ملك بني إسرائيل؟ وما «مريم» أخت موسى وهارون التي يخلط بينها وبين «مريم» أم عيسى؟ أين ذهبت حافظته؟ أين إتقانه؟ وما شأن ذلك السامري الذي صنع العجل من ذهب لبني إسرائيل في التيه؟ ألم يلقنه الأحبار أن الذي صنع العجل هارون؟ وما باله ينكر الصلب على «عيسى» ويثبت تشريف الله إياه برفعه إليه؟ أغاية همه تبرئة الطبقة التي ينتسب إليها – الأنبياء
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 100]
بزعمه – من الدنية والنقيصة، كما فعل في «سليمان» الذي أسجدته زوجته الوثنية للصنم فسجد، وأبى عليه هو ذلك، فقال في «قرآنه»: «وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا»؟ إلى آخر ما قالوه، فخبوا وأوضعوا.
ولعلك تذكر أيضًا رد القرآن على هؤلاء الخائنين أنفسهم: جادلهم في دعوى النقل بمحض عربية القرآن، الذي تحدى العرب أنفسهم أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله، فكيف بعي أعجمي يلقنه إياه؟
ولعلك تعلم أيضًا أن التوراة والإنجيل لم يترجما إلى العربية إلا بعد قرون من نزول القرآن، فمن أين أوتي العلم بهما؟ بل وما كان يقرأ قبله من كتاب؟
ومن أين له العلم بالعبرية واليونانية وهو يلحن في أسماء الأعلام ويخلط بين خادم إبراهيم وأبيه؟ كيف يسمعها «لعازر» وتتحرف عليه إلى «آزر»؟ أثمة عربي لا يحسن نطق العين، أم إنجليزي هو أو فرنس، تتحرف عليه «لعازر» على «لازار»؟
والقرآن لا يلتفت إلى هذا الهراء، ولكنه صفع المكابر المتعنت المتعالم بالقاطعة الباترة من قوله عز وجل: {فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم * والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [آل عمران: 66].
وقد كان من بين الذي علمه الله ولم يعلموه، «آزر» هذه نفسها التي يحاجون بها القرآن، كما سترى.
أما الذي لا يعلمه كثيرون، فهو أن علماء الآرامية والعبرية الذين عابوا «آزر» على القرآن، لا يعرفون إلى اليوم معنى «تارح» اسم أبي إبراهيم في التوراة،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 101]
لا يهتدون إلى الجذر المشتق منه في الآرامية والعبرية، ولا يتفقون على معنى «إسرائيل»، شهرة يعقوب عليه السلام، ويسيئون فهم معنى اسم «موسى» عليه السلام بإصرارهم على تفسيره بالعبرية «موشيه» على زنة الفاعل في العبرية من «مشا» (ومقابلها في العربية مسا/ يمسو بمعنى سل أي أخرج، ومنه مسا الناقة يعني أخرج الولد من بطنها ميتا) فيخطئون النحو العبري، لأن مرادهم من التسمية أنه «الممسو» (من الماء، إشارة على التقاط آل فرعون إياه من اليم) لا «الماسي» (والماسي هو فرعون وآله لا موسى)، والتسمية بالفاعل على قصد المفعول غير واردة في العبرية، فالتفسير مفتعل. وهم أيضًا لا يقطعون برأي في معنى «هارون» (أهارون في العبرية) اسم أخي موسى عليهما السلام، هل هو من الخفة والنشاط (من الجذر «أرَنْ») أم هو من العلو والاستكبار والنفج (من الجذر «يهر»)، إلى آخر ما نعرض له فيما يلي من فصول هذا الكتاب، استكشافًا لمعنى العلم العبراني في القرآن.
والذي يجب أن تعرفه أيضًا، وبالأخص، أن أقدم نسخة للتوراة التي بين يديك لم تكتب على عصر موسى وخلفائه، ولم تكتب على عصر داود وسليمان، وإنما كتبت «من الذاكرة» بعد هدم الهيكل وعودة اليهود من سبى بابل. وأيا ما قلت في أمانة الكاتب وحفظه وتقواه، فأنت لا تحيل عليه الخطأ في الحرف والكلمة: آية ذلك ما تجده في حواشي التوراة العبرانية تعليقًا على صحة النطق في بعض الكلمات بعبارة: «كثيف ...: قرى ...» (أي كتبت كذا وتقرا كذا). ومن ذلك أيضًا التردد في هجاء بعض الأعلام، من مثل «يوسف»، التي كتبت «يهوسف» مرة واحدة لم يعلق عليها أحد.
والذي يجب أن تعرفه أيضًا أن النص العبراني للتوراة التي بين يديك، والذي مر بك أنه مستنسخ من الذاكرة إثر عودة بني إسرائيل من سبى بابل بعد حوالي ثمانية قرون من وفاة موسى عليه السلام، ظل أيضًا نصا غير معجم، أي غير مقيد بالشكل والنقط، يلحن فيه قارئه، مثقفًا وغير مثقف، لا سيما بعد تراجع
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 102]
العبرية على الألسنة وحلول الآرامية محلها في ربوع فلسطين منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تصدى لتحقيق النص بالنقط والشكل والتعليق على صحة النطق، في مدى ثمانية قرون، من القرن الثاني الميلادي إلى القرن العاشر، طائفة يدعون «بعلى ماسوار» أي «أهل الأثر»، حفاظ المأثور المتلقن.
ولك أن تتصور ماذا يمكن أن يحدث لنص أعيدت كتابته من الذاكرة بعد وفاة موسى عليه السلام بحوالي ثمانية قرون، غير مضبوط بالشكل والنقط، وظل كذلك، إلى القرن الثاني لميلاد المسيح، واستغرق «تحقيقه» بالشكل والنقط والتعقيب ثمانية قرون أخرى فما اكتمل إلا في القرن العاشر الميلادي.
هذا وذاك يقوي لديك شبهة وقوع الإضافة والحذف في النص الذي بين يديك. أما الحذف، فهذا ما لا سبيل لك اليوم إلى إثباته. وأما الإضافة، فإثباتها هين بين، تحفظ المسيحيون من قبل على بعضها بالنسبة إلى أسفار برمتها سموها «أبوكريفا» أي المنحولة، وتستطيع أنت التحفظ على كثير مما تضمنه صلب أسفار موسى الخمسة نفسها من سفاسف وشناعات لا يقبل ورودها في نص إلهي مقدس، ليس أشنعها زنى بنتي لوط بأبيهما ليكون له منهما «نسل» كما مر بك. وهو يقوي لديك أيضًا شبهة صرف النص في بعض مواضعه – بمجرد النقط والشكل – عن أصل معناه. وهو يقوي لديك أخيرًا – وهنا بيت القصيد في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب – احتمال وقوع التحريف في نطق الأسماء الأعلام.
وتستطيع أن تقول الشيء نفسه – أو قريبًا منه – في الأناجيل الأربعة المتداولة، التي لم يخطها عيسى عليه السلام بيده، كما خط موسى عليه السلام بإزميله في الألواح، لولا أن أصحاب هذه الأناجيل لا ينسبونها ابتداء إليه، أي إلى عيسى عليه السلام: لم يُمْلِها عليهم، ولم يراجعوها عليه، وإنما هم ينسبونها إلى ذات أنفسهم، كتبوها من الذاكرة أيضًا بعدما تمادت بهم السن. أو كتبها آخذون عنهم لم يروا المسيح ولم يسمعوا منه. وهؤلاء وأولئك لم يكتبوا ما نطق به المسيح بلغته (الآرامية – العبرية) وإنما ترجموا ما وعوه إلى لغة ليسوا من أهلها (اليونانية)، لا تستثنى «لوقا» الطبيب اليوناني، لأنه بنى إنجيله على ما سمعه منهم مترجمًا إلى اليونانية من قبل. وهذا يفسر لك بعض أخطائهم في الترجمة، سواء في ترجمة ما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 103]
استشهدوا به من التوراة العبرية في الأناجيل اليونانية، أو في اختيار اللفظ اليوناني المناسب للمقابل العبري أو الآرامي: ظنوا «باتر» Pater اليونانية (أي «الأب» الوالد لا غير) تصلح ترجمة للفظة «آب» العبرية – الآرامية حيثما وردت، على بَوْنِ ما بينهما في مجاز اللغات السامية ومنه معنى الفاطر المنشيء البارىء. وظنوا باسيليا Basileia اليونانية (وهي المُلك والمملكة) تصلح دائمًا أبدًا لترجمة اللفظين العبرين الآراميين «مَلْخُوت» و«مَلَخُوت» على السواء، الأولى بمعنى الملك والملكوت، والثانية بمعنى الرسالة والرسول (على ما مر بك في مقابلهما العربي)، فيتجافى بك المنطق أن تفهم عبارة من مثل: «من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم» (متى 13/19)، إلا أن يكون أصلُها: «من يسمع كلام الرسول». أو مثل عبارة: «فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السموات! ليتقدس اسمك! ليأت ملكوتك» (متى 6/9 و 10) التي تقرؤها فيأخذك العجب: وهل ملكوت الله عز وجل إلا حاضر في كل آن؟ أليس قد قال عليه السلام في تلك الأناجيل نفسها: «ملكوت الله فيكم» (لوقا 17/21) يعني نفسه، أي الرسول والرسالة؟ إذن فما معنى طلبهم في صلواتهم: «ليأت ملكوتك!»؟ أليس الأرجح أن يكون معناها: «ليأت رسولك!»؟ يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، الذي بشر به عيسى عليه السلام مصداقًا لما جاء في القرآن على لسانه: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]. نعم، قد استفاد من هذا – وغيره كثير – بطاركة يونانيو اللسان ذهبوا إلى «مجمع نيقية» عام 325م لإقرار ألوهية المسيح، على نحو ما تعرف من عقيدة التثليث، أو «الثلاثة في واحد»، التي يدين بها المسيحيون إلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 104]
اليوم، ولكنه وضع مترجمي الأناجيل إلى مختلف اللغات، ومنها العربية بالطبع، ناهيك بالمفسرين، في عسر شديد. من ذلك عبارة «وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله» (مرقس 1/14) وأصل عبارة «يكرز ببشارة ملكوت» في إنجيل مرقس اليوناني Kerusson to euaggelion tou theou ومعناها بنفس ترتيبها اليوناني «مبشرا بإنجيل الله»، ليس فيها «ملكوت»، وليس فيها أيضًا «بشارة»: أضاف المترجم «ملكوت» من عنده ليمنع إضافة البشارة إلى الله، وترجم euaggelion (وتنطق إيفانجليون) إلى «بشارة». أما «يكرز» في النص العربي فليست عربية (وبمعنى أدق ليست هي يكرز العربية بمعنى يلجأ ويعتصم)، وليست هي أيضًا عبرية، بل ليست سامية، وإنما هي آرامية منحولة عن الفارسية، التي جاءت منها Kerussein اليونانية بمعنى يعلن ويبشر (قارن herald الإنجليزية)، ولكن المترجم العربي اضطر إلى استعمال تلك اللفظة الآرامية المنحولة كراهية التكرار في النص العربي، كأن يقول «يبشر ببشارة» وهو ممجوج ... العبارة إذن في النص اليوناني ليست «يكرز ببشارة ملكوت الله» وإنما هي ببساطة «يبشر بإنجيل الله». ولكن إضافة الإنجيل إلى الله تسبب مشاكل لا تخفى، إذ ما هي تلك البشارة التي هي لله؟ إنها الإنجيل نفسه، أي «إيفانجليون» اليونانية، التي يفسرونها بالخبر السار، أو البشارة. ومن قال (eu) + angelion اليونانية تعني الخبر السار؟ أليس «أنجليون» angelion اليونانية معناها الرسالة والرسول مثلها مثل «ملآخوت» الآرامية – العبرية، ومنها «أنجلوس» angelos يعني المَلَك، أي الرسول؟ إلا إذا ظننت أن اليونان يسمون المَلَك «أنجلوس» angelos يعني المَلَك، أي الرسول إلا إذا ظننت أن اليونان يسمون المَلَك «المُخْبِر»، وهذا غير صحيح بالطبع. ومن قال إن المقطع اليوناني eu يعني «السار» ليس له بالسرور أدنى صلة، وإنما معناها حين تكون بادئة في الكلمة، «المرضى المحمود»، كما في (eu) legein اليونانية، بمعنى حمده وأثنى عليه. ولو ترجمت «إيفانجليون» اليونانية إلى العبرية (وأنت تعلم أن أنجليون تعني الرسالة) لقلت «ملآخوت حمد». أفيكون المعنى «رسالة أحمد»؟ ربما.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 105]
ليس لديك الدليل في هذه أو في غيرها: ليس لديك النص الأصلي لأقوال المسيح عليه السلام بلغته ولغة قومه (العبرية – الآرامية). وإنما لديك ترجمة يونانية لعبارات ربما قالها عليه السلام، ولكنك لا تقطع بصحة الترجمة إلا أن تطابقها على الأصل العبري – الآرامي، وهو غير موجود للأسف. ومهما سلمت بأن رسل الله جميعًا قادرون على الحديث بكل لغة يلهمون الحديث بها، فأنت تحيل على المسيح عليه السلام أن يتحدث مع المرسل إليهم وإلى أهله وعشيرته وحوارييه بلغة يونانية لا يفهمونها، لا سيما حين يتحدث في صُلب الرسالة والعقيدة. من ذلك حديثه عليه السلام عن الذي يأتي بعده، الذي إن لم يذهب، لا يجيء. أعني «الفرقليط» (Parakletos في الأناجيل اليونانية) غير الموجودة أصلاً في لغة اليونان قبل عصر المسيح، والتي حار في فهمها تراجمةُ الأناجيل إلى مختلف اللغات، هل هي المعزى أم الناصر أم الشفيع أم المحامي. والأصوب أن يقال إنها عبرية آرامية، تركت في إنجيل يوحنا اليوناني على أصلها، بعد تهذيبها إلى صورتها اليونانية Parakletos نحوا ونطقا: إنها إذن اسم مزجي مركب «فرق + ليط» (التي تنطق فاؤها البادئة في العبرية – الآرامية باء ثقيلة «P» كما مر بك) فهي «برقليط» آراميا وعبريًا. الشق الأول «فرق» جذر آرامي – عبري بمعنى حط عنه ووضع، أي حط عنه الذنب أو الخطيئة (قارن «فرك» العربي بمعنى حكه ليزيل عنه وسخًا علق به). والشق الثاني من الجذر العبري الآرامي «لاط / يلوط» بمعنى ستره وحجبه وغطاه (قارن «لاط/ يلوط»، «لط/ يلُط» العربيتين بمعنى ستره وأخفاه)، أو هي بمعنى لزق به وعلق (وهي «لط» العربية أيضًا) كما يعلق الذنب وتعلق الخطيئة. الشق الأول «برق» ينطق «بارق» (بإطالة مد كسرة الراء) زنة الفاعل آراميا من «برق»، فهو الحاط الواضع الكاشف، والشق الثاني «لاط» ينطق «لايط» (بإطالة مد كسرة الياء)، زنة الفاعل آراميا أيضًا من «لاط». فهو في الأصل «بارق + لايط، يعني «كاشف الحجاب» أي «كاشف الغشاوة» (والكاشف من أسمائه صلى الله عليه وسلم)، أو هو «واضع الذنب والإصر»، ولكن المزجية أحالت النطق إلى «برقليط» (مدًا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 106]
بالكسر لا بالياء). يقوي هذا الفهم بشاهد من أهلها وجود «برقليط» هذه (مدًا بالياء لا بالكسر) في العبرية المعاصرة بمعنى المحامي الذي يقف إلى جانبك يحاول «إسقاط» التهمة عنك، والتهمة هي مظنة الخطأ والذنب. «الفرقليط» إذن هو «واضع الإصر» أي محمدٌ صلى الله عليه وسلم: {الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] والإصر من معانيه «الذنب» كما تقرأ في تفسير القرطبي رحمه الله.
وتستطيع أن تقول الشيء نفسه في لفظة «إنجيل». لم لا تكون آرامية – عبرية في أصلها؟ أليست اسمًا علمًا على الكتاب المنزل على عيسى عليه السلام؟ أفيحتاج المسيح إلى تسميته باليونانية «إيفانجليون» على معنى البشارة ولديه في لغته المقابل العبري «بسورا» وإذا افترضت أن أصحاب الأناجيل اليونانية ترجموا «بسورا» العبرية إلى اليونانية «إيفانجليون» التي لم ينطق بها اليونان قبل عصر المسيح، أما كان أمامهم في اليونانية لفظ يفيد معنى «البشارة» سوى ذاك اللفظ المركب (eu) + angelion أليس في اليونانية الفعل «كروسين» بمعنى يعلن ويبشر (herald الإنجليزية) المنقول في اليونانية الكنسية إلى معنى «يعظ« و«يدعو»، منعًا للخلط بين «الكرازة» والبشارة، وهما واحد.
تستطيع أن تقول هذا أو بعضه، ولكننا لا نستطرد بك إليه، وإنما نرجئ الحديث عنه إلى فصل تال في تفسير القرآن لأعجمية العلم، ومنه لفظة «إنجيل».
انقطعت سلسلة السند إذن في التوراة وفي الإنجيل. ولكن الانقطاع في الإنجيل أفدح. لأن القائل في الإنجيل رواة يتحدثون غير اللغة. يزيد من فداحة هذا أن الأناجيل كثيرة، قاربت فيما يروى ثلاثمائة إنجيل تتفق وتختلف، اعتمدت منها الكنيسة بعد استقرار عقيدة التثليث تلك الأناجيل الأربعة التي بين يديك لا سبيل لك اليوم إلى ما كان في غيرها، فقد حرمت وطوردت وأعدمت. بل حتى ما ظهر منها بعد ذلك، كالإنجيل المسمى «برنابا» المكتشف حوالي القرن الثامن عشرة بلغة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 107]
إيطالية تسكانية، مهما اتفقت كمسلم مع الكاتب في مضمونه، لا تستطيع الارتفاع بنسبة ما جاء فيه يقينًا على المسيح عليه السلام، لا لشيء إلا لكونه مكتوبًا – على الترجمة – بلغة غير لغته عليه السلام، شأنه شأن الأناجيل الأربعة المتداولة نفسها، لا أكثر ولا أقل.
وليس كذلك «القرآن»، المقطوع من الخصم ومن الصديق على السواء بنسبة تلاوته إلى محمد صلى الله عليه وسلم بنصه «العربي» الذي بين يديك الآن، لا خلاف على حرفه ولفظه، المكتمل نزوله حوالي سنة 532م، وتلاه صلى الله عليه وسلم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، على الكاتبين من صحابته، يكتبون ويراجعون عليه ما كتبوا، والمجموع في المصحف الذي بين يديك مراجعًا على حفاظه وكتبته ولما ينقض عقدان على وفاته صلى الله عليه وسلم. نعم، لم يكن «المصحف الأم»، مصحف عثمان، مضبوطًا بالشكل والنقط، ولكنه «مقروء» عليه هو نفسه صلى الله عليه وسلم بقراءة أقرها، كل ما عداها مردود. ولم يظل «مصحف عثمان» غير مقيد بالشكل والنقط حوالي 2200 سنة كما وقع لتوراة موسى عليه السلام، وإنما ضبط بالشكل والنقط على عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ولما تنقض سبعون سنة على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وهو لم يضبط بالشكل والنقط على عصر اضمحلال الفصحى وتراجعها على الألسنة، كما وقع لعبرية التوراة منذ القرن الثالث قبل الميلاد بعد حوالي ألف سنة من نزول التوراة، ولكنه ضبط بالشكل والنقط وعربيةُ القرآن هي لغة الخاصة والعامة، بل وهي مقياس عربية العرب.
نعم، يستطيع المكابر المعاند أن ينكر الوحي على القرآن، شأن كل كافر بوحي السماء. ولكنه لا يستطيع التسليم بالوحي لما بين يديه من الكتب السابقة وهو ينكر الوحي على القرآن، لأن إنكار الوحي على القرآن إبطال لدعوى الوحي كله: قد ضاعت أدلة الوحي الأول بضياع معجزات الأنبياء السابقين، وبقي القرآن – المعجزة بذاته – شاهدًا أوحد على معجزات كل من سبقوه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 108]
وتستطيع أيضًا – منصفًا غير متعنت – أن تدفع بانقطاع السند في التوراة والإنجيل اللذين بين يديك. وتستطيع أيضًا – مصيبًا غير مخطئ – أن تدفع بضياع الأصل الآرامي – العبري الذي ترجمت عنه أقوال المسيح عليه السلام في تلك الأناجيل اليونانية الأربعة، بل وفي إنجيل برنابا أيضًا. ولكنك لا تستطيع أن تفعل هذا أو بعضه مع القرآن إلا وأنت موتور، متعنت، غير مصيب: لا مشاحة في حرف واحد من حروف القرآن، الأصل، واللغة، والسند.
من هنا تفهم قوله عز وجل في وصف القرآن: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب * ومهيمنا عليه} [المائدة: 48] يعني القرآن يصدق «ما صدق» في التوراة والإنجيل، أي هو الشاهد لهما بالصواب حين الإصابة، أما عند الاختلاف فالقرآن هو المصوب الفيصل البات، قوله الحق.
وتستطيع أن ترتب على هذا أيضًا أن القرآن لا يحاج بما في التوراة والإنجيل، ولكنهما هما اللذان يحاجان به عند الاختلاف.
ولكن لا تتوقع مني أن أقول لك: قد قالها القرآن «آزر» فهي كما قال وعلى الذين يريدون لأبي إبراهيم اسما آخر أن يعودوا إلى معاجمهم يبحثون عن جذر عبري أو آرامي يشتقون منه «تارح» أو يهتدون إلى وجه في هجائه ومعناه، وليتخبطوا كما يتخبطون في أمثال «موسى»، هارون. بل مثل ما يجدفون في «إسرائيل» («يسرئيل» في عبرية التوراة) التي استنفج بعضهم ففسرها بأنها «مصارع الله»، واستخذى بعضهم فقال بل هي «أمير مع الله» وكلتاهما شهرة يفرق من انتحالها إبليس نفسه، فكيف بعبد الله يعقوب، النبي ابن النبي أبى الأنبياء؟
لا تنتظر مني أن أقولها، وإلا ما كان هذا الكتاب.
على أني لا أكتب لهؤلاء، وإنما أكتب لك أنت، كي نستبين معًا كيف علم القرآن ما جهلوا، وكيف أخطأ هؤلاء وأصاب.
ولكنهم لا تهزم ملاكما بأن تطرده من الحلبة، وإنما تستدعيه إليها لتصرعه على أرضها. ولا تستدنيه إليك لتباغته بالقاضية على أم رأسه، ولكنك تصاوله حتى يسلم لك بالقاضية، «الفنية».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 109]
قال عز وجل: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن * إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت: 46].
وإني بها ملتزم بعون الله فيما بقى من فصول هذا الكتاب.
وبعد، ثق أنني لا أبتغي بما أكتب وجه الجدل ولا يستهويني النزال. فليست الشحناء من طبعي. بل «حلاوة الإعجاز» هي كل ما نبغي: نور الحق، ينبوع الجمال.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 100-110]