(11) آدم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (11)
آدم
من دلائل قدم العربية على العبرية، أن اسم «آدم» أبى البشر (وينطق في العبرية «أدام» بألف ممدودة بعد الدال)، ليس له جذر في العبرية يشتق منه إلا الجذر العبري «أدم» أي «إحمر» بمعنى كان أحمر اللون. و«أدوم» في العبرية يعني «الأحمر»، ومنه كما يقول علماء العبرية لفظ «دام» أي «الدم، فلا تدري هل اشتق «آدم» من الدم أم اشتق «الدم» من آدم. وفي العبرية أيضًا «أدما» بمعنى الأرض، أي التربة، ومنه ما جاء ف يسفر التكوين: «ويصر يهوا إلوهيم إت – ها أدام عفر من ها أدما ويبح بأباو نشمت حاييم» وهي في الترجمة العربية «وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفسه نسمة حياة» (تكوين 2/7). والأرض هنا يعني التربة، أي قشرة الأرض، يعني أديمها الظاهر منها، لا الأرض نفسها وهي في العبرية «ها آرص». ولا سبيل لك إلى اشتقاق «أدما» هذه – إن أردتها عبرية – إلا من الجذر العبري «أدم»، أي «إحمر»، يعني كان أحمر اللون، فهي «الحمراء»، وكأن «آدم» يعني «الأحمر» المجبول من «الحمراء». ولو قابلت هذا بمكافئه العربي لقلت إن «آدم» يعني «الأغبر» المجبول من «الغبراء» (وهو الاسم الذي يطلقه العرب على أديم الأرض)، وكأن الحمرة هي اللون الغالب على تربة الأرض عند العبرانيين فسميت به. ولا يصح هذا بالطبع، وإنما الصحيح هو أن العبرية لم تشتق «أدما» من الجذر العبري «أدم»، وإنما نقلتها نقلاً عن العربية («الأدمة»)، اسمًا جامدًا لا اشتقاق له عندها.
أما «أدم» العربي، فهو جذر غزير المعاني، ليس فيه من الحمرة شيء. من معانيه الامتزاج والخلط والإيلاف: من ذلك «الائتدام» أي المزاوجة بين أنواع الطعام
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/217]
كأكل الأرز باللحم، والخبز بالخضر. و«الإدام» هو المضاف من الطعام إلى بعضه ليستمرأ. و«آدم» بين الزوجين يعني آلف بينهما وأصلح. و«أدم الصانع الجلد» يعني أصلحه بنزع الزائد من «أدمته» و«الأدمة» هي باطن الجلد تحت البشرة اللصيق باللحم «المخالط» له. و«أدمة الأرض» ما يلي وجهها، أي غلافها، ومنه «الأديم» بمعنى الجلد، وأديم الأرض يعني «جلدها»، وهو «التربة». و«أدم يأدم»، وأيضًا «أدم يأدم» فهو «آدم» (نسبة إلى «الأدمة» أي «التربة») يعني من كانت بشرته في لونها، أي الشديد السمرة. و«آدمته الشمس» يعني لوحت لونه، أي صيرته إلى السمرة.
وهكذا ترى أن «أدما» العبرية بمعنى الأرض والتربة، ليست بعبرية، وإنما هي دخيلة على تلك اللغة، استعارتها رأسًا من العربية.
وتستطيع أن ترتب على هذا مباشرة أن العبرية ورثت أيضًا اسم «آدم» عن هذه العربية نفسها، أعني العربية الأولى – عربية آدم – ذلك الاسم الذي سماه الله به في الجنة، وهبط به إلى الأرض، فصار له علما بين زوجه وبنيه وحفدته وذراريه. دليلك في هذا أن سفر التكوين ينص تنصيصًا على أنه لا يشتق «آدم» من لون بشرته عبريًا، أي الحمرة، ولكنه يشتقه من الأرض التي أخذ منها وإليها يعودن أي من «الأدمة» (وهي عربية لا عبرية كما مر بك): «عاد شويخا إل – ها أدما، كي ممنا لقحتا، كي – عفر أت، وإل – عفر تشوب» أي «حتى تعود الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلى التراب تعود» (تكوين 3/19).
آدم من الأدمة في التوراة، ليس من الحمرة، وهو كذلك في العربية، كما سترى، بل هو أولى.
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 31 من سورة البقرة) فهم على أنه مشتق من أدمة الأرض وأديمها، وهو وجهها، فسمي بما خلق منه. وقال بعضهم إنه مشتق من الأدمة (بضم الهمزة) وهي السمرة. وزعم بعضهم أن الأدمة هي البياض، وأن آدم كان أبيض. وليس هذا وذاك بشيء، لأن الأدمة نفسها مشتقة من الأديم، أي من لون الأدمة، وهي إلى السمرة أقرب، ثم إنه لا مدخل للون آدم في تسميته: ليكن آدم أسمر أو أبيض أو ما شئت من أبشار البشر إن صح في لونه عن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/218]
الصادق المصدوق حديث، ولكنه قبل كل شيء منسوب إلى هذه الأدمة التي جبل منها أيا كان لونها وأيا كان لونه.
وقد عقب القرطبي رحمه الله على أقوال المفسرين في هذا بقوله: والصحيح أنه مشتق من أديم الأرض.
وهذا هو «التفسير القرآني» لمعنى «آدم»، كما سترى.
ورد آدم في القرآن منفردًا – أي ليس مضافًا إليه بنوه كما في «بني آدم»، «ابني آدم» - 18 مرة، منها أربع على النداء من الله عز وجل في الملأ الأعلى، ومنها واحدة خاطبه بها إبليس يغريه بالأكل من الشجرة، والباقي في الحديث عن قصة آدم في الملأ الأعلى، إلا اثنين: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [آل عمران: 33]، {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم} [مريم: 58]. وليس في هذا كله من تفسير معنى آدم شيء إلا قوله عز وجل: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} [آل عمران: 59]. ولكنك تجد هذا المعنى فصيحًا بينا في مثل قوله عز وجل: {إني خالق بشرا من طين} [ص: 71]. في هذه – وغيرها من مثلها في القرآن كثير – الكفاية كل الكفاية في تفسير معنى «آدم»: أما الطين فقد علمته، وأما «البشر» فمن البشرة، وهي وجه «الأديم»، و«بشر» الأديم يعني قشره.
«آدم» عربية كما ترى، تخرج عن مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، ولكن القرآن فصل في وجه اشتقاقها: إنها من «الأدمة» و«الأديم»، لا من «البياض» و«السمرة».
ويَخرج عن مقاصد هذا الكتاب أيضًا تفسير اسم «حواء»، زوج «آدم» في الجنة، لأنها لم تذكر بالاسم في القرآن.
ولكنا وعدناك فيماس بق بتفسير هذا الاسم مع «آدم». وقلنا لك أيضًا فيما سبق إن القرآن – حين لا ينص على اسم علم – يلم بمعناه أحيانا في ثنايا الآيات،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/219]
فيصوره لك حتى لتكاد تسميه به، وإذا هو نفسه اسم العلم المعني في التوراة. و«حواء» من هذا كما سترى.
يشتق علماء العبرية اسم «حواء» من الجذر العبري «حوا»، ويقولون إنه من «الحياة»، أي أن «حواء» يعني «الحياة». وهم يقسرون الجذر العبري «حوا» على هذا المعنى قسرا، رغم أن لفظ الحياة في العبرية هو «حاييم»، المشتق من جذر عبري آخر هو «حَيَا» بالياء، المطابق لنظيره العربي بنفس المعنى. ولكنهم يقولون لك إن «حوا» (وهو اسم «حواء» في العبرية غير مهموز) يعني «الحياة» في اسم «حواء» فقط، لا يجز استخدامه بهذا المعنى في غيرها، بل تستخدم «حاييم» على أصلها. وقد «اضطر» علماء العبرية إلى هذا اتباعًا لسفر التكوين الذي ينص تنصيصًا على أن «حواء» من الحياة. وقد مر بك هذا في موضعه. ولا تستطيع أن تقول إن كاتب سفر التكوين تورط في هذا التفسير مدفوعًا بتغيير طرأ في زمنه على معنى الجذر «حوا»: لو صح هذا لما جاز لعلماء العبرية حظر استخدام «حوا» بمعنى الحياة في غير اسم «حواء». وإنما تستطيع أن تقول إن كاتب سفر التكوين تورط في هذا فألزم به من جاءوا بعده، مثل ما فعل في تفسير اسم «بابل» بالبلبلة، فشاعت شرقًا وغربًا في كل اللغات. دليلك في هذا من العبرية المعاصرة التي تستخدم الفعل «حوا» بمعنى عاش، أي عاش حدثًا ما أو تجربة ما، بمعنى «شهد» ، ولكنها لا تستخدمه قط بمعنى «حيا». على أن «عاش»، «حيا» ليسا سواء: عاش بمعنى شَهِد يسهل اشتقاقه من أصل معنى الجذر العبري «حوا»، وهو يطابق «حوى» العربي.
وقد تابع مفسرو القرآن أهل التوراة في تفسيرهم اسم «حواء» بالحياة، لا تجد لهم في تفسيره قولاً يغايره (راجع تفسير القرطبي للآية 35 من سورة البقرة).
أما الفعل «حَوَى» في العربية فأصل معناه التجمع والاستدارة والتقبض، ومنه «الحية» لأنها «تتحوى» أي تستدير على نفسها، ومنه أيضًا «حواه» بمعنى استولى عليه وملكه، وكأنه «استدار عليه»، ومنه كذلك «الحواء» أي المكان الذي يحوي الشيء، ويجمع على «أحوية»، و«الأحوية» يعني البيوت التي تحوي الناس،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/220]
والباقي الآن منها في معناه البيوت من الوبر مجتمعة على ماء. والحواءة من الرجال يعني اللازم بيته.
وقد رجع «علماء العبرية» إلى هذه المعاني حين أرادوا تأصيل معنى الجذر العبري «حوا» - بعيدًا عن اسم «حواء» بالطبع الذي لا يملكون له تعديلاً – عندما تصدوا للفظ العبري «حووت» (على جمع التأنيث العبري من «حوا» بمعنى «القرية» - الذي لا يستقيم معناه بالإصرار على أن الفعل «حوا» العبري يعني «حيا»)، فتبينوا أن «حووت» العبري يعني بالضبط «الأحوية» العربي وانتهوا إلى أن «حوا» العبري يأخذ من «حوى» العربي معنى التجمع والاجتماع.
وقال آخرون من علماء العبرية هؤلاء إنه لا داعي لأخذ «حوا» العبري من «حوى» العربي، لأنه إذا كان «حوا» العبري يعني «حيا» كما يريد سفر التكوين، فإن معنى «الحياة» Living يفيد معنى «السكنى» و «الإقامة» أيضًا. ومهما قلتَ في تأثر هذا القائل بلسانه الأوروبي، فهو في أعماقه يريد أن يوفق بين ما قاله سفر التكوين في معنى «حواء» بأنها «من الحياة»، وبين تلك «الأحوية» (حووت العبرية)، أي تلك «القرى» الماثلة أمامه، ليس فيها من اشتقاقات «الحياة» شيء إلا إن أخذتَ «الحياة» بمعنى «المعيشة»، وهو بعيد عما أراده سفر التكوين بقوله إن حواء هي واهبة الحياة (أم كل حي).
أيُّما صح هذا أو ذاك، فأنت لا بد منته إلى أن «الفعل حوا» العبري أصل معناه من التجمع والانضمام والسكنى والتوطن والإقامة، لا شأن لك بما آل إليه معناه عند كاتب سفر التكوين، فأم البشر «حواء» ليست فقط أقدم من مولد هذا الكتاب ولكنها أقدم بقرون لا يعلم عدتها إلا الله من مولد تلك اللغة العبرية نفسها.
والذي لا شك عندي فيه أن «حواء» عرفت بهذا الاسم في الملأ الأعلى، وأنه قد تكلم به معها آدم الذي علم الأسماء كلها، وأنها هبطت بهذا الاسم إلى الأرض مع آدم، فصار لها علما في أجيال بنيها، يتوارثونه جيلاً بعد جيل، حتى آل إلى ما صار إليه في سفر التكوين، لا على النحت من العبرية ذاتها، وإنما على النقل من «العربية الأولى»، عربية آدم وحواء، شأنه شأن اسم «آدم» سواء بسواء.
والذي لا شك عندي فيه أيضًا – ولا خلاف فيه مع سفر التكوين – أن دلالة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/221]
الاسم على مسماه قد روعيت في تسمية «حواء» كما روعيت من قبل في تسمية «آدم»: أما آدم فقد سمى بما خلق منه وأما حواء فقد سميت بما خلقت له.
وقد أصاب سفر التكوين في آدم، ولم يصب في حواء، التي تعلل في تسميتها بمعنى الحياة (لأنها أم كل حي): «ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي» (تكوين 3/20)، أي أنها سميت بما خلقت له وهو «الإنجاب»، أي ولادة الأحياء.
ولم يصب الكاتب في حواء من وجهين: الأول لغوي بحت، لأنه لا يصح اشتقاق الحياة من الجذر العبري «حوا» إلا بافتعال شديد كما مر بك. والثاني بيولوجي بحت: لا يصح أن يقال إن المرأة هي «واهبة الحياة»، فبالذكر والأنثى معًا يكون النسل، لا نسل إلا باجتماعهما معًا. وفي الكون كائنات «وحيدة الجنس» تتناسل لا حاجة بها إلى ذكر وأنثى، ولو شاء الله لآدم أن يكون من هذه الكائنات لفعل. وسفر التكوين نفسه ينص على سبب إيجاد «حواء» أنثى: «وقال الرب الإله ليس جيدًا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معينًا نظيره» (تكوين 2/18)، أي أن يكون لآدم زوج. بل وراء جعل النسل من ذكر وأنثى هدف أجل منه، وهو إلزام شطري الخلق بالعيش في جماعة من نوعها. تجد هذا في الأحياء كافة حتى الحشرة. وفي إطالة أمد طفولة النوع الإنساني – وهي في الإنسان من دون كافة الأنواع أطولها أمدًا – إلزام الأبوين بالإيلاف والتضام، و«التحوى» عمرهما كله لرعاية هذا النسل وإعالته وتنشئته، فتكون «الأسرة». وفي المخالفة بين نسل الأسرة والأسرة – عددًا ونوعًا – إلزامُ الأسر بالتزاوج فيما بينها، فتنشأ بالنسب والصهر شعوب وقبائل، يتعارفون على أصول وقيم يتبارون في السبق إليها. ولا يتحقق هذا إلا بالخلق مع ذكر وأنثى. تجد هذا كله في قوله عز وجل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: 13]. و«جعلنكم» في هذه الآية على التقرير والتفسير معًا، أي خلقناكم من ذكر وأنثى لنجعلكم شعوبًا وقبائل.
وقد شاءت حكمته عز وجل أن يجعل المرأة للرجل «سكنا»، مستقرًا له ومقامًا. إنها الزوج والإلف والسكن. وهذا هو ما خلقت له «حواء» فسميت به، لا «ولادة الأحياء» كما تجد في سفر التكوين، فما كان لآدم وحواء وهما في الجنة التفكير في الإنجاب والتناسل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/222]
ليست «ولادة الأحياء» هي العلة من التسمية وإنما العلة هي أنها «الحواء» لآدم: السكينة والسكنى.
والقرآن لا ينص على اسم «حواء»، فلا يسميها بما سماها به آدم، إن صح ما قاله سفر التكوين من أن آدم هو الذي سمى، وغما القرآن يسميها «زوج آدم»، أي إلفه: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} [البقرة: 35].
ولكن القرآن يفسر اسم «حواء» بما فسرناه به نحن فيصوره أبلغ تصوير في قوله عز وجل: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف: 189]، {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها} [الروم: 21]، {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع} [الأنعام: 98]).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/217-223]