الفصل السادس:
أبو العلاء، إمام الناس
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (الفصل السادس
أبو العلاء، إمام الناس
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/257]
يتناول هذا الفصل تفسير ثمانية أعلام: آزر (أبو إبراهيم)، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، إسرائيل (شهرة يعقوب)، يوسف.
وقد جمعنا هؤلاء الأعلام الثمانية في فصل واحد، لأن أصحابها كما ترى ذرية بعضها من بعض، على النسب اللصيق. فيوسف هو ابن يعقوب (إسرائيل)، ويعقوب هو ابن إسحاق، وإسحاق وإسماعيل كلاهما ابنا إبراهيم، ولوط في التوراة ابن أخ لإبراهيم هو هاران، وإبراهيم (وهاران) ابنا آزر (أو تارح كما تقول التوراة). وترتيبهم التاريخي على هذا النحو ذاته ثابت في التوراة ثبوته في القرآن.
وكل هذه الأعلام (عدا آزر، وسيأتي) أعجمي مقطوع بعجمته، يجيء في القرآن منسوقًا على أصله في التوراة دون تفاوتن إلا ما اقتضاه التعريب.
وتقول التوراة أن «أبرام» كان اسم إبراهيم الذي سماه به أبوه. أما «إبراهيم» فهو اسم سماه الله به. وتقول أيضًا إن «يعقوب» سمى هكذا لأنه يوم مولده خرج مع توأمه «عيسو» ممسكًا بعقب أخيه. أما «إسرائيل» فهي شهرة ليعقوب من الله.
وتنص التوراة أيضًا على اسم أبي إبراهيم، فتسميه «تارح» (أو «تيرح» بإمالة الألف مع فتح الراء في الحالتين)، خلافًا للقرآن الذي يسميه «آزر» بالنص الصريح في قوله عز وجل: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} [الأنعام: 74].
وقد حار مفسرو القرآن في «آزر» (انظر تفسير القرطبي للآية 74 من سورة الأنعام) لمخالفتها الصريحة لما هو معلوم عند أهل الكتاب من التوراة. وطنطن بها المستشرقون – كما مر بك – الذين وهموا أن «آزر» من أفدح أخطاء القرآن في اقتباسه من التوراة.
ونقول نحن: وما كان أغنى القرآن عنها، على علمه المحيط بدقائق المكتوب في التوراة! وهل ينتقص شيئًا من جلال القرآن أن يسكت عن اسم أبي إبراهيم فلا يسميه؟ قد تناول القرآن جدال إبراهيم أباه في أكثر من آية فلم يسمه، فلماذا النص على اسم أبي إبراهيم في هذه الآية وحدها من سورة الأنعام؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/258]
أفقد جهل القرآن اسم أبي إبراهيم في التوراة؟ فلماذا يزج بنفسه في المزالق فيخترع من عنده اسمًا لأبي إبراهيم، غير عابئ بماي سمعه من أهل الكتاب في مكة ويثرب ونجران؟
وإذا كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم يفتري القرآن من عنده كما يدعون، فلماذا لم يستوثق من رجال كورقة بن نوفل عم زوجه خديجة وقد كان كما يقول أصحاب السير من حنفاء إحدى الملتين، يقرأ من الكتاب العبراني ما شاء له الله أن يقرأ؟ ولماذا لم يصححه له أمثال الحبر اليهودي ابن سلام وقد أسلم في المدينة لهذا النبي الذي «يخطئ» في اسم أبي إبراهيم؟ أفلم ير ابن سلام في هذه وحدها دليلاً كافيًا على «كذب» هذا النبي؟
ولماذا لم «يسقط» المسلمون من بعد النبي «آزر» هذه من القرآن، تنقية للقرآن من خطأ لا تجوز المماحكة فيه؟
تستخلص من هذا أن القرآن أعظم وأجل من أن يفترى من دون الله عز وجل، وتستخلص منه أيضًا أن القرآن عند الذين آمنوا به أعظم وأجل من أن يكذب بالتوراة، أو أن يصحح بما في التوراة، وتستخلص منه كذلك أن القرآن في المصحف الذي بين يديك قد عصمه الله سبحانه من التغيير والتبديل، ولو بقصد «التصويب» و«الاستدراك»، فهو إلى قيام الساعة محفوظ بحفظ الله عز وجل على الحرف الذي به نزل. وتستخلص منه أخيرًا أن القرآن – وكان أيسر عليه استبقاء «تارح» في القرآن على أصلها في التوراة – إنما أراد عامدًا متعمدًا تحدي المتقولين عليه أصحاب دعوى النقل والاقتباس، فجابههم بما ينقض دعواهم. والقرآن هاهنا يريد المخالفة لذاتها، لا يريد منها تأصيل منهج أو إثبات عقيدة، وإنما يأتي بها للدلالة على إعجازه فحسب.
نعم، «آزر» في القرآن من دلائل إعجازه، كما سنرى بإذن الله على التو معًا).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/257-259]