دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 21 ربيع الثاني 1443هـ/26-11-2021م, 02:06 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,756
افتراضي

(4) هاروت (5) ماروت (6) بابل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ((4) هاروت (5) ماروت (6) بابل
ليس في التوراة والإنجيل «هاروت وماروت» ولا ذكر في قصص أهل الكتاب لفتنة هاروت وماروت في بابل على نحو ما يقصه القرآن: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمنا من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} [البقرة: 102].
ولم تأت «هاروت» و«ماروت» و«بابل» في كل القرآن إلا مرة واحدة فقط، هي هذه الآية.
وقد حار المستشرقون المنكرون للوحي على القرآن في تفسير أصل «هاروت» و«ماروت»، لأنهم يبنون مقولاتهم في أعلام القرآن على فرض بات مسلما عندهم، لغوا به حتى حسبوه حقيقة: القرآن يتوكأ على التوراة والإنجيل، ولا علم له بما وراء أقاصيص أهل الكتاب. وقد خلت التوراة والإنجيل من ذكر «هاروت» و«ماروت»، فمن أين أتى القرآن بهما؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/187]
قالوا: ربما أخذهما القرآن نقلاً عن الديانة الزرادشتية من «خردت»، «أمردت» في الفارسية البهلوية (هرقوتت»، «أمورتت» في الفارسية الأفستية) ومعناها «الكمال»، «الخلود»، جائزة المتقين بعد الموت. ثم استدركوا على أنفسهم فقالوا إن العرب الجاهليين لم يستقوا عقائدهم من الفرس، فضلاً عن أن التسمية بهذين الاسمين الفارسيين تشخيصًا لملكين هبطا من السماء إلى الأرض ليعملا عمل هاروت وماروت، تسمية لا تنطبق ومن ثم لا تصح.
وقالوا أيضًا: ربما أخذ القرآن «هاروت» و«ماروت» من كتاب ينسب إلى أخنوخ (إدريس في القرآن على ما نرجحه نحن)، ضاع اصله وبقيت منه ترجمة باللغة السلافية القديمة، وفيه أن ملكين أحدهما «أريوخ» والآخر «مريوخ» أمرا بإغلاق الكتاب على نبوءات أخنوخ حتى تمام الدهور. وهي كما ترى ليست مهمة هاروت وماروت في بابل على نحو ما وصفها القرآن. ولكنهم وجدوا في كتاب بالحبشية يُنسب إلى أخنوح أيضًا، أن ثمة ملائكة هبطوا يعلمون الناس فنون السحر والشعوذة وقطع الأرحام، فربما أخذ القرآن التسمية من أخنوخ السلافي، وأخذ الوظيفة من أخنوخ الحبشي. إلى آخر ما قالوا.
لم يهتد المستشرقون إذن إلى وجه في «هاروت وماروت» إلا هذا، وهو ركيك كما ترى، ولكنه يريك إلى أي مدى يتخبط أولئك المستشرقون المنكرون الوحي على القرآن: زعموا أن القرآن يتوكأ على معاصريه من أهل الكتاب فكيف علم القرآن ما جهلوه؟ كيف حفظ هو أخبار أخنوخ السلافي وأخنوخ الحبشي، وأضاع أصحاب التوراة الأصل العبري لسفر ينسب إلى أخنوخ؟ أكانت أبناء أخنوخ أخبارًا يتناقلها الرواة على عصر النبي، خفي أمرها على يهود اليمن والحجاز والشام؟ فكيف خفيت على مفسري القرآن وقد توقفوا في هاروت وماروت؟ ولماذا اختلفت رواية أخنوخ السلافي عن رواية أخنوخ الحبشي؟ أترجم المترجمان كل بمعزل عن «أخنوخ» واحد أم عن «أخنوخين» اثنين؟ فكيف أخذ القرآن نتفة من هنا ونتفة من هناك؟ كيف تسنى له الجمع بين هاتين الروايتين في نسيج واحد؟ أفقد اطلع القرآن على الترجمتين معًا فانفرد وحده بعلم السلاف والأحباش وخفي علم هؤلاء على هؤلاء؟ أو قد فرغ القرآن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/188]
نفسه لجهد استنفد من جمهرة المستشرقين سنين في تتبع أخبار السلاف والأحباش والجمع بينها كي يصوغ منها في النهاية خبرًا يأتي عرضًا في آية أو بعض آية؟ فما بالك بغير «هاروت وماروت» من أخبار القرآن، ومن علوم القرآن، وما أدراك ما علوم القرآن؟ أنى يتسع لبعض هذا جهد بشر، أو عقل بشر، أو عمر بشر، فردًا أو جماعة، وإن عكفوا عليه أجيالاً؟
على أن أحدًا من هؤلاء المستشرقين – يهود ومسيحيين، ومنهم المؤمن والملحد لم يتوقف لمناقشة «سفر التكوين» في روايته لفتنة الملائكة ببابل، على ما مر بك من قوله إن «الله» هبط ببابل ليبلبل ألسنة الخلق فيتفرق شملهم ولا يتموا بناء المدينة، ومقصوده بالطبع أن «الملائكة» هم الذين هبطوا، لا الله عز وجل: صاغ كاتب سفر التكوين روايته ليؤصل بها فهمه لمعنى «بابل»، وليفسر رأيه في سبب اختلاف ألسنة البشر، ولم يصب الكاتب كما مر بك في هذا وذاك جميعًا، ناهيك بوهمه أن المدينة لم يتم بناؤها، وربما شهد فيها أطلالاً ظنها أبنية لم تكتمل.
هبط الملائكة إذن في بابل كما يقول سفر التكوين، ولكن لمهمة غير التي ذكرها الكاتب، لأن الملائكة إذا أمروا فعلوا، فتحقق مراد الله عز وجل، ولكن الملائكة لم يؤمروا بهذا الذي ذكره سفر التكوين، فلم يهبطوا من أجله ولم يفعلوه، بدليل أنه لم يحدث، وهو لم يحدث – تقولها بيقين لا شك معه – لأن ألسنة الناس لم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/189]
تتبلبل في «بابل» التي بُنيت أول ما بنيت في مطلع الألف الثالثة قبل الميلاد، وإنما هي تبلبلت قبل مولد بابل – ومن ثم قبل نزول أولئك الملائكة المكرمين – بقرون لا يعلم عدتها إلا الله: حسبك أن المصريين وجدوا في مصر قبل أن توجد بابل، وهم كما تعلم يتكلمون لغة غير اللغة، بل حسبك أن الشومريين الذين غلبهم الساميون البابليون على أرض العراق (بابل من بعد) عاشوا على أرض بابل قبل وفود البابليين على تلك الأرض، ولا صلة محققة بين اللغتين الشومرية والبابلية. قد تباينت ألسنة الناس إذن وتفارق الخلق من قبل أن تولد بابل، ولا حاجة من ثم بالملائكة إلى إحداث ما هو حادث.
فيم إذن كان نزول الملائكة ببابل؟ أليس أقرب إلى المعقول ما ذكر في سفر أخنوخ الحبشي من أن ملائكة هبطوا إلى الأرض يعلمون الناس فنون السحر والشعوذة و«قطع الأرحام» ألا يذكرك «قطع الأرحام» بما قاله القرآن في شأن هاروت وماروت: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} [البقرة: 102].
كيفما كان الأمر، فقد كان هاروت وماروت فتنة للناس. ولكنها لم تكن فتنة معماة، وإنما فتنة على بصيرة: {إنما نحن فتنة فلا تكفر}، أي تعلم منا هذا كيلا تعمله، إن حدثتك به النفس، أو علمك إياه شيطان.
وإتيان السحر – تعلمه وتعليمه والاستعانة به – إثم منهي عنه في القرآن، بل هو في القرآن كفر بواح: «ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر». وتستدل على هذا أيضًا من قوله عز وجل على لسان سحرة فرعون: {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر} [طه: 73]، فتفهم أن تعاطي السحر خطيئة يستغفر منها الذي آمن. والساحر أول من يعلم هذا، فقد باع آخرته بدنياه: {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق}، ولكنه لا يدري كم هو في الصفقة مغبون: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} [البقرة: 102].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/190]
أما حقيقة السحر – وللسحر حقيقة لا يجحدها إلا مكابر – فهي كما قال القرآن على لسان نفر من الجن المؤمن: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} [الجن: 6]. الإنس والجن عالمان منفصلان، بينهما حجاب حاجز، لا ينخرق إلا لغوي فاسق من هؤلاء وهؤلاء، يدعوه فيستجيب. الجن المؤمن لا يفعله، والإنس المؤمن لا يطلبه، وإنما يفعله الجن الكافر، إبليس وقبيله، إن عذت به أعاذك، وإن استعنته أعانك. وهو لا يعينك في خير مهما توهمت، لأنه مكفوف بكفره عن فعل الخير: لا يستطيعه لك ولا يريده بك، وإنما هو يعينك على الشر والضر والأذى. يمهد لك بادئ بدء بما يستهويك، حتى إذا آنست في نفسك به قوة، ركنت إليه، فصرت في قبضته، تظن «الخاتم» في أصبعك، وهو فيك الآمر الناهي، الفعل له والإثم عليك، فأنت الساحر والمسحور معًا، وإن شدهت أبصار الناس وثملت بهتافهم، ولذ لك انبهارهم بك، وتوجسهم منك، وتحيرهم في أمرك.
السحر إذن هو استخدام الجن الكافر، أي الشياطين (والشياطين علم على صنف الجن الكافر) – وقد علمت أن الشيطان معناها العدو – في الإتيان بخارق يهولك. وهو يهولك لأنك لا تعلم القوى الفاعلة فيه، ولا علم لك بالوسائل التي يتحقق بها الفعل. أنت مثلاً لا تسمي المعجزة سحرًا لأنك تعلم يقينًا أن الله عز وجل هو الفاعل. ولا تهولك عجائب العلم في هذا العصر ومخترعاته، فقد علمت ما وراءها. حتى الصعود إلى القمر ونقل صور صوتية – مرئية منه إلى الأرض في ثوان لم يعد يهولك، لأنك أنت نفسك تستطيعه متى توسلت إليه بوسائله المعروفة لك الآن. وهو بلا شك أعتى وأدهى من إتيان ذلك العفريت من الجن بعرش «بلقيس» من سبأ في اليمن إلى «سليمان» في فلسطين قبل أن يقوم من مقامه (النمل: 39)، أي في نحو ساعة أو ساعتين، وهو ما تستطيعه اليوم طائرة متوسطة الحجم، غير بالغة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/191]
السرعة. ولكن اقتراح هذا العفريت ما زال إلى اليوم يهولك، لأنك لا ترى هذا العفريت، ولا ترى الوسيلة التي يتحقق بها الفعل، وإنما ترى العرش أمامك. على أن سليمان لم يشده باقتراح هذا العفريت من الجن الذي سخره الله له، فقد مكنه عز وجل فيما هو أعظم: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 40]، قالها بشر من ملأ سليمان علمه الله، فهو مستجاب الدعوة، تطوى له المسافات وينعدم الزمن، ساءه أن يستعلى هذا العفريت فرد عليه بما أسكته، وألزمه مكانه لا يتعداه. الجن مهما عظم – شأن هذا العفريت من جن سلميان – محدود القدرة، محكوم بمدى الاستطاعة، لأن استطاعته من ذاته بقدر طاقته، تعوقه المسافة، ويعوزه الزمن. أما الملك فمن أمر الله تبارك وتعالى، كلى القدرة سبحانه. وكأن تلك الآيات من سورة النمل وهي تقص عليك من أنباء سليمان عليه السلام، تريد أن تبين لك الفرق بين فعل الجن محدود القدرة، وبين فعل الملك العامل بأمر الله لا يحد من قدرته حد. وهو نفسه الفرق بين السحر والمعجزة. إنه الفرق بين «عصا موسى» وبين حبال السحرة وعصيهم: الأولى عاملة بأمر الله عز وجل، نافذ بها أمره، لا يعجزها شيء، والأخرى «كيد ساحر» يستعين الجن على باطله.
وليس فعل الجن – أي السحر – تخييلاً كله، وإنما هو تخييل فحسب إن تعلق بتغيير الصورة المادية لشيء مادي ما، كما مر بك في حبال السحرة وعصيهم: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [طه: 66]، قد خلت الساحة من الحبال والعصى وامتلأت حيات وأفاعي. أما ثعبان موسى الذي خلق الله عز وجل من تلك العصا وأعادها من بعد سيرتها الأولى، فقد أكل الحيات والأفاعي، لا على التخييل، وإنما على الحقيقة. دليلك في هذا أنه أتى أيضًا على الحبال والعصى، أصل تلك الحيات والأفاعي: التقط موسى عصاه، ولم يستطع السحرة استعادة حبالهم وعصيهم، فقد أعدمها الله عز وجل، بارئ كل صورة ومفينها. على أنك مهما قلت في هذا «التخييل» الحادث بفعل السحرة، فهو واقع
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/192]
وقع، ليس تهاويم نائم، منوم أو مخدور، دليلك في هذا أن الذي «خيل إليه» في الآية السابقة هو موسى نفسه، البريء من ذلك.
ومن السحر أيضًا فعل محض، أي باق أثره في المادة بعد زوال المؤثر، لا كالتخييل الموقوت بزواله، بل منه الذي تلمسه بيديك، وتسجله عدسات التصوير البريئة من التخييل والوهم، كالذي تراه في ألعاب السحرة التي يحتشد لها الناس، ومنها خارق لا تفسير له بمنطق العقل والعلم، والحق أنه لا محال فيه عقلاً وعلمًا، متى سلمت بوجود الجن، الذي خلقه الله من «مارج من نار» لا تعكس صورته الأشعة الضوئية التي ترى أنت بها، ولا تنقل صوته ذبذبات الصوت التي تسمع أنت في نطاقها، وكم في خلق الله عز وجل من كائنات تلمس آثارها، وإن لم تدرك أجسامها أو تحس حسيسها.
من عمل الجن إذن أفعال مادية متحققة في الزمان والمكان، مدارها على مدى الاستطاعة، يستطيعها المؤهل لها، أي يستطيعها الجن، ولا يستطيعها الإنس. ولكن الجن محجوب عنك، غير مرئي لك، فتنسبها إلى الساحر، الذي «علمه» الجن كيف ينصب له الأدوات، ويهييء له المسرح، والذي لقنه «التعازيم» التي يستدعيه بها، وعلمه الإشارات والرموز التي «يتراسل» بها معه: يضعها له في قاع بئر معطلة، أو يدسها في نواحي خربة، أو تحت وسادة المراد تسحيره، وربما أضاف إليها شيئًا من «أثر» الشخص الذي يراد الكيد له، حتى إذا مر بها الجن في تطوافه فهم المطلوب، وقام بالمهمة غير مرئي ولا محسوس. وقل الشيء نفسه في ألعاب السحرة: الفاعل هو الجن، والظاهر لك هو الساحر. وليس علم السحر وتعلمه وتعليمه إلا هذا.
أما الهدف فهو افتتان الإنس بالجن، أي استهواء الإنس بالجن، {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران} [الأنعام: 71]، وغرس المهابة في
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/193]
صدور الناس من إبليس وصنائعه، قد خومر عقلك، وذهب علمك، وضاع إيمانك. ومتى انهزم العقل والعلم، فقد انتصر الجهل وسادت الخرافة، فزادك خبالاً على خبالك، تخاف ظلك، وتؤرقك أشباحك، تأتمر بالدجال والعراف والكاهن، وتنحت لك من الوهم أصنامًا وأوثانًا، ومعبودك في واقع الأمر هو الشيطان نفسه، قد أسلست له قيادك، وكفى بهذا إثمًا وخسرانًا.
قد كفر الشياطين إذن الذين علموا الناس السحر، وزينوا لهم ما أنزل على الملكين ببابل، وكفر أيضًا صنائعهم الذين تقبلوا منهم هذا السحر وعملوا به، أي الذين استعاذوا بالشياطين فأعاذوهم، {وما كفر سليمان} [البقرة: 102]، لأنه لم يستعذ بالجن، وإنما سخرت له الجن تسخيرًا: {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} [سبأ: 12 – 13]. سأل سليمان ربه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده: {قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} [ص: 35 – 39]. كانت الجن في هذا كله مأمورة، وكان سليمان فيها حاكمًا محكمًا بسلطان الله. على أن سليمان عليه السلام لم يستخدم الجن فيما يفتن الناس، ولم يستخدمه فيما يضل عن سبيل الله، بل في الهداية إليه سبحانه، كما تجد في قصته مع ملكة سبأ: {قيل لها ادخل الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} [النمل: 44].
وتستطيع أن تنسق على هذا أن «هاروت» و«ماروت» الملكين المكرمين لم يكفرا بما علماه الناس في بابل، لأنهما كانا به مأمورين فتنة للمتلقين منهما، تبصيرًا للناس، وزجرًا للناس عن إتيان السحر وعن تعلمه وتعليمه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/194]
أما قول مفسري القرآن في «هاروت» و«ماروت» و«بابل» (راجع تفسير القرطبي للآية 102 من سورة البقرة)، فقد توقفوا في تفسير معنى «هاروت» و«ماروت» مكتفين بأنهما علمان أعجميان منعا من الصرف للعجمة، وهذا يدلك على أن أهل الكتاب المعاصرين لهؤلاء المفسرين لم يكن لديهم هم أيضًا شيءٌ في تفسير معنى هذين العلمين، فتستنبط من هذا أن أهل الكتاب هؤلاء كانوا إلى ما بعد عصر نزول القرآن لا يعلمون شيئًا عن «أريوخ» و«مريوخ» في أخنوخ السلافي، ولا عن الملائكة الذين هبطوا إلى الأرض يعلمون الناس فنون السحر والشعوذة وقطع الأرحام في أخنوخ الحبشي، لا بأصل هذه الرواية ولا بترجمتها السلافية أو الحبشية اللتين استخرجهما المستشرقون من أوراق الكنيستين البلغارية والحبشية، وأن القرآن كان أسبق من هؤلاء وهؤلاء إلى مجمل هاتين الروايتين.
وأما قول مفسري القرآن في معنى «بابل»، فقد تابعوا أهل الكتاب في تفسير معناها بالبلبلة، ورددوا دون تثبت رواية سفر التكوين في المقصود من ذلك وهو التعليل لتفاوت ألسنة الخلق، ولم يلتفتوا إلى قوله عز وجل: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} [الروم: 22]، أي أن المخالفة بين ألسنة الناس آية ماضية في الخلق منذ بدء الخلق بآدم، شأنها شأن المخالفة بين ألوانهم، لا شأن لها ببلبلة الملائكة في بابل: لو صح هذا الذي رواه سفر التكوين لتوقف عدد لغات أهل الأرض عند الذي انتهت إليه محنة بابل، ولكن الذي حدث هو أن لغات البشر لا تزال إلى اليوم تموت وتتوالد.
على أن «أريوخ»، «مريوخ»، لم يجيئا في «أخنوخ السلافي» عبثًا: إنهما على الراجح عندي الرسم السلافي لهذين العلمين القرآنيين «هاروت»، «ماروت». ولكن القرآن لم يعربهما عن السلاف كما ظن أدعياء الاستشراق على ما مر بك، ولكنه عربهما عن الأصل الذي تكلم به الناس في بابل، والذي تحرف على قلم مترجم كتاب «أخنوخ السلافي».
فأنت تعلم أن مهبط هذين الملكين قد كان ببال، فتقطع بأنهما تعرفا – أي تسميا – لأهل بابل بلغة أهلها. والبابلية لغة سامية بادت، وما تجمع للغويين من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/195]
ألفاظها نزر يسير، على شك في صحة نطقه ومعناه، استظهروه من كتابات بخط مسماري سبق إليه شومريون – غير ساميين – فلا من أصوات تختص بها اللغات السامية، واستخدمه من بعدهم البابليون على علاته، فلا تدري أفسد لسانهم باستخدام ذلك الخط أم اعتجم علينا نطق ما كتبوه، أم كلا الأمرين معا. ومن ثم لا يستطاع رد اشتقاق هذين الاسمين «أريوخ»، «مريوخ» إلى أصل بابلي مقطوع بمعناه. على أن في عبرية التوراة الاسمين العلمين «أريوخ»، «مريوت»، الأول بمعنى «الأسدي» (أي الشبيه بالأسد) والثاني بمعنى «المراء» على الجمع (أي «مراءات») وكلاهما في عبرية التوراة علم مذكر. واللفظ «آرا»، «آرى» في كل من البابلية والعبرانية والآرامية معناه «الأسد» (وهي «هر» العربية بضم الهاء وتشديد الراء ومعناها الأسد لا «هر» مكسورة الهاء بمعنى «القط»)، أما الواو والخاء في «أريوخ» فهي في البابلية الفارسية كاسعة تفيد النسب على الصفة. وربما قلت إن «مريوت» العبرانية أصلها «مريوخ» البابلية الفارسية (مرى + وخ) على النسب إلى «مري» يعني العجل المسمن (وهو «الماري» في العربية). ومن ثم يكون معنى هذين الاسمين «أريوخ»، «مريوخ»، هو المنسوب إلى الأسد والمنسوب إلى العجل «الماري». وليس على هذا أو ذاك دليل تستريح إليه.
أما الذي نقوله نحن، فهو أن العلمين «هاروت»، «ماروت» لم تثبت لهما العلمية في الكتب السابقة حتى يلتزم القرآن بالإتيان بهما على ما جاءا به في التوراة والإنجيل على نحو ما مر بك في شأن «جبريل»، «ميكال». وإنما جاء بهما القرآن على أصلهما في العربية الأولى. وقد جاء بهما القرآن على زنة المبالغة «فعلوت»، كما تجيء «طاغوت» من «طغى»، «جالوت» من «جلا»، «طالوت» من «طال». إنهما على الراجح عندي تعريب على التفسير من الهراء والمرية، أو الهرء والمار (أي القطع والإفساد)، تسمية لهما بذلك «العلم» الذي علماه الناس في بابل، وكانت به «الفتنة» التي تعرفا بها للناس: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة: 102].
أما «بابل» في القرآن فهي مفسرة بذاتها لا تحتاج إلى تفسير، وقد علمت أنها من البابلية «باب + ايلو»، أي «باب + إل»، يعني «باب الله»، سهلت همزتها على المزجية، ورغم أنها جاءت على وزن شائع في العربية وهو «فاعل»، فقد منعت من الصرف للعلمية والتأنيث قبل المزجية وقبل العجمة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/196]
ولكنك تستشف من القرآن تفسيرًا لمعنى بابل بالتصوير، أي بالسياق العام. فأنت تعلم أن البابليين كانوا من عبدة الكواكب، يديمون النظر في النجوم، وأنهم بنوا ذلك «البرج» الذي سميت به المدينة من بعد «باب ايلو»، والمقصود بالطبع «باب السماء»، معبدًا لإلههم الأكبر «مرودخ» (كوكب المريخ على الراجح)، كوة نافذة في السماء يرصدون منها آلهتهم هذه، على نحو ما فعل فرعون: {فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى}[القصص: 38]. أرادوها كوة نافذة في السماء يرقبون ويتسمعون، فكان لهم ما أرادوا: كان «الباب» الذي صنعوا، بابًا نزل عليهم منه هاروت وماروت بالفتنة: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} [البقرة: 102]).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/187-197]


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:25 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir