(50) عزير:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (
(50) عزير
ورد الاسم «عزير» مرة واحدة في القرآن في قوله عز وجل: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30]. وتقرأ «عزير» بالتنوين في قراءة عاصم، التي نقرأ بها في مصر، وتقرأ أيضًا ممنوعة من الصرف في غيرها لا لعلة العجمة فحسب وإنما أيضًا إرادة اختلاس الهمزة في «ابن» فتنطقها: عزيرين، كما تنطق: عمر بن الخطاب على سبيل المثال، تدغم هذا في ذاك، فيسمع منك: عمربنلخطاب. والرأي عندي – لا تعصبًا فالتعصب ممقوت – أن قراءة عاصم التي نقرأ بها في مصر أفصح وأبين، لأنها تجعل عبارتي «عزيز ابن»، «المسيح ابن» على المبتدأ والخبر في قولي اليهود والنصارى، لا على البدل، والخبر يصدق ويكذب، أما البدل فهو إثبات محض، كما تقول عمر بن الخطاب، تنبئ سامعك بأن عمر، الذي هو ابن الخطاب، قال كذا وكذا أو فعل كذا وكذا، عالمًا أن سامعك يتفق معك في أن عمر هو ابن الخطاب. والقرآن بالطبع لا يتفق مع هذا القائل، وإنما يستنكر مقولته ويندد بها، فيقول {قاتلهم الله أنى يؤفكون}، أي ما لهم يلبس عليهم هذا الإفك، أي هذا الكذب. وقراءة عاصم كما ترى أقمن باستبعاد هذه الشبهة. على أن تنوين الأعجمي الذي يخف وزنه، مثل «عزير»، مسموع في العربية غير منكور.
وهذه الآية كما ترى من إعجاز القرآن. فهو ينبك بأن مقولة النصارى في بنوة المسيح لله ليست بدعًا ابتدعوه، وليست أيضًا «كشفا» كشف لهم عنه في الأناجيل التي بين يديك كما قالوا من بعد في تبرير الانتقاض على توراة موسى عليه السلام المتشددة في توحيد الواحد الأحد، وإما هم في هذه المقولة مسبوقون، سبقهم بها كتبة العهد القديم، الذين تبذلوا وترخصوا فقالوا كما مر بك إن الملائكة أبناء الله، وإن آدم ابن الله (التي نقلها عنهم لوقا في إنجيله)، حتى رخص القول وابتذل، فلم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/203]
يستنكف بعض اليهود أن يخلعوا على عزير المسمى في القرآن لقب «ابن الله» فيما يحكي القرآن عنهم. ربما قالوها تعظيمًا وتبجيلاً لا يدرون مغبتها فيمن جاء بعدهم، ولكنهما التعظيم والتبجيل المؤذنان بالسقوط في هاوية الكفر والهلكة.
بل ينبئك القرآن المعجز بأن اليهود والنصارى أيضًا، أي كلتا الملتين معًا، مسبوقتان بمقولتيهما هاتين، فهما تضاهئان مقولة قوم قد كفروا من قبل، ولا يقول القرآن المعجز هذا إلا وهو يعلم ما يقول. وقد ظن مفسرو القرآن الأوائل (راجع تفسير القرطبي للآية 30 من سورة التوبة) أن المعنى بالذين «كفروا من قبل» هم كفار قريش في قولهم أن الملائكة بنات الله، وأن اللات والعزى ومناة بنات الله، ولا يصح هذا لأن اليهود والنصارى لا يُضاهئون مشركي قريش، وإنما يضاهئون بالذات (أليهود أولا والنصارى من بعد) شرك المصريين، الذين أضاعوا عقيدة التوحيد الخالص قبل عصر التاريخ المدون واستبدلوا بها خرافات الكهنة، وخيالات الفلاسفة الذين كان آخرهم «أفلطوين» المصري الأسيوطي (وهو من أعلام القرن الثالث الميلادي) صاحب نظرية الفيض والانبثاق عن الذات الإلهية، وأيضًا تهاويل الأساطير، يكفيك منها أسطورة إيزيس وأوزوريس، التي تلمح الكثير من ظلالها في عقيدة التثليث. ويكفيك أيضًا أن أول من أصل هذه البنوة على مبادئ فلسفة «أفلوطين» المصري الأسيوطي، مصري آخر من الإسكندرية، هو أسقفها «أثناسيوس»، قال بها وناضل عنها حتى استصدر بها في مجمع نيقية عام 325م مرسومًا من القيصر البيزنطي «قسطنطين»، يؤله المسيح على البنوة لله بعد ثلاثة قرون من رفع المسيح. نعم، قد كان مولد المسيح عليه السلام بغير أب معجزة كبرى، ولكنها معجزة لله عز وجل لا للمسيح، شأنها شأن خلق آدم من تراب، لا أب لآدم ولا أم. بل هما معا دون خلق السموات والأرض: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57]. وأنت تعلم بيقين أن الله عز وجل هو صانع هذا الميلاد الإعجازي، فتعظم الفاعل ولا تعظم المفعول. إنه آية من آيات الله عز وجل يضربها للناس ليعرفوه بها ويعظموه، لا ليعظموا غيره وصنع يده: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43]. وكأنما كان عليه السلام يتنبأ بما سيقال من بعده فقال في الأناجيل التي بين يديك، يُناجي ربه وقد دنت ساعة رحيله عن هذا العالم: «وهذه هي الحياةُ الأبدية، أن يعرفوك، أنت الإله الحقيقي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/204]
وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يوحنا: 17/ 3)، يريد بالحياة الأبدية الحياة الآخرة، لا نصيب فيها لأحد ممن أرسل إليهم إلا من آمن بالإله الواحد، الإله الحقيقي وحده، وبيسوع المسيح رسولاً منه لا ابن. ولا تظن أن المسيح في الكتاب المقدس هو وحده المرفوع إلى السماء حيًا، فقد سبقه بها «إيليا» أي إلياس (الملوك الثاني 2/ 11 – 12)، ولا تحسب أيضًا أن المسيح في الكتاب المقدس هو وحده الذي أحيا الميت، فقد سبقه بها «اليشع» أي اليسع (الملوك الثاني 4/ 17 – 37)، ولكن اليهود لم يؤلهوا إيليا ولم يؤلهوا اليشع.
ولا تحسب أيضًا أن المصريين انفردوا بأساطير البنوة لله، فهذا قديم في خرافات من أشرك، قالت به عقائد الهند، وتغنت به أساطير الأولمب، وغير هذين في شرك الأقدمين كثير. ولا يقال لك أن القدم أصالة، فالوسواس الخناس أيضًا قديم. وإنما تأصل هذا القول عند من ابتدعه على تلك المناكحة بين السماء والأرض لاستيلاد الخلق، على مثال المطر والزرع، وهو قول شعراء يتبعهم الغاوون، فالماء من صميم مادة هذه الأرض، من الأرض يخرج وإلى الأرض يعود. إن قلت كما يقول البعض إن قدم التثليث والبنوة لله وشيوعهما في عقائد الأقدمين إرهاص بالتثليث المسيحي ودليل على صحته، فقد قلت شططًا كمسيحي، لأنك تعدد أبناء الله، فلكل عقيدة من تلك العقائد ابن، فلا يعود المسيح ابن الله الوحيد في قول من قال.
هؤلاء وأولئك – آباء هذه المقولة في أمم قد خلت من قبل – هم الذين يعنيهم القرآن بقوله: {يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} [التوبة: 30]. وسبحان العليم الخبير، فما عرف الناس هذا إلا في هذا العصر، بعد تأسيس علم مقارنة الأديان.
أما «عزير» المسمى في القرآن فليس في العهد القديم الذي بين يديك «عزير» ادعى عليه اليهود تلك البنوة لله، أو لقبوه بها على مجرد التعظيم والتبجيل. وإنما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/205]
الصحيح الذي نرجحه أن القرآن يحكي هاهنا مقولةَ يهود غير مسطورة في أسفار العهد القديم الذي بين يديك، تناقلها اليهودُ بعد عودتهم من سبى بابل، وربما لهج بها يهود في مكة أو يثرب، بدليل أنهم لمي نكروا على القرآن قوله هذا في قومهم، بل تواروا من هذه المقولة خجلاً، فموسى بلا شك عندهم بهذه المقولة أولى من هذا العزير المسمى في القرآن. أما وفد نصارى نجران فقد جاهروا بمقولتهم في المسيح وجادلوا بها خاتم النبيين في مسجده صلى الله عليه وسلم، لأن مقولتهم هذه هي صلب عقيدتهم، لو تراجعوا فيها قيد أنملة لما بقي لهم عذر في البقاء على مسيحيتهم، ولدخلوا في دين الله أفواجا، شأن الكثرة الكاثرة من أقباط مصر، والجم الغفير من نصارى الشام. أما نجران وتغلب وأضرابهما من العرب فقد قصرت بهم قبليتهم.
ولكن الذي نعني به في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب هو «عزير» نفسه، لا مقولة بعض اليهود فيه. الذي نعني به هو معنى اسمه، ومن يكون في أعلام بني إسرائيل.
«عزير» من بني إسرائيل بلا شك، لقوله عز وجل: {وقالت اليهود عزير ابن الله}، فهو منهم. وهذا الاسم حين ترده إلى أصله العبري، يجيء من الجذر العبري «عزر» المشترك في العبرية والآرامية والعربية على معنى العون والتأييد والنصرة. والقرآن لا يستخدم «عزر» إلا في هذا المعنى وحده. أما «عزره» بمعنى «لامه»، ومنه يجيء التعزير بمعنى التأديب أو العقاب بما دون الحد في اصطلاح الفقهاء، فليس في الجذر «عزر» العبري من هذا شيء، وإنما هو فقط بمعنى نصره وأيده وأعانه، تمامًا كما في صنوه العربي المضعف «عزر» الذي تجده في قوله عز وجل: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبوحه بكرة وأصيلا} [الفتح: 8 – 9].
واسم الفعل في العبرية من هذه المادة، يعني العون والتأييد والنصر والنصرة، له صورتان: «عزر» (بكسرتين متتابعتين)، «عزرا» بكسر فسكون فراء ممدودة بالألف). أما اسم الفاعل منه، أي العازر الناصر المؤيد المعين، فهو «عزير» التي تشبه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/206]
«عزير» التي في القرآن، ولكنها لا تنطق مثلها على زنة التصغير العربية «فُعَيْل» مثل «عُمَيْر» مصغر عمرو، «عبيد» مصغر عبد، وإنما تنطق ياؤها على الإمالة مكسورة الزاي قبلها، كما لو نطقت «زيد» العامية تريد «زيد» الفصحى، الاسمُ العَلَم.
وليس في أعلام العهد القديم من تسمى باسم الفاعل من «عزر» العبري، أي باسم «عزير» هذه الممالة الياء المكسورة الزاي. فلا يقال أن القرآن عرب «عزير» هذه على «عزير» مفتوحة الزاي ساكنة الياء، زنة العربية «فعيل» مثل عمير وعبيد، كما وهم المستشرقون المنكرون على القرآن، الذين تفكهوا في هذا المقام سخرية من «عزير» الذي في القرآن لمجيئه على زنة التصغير العربية، التي أولها بها العرب حتى قالوا في تصغير فرعون: فرى! وإنما الذي في أعلام العهد القديم من مادة «عزر» العبري الثلاثي المجرد هو «عزر»، «عزرا» تسمية بالمصدر واسم الفعل من «عزر»، أي «العزر» بمعنى النصر والنصرة.
ولكنك لا تحتاج إلى تقصي كافة من تسموا في العهد القديم بهذين الاسمين «عزر عزرا»، كي تقع على أيهم «عزير» المعنى في القرآن، فليس فيهم جميعًا نابه الذكر غير خامل، إلا علم واحد، هو «عزرا» صاحب السفر المعنون باسمه في العهد القديم، من أعلام القرن الخامس قبل الميلاد، كاتب شريعة الله، الذي قاد مسيرة اليهود في عودتهم إلى أورشليم من سبى بابل. والمروي عنه في مأثورات اليهود التي نقلها عنهم مفسرو القرآن الأوائل (راجع تفسير القرطبي للآية 30 من سورة التوبة) أنه كان أحفظ الناس لتوراة موسى، يتلُوها عن ظهر قلب أيام سبيهم في بابل، ويستنسخها من الذاكرة، فلما عاد إلى أورشليم وطابقوا كتابته على نسخة عثروا عليها تحت أطلال هيكل سليمان الذي خربه البابليون من قبل، وجدوا كتابته مطابقة لتلك النسخة حرفًا بحرف، فقيل «عزير ابن الله».
ولئن كان الأصل في معنى الاسم العلم «عزرا» أنه تسمية بالمصدر لا باسم الفاعل، أعني أنه بمعنى «نصر» لا بمعنى «ناصر»، فإن علماء التوراة يقولون لك إن المراد من التسمية ليس المصدر وإنما اسم الفاعل، فهو «عزر» بمعنى «عازر»، أي أنه عبريًا «عزرا» بمعنى «عزير» (المعربة على «عزير» في القرآن).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/207]
وقد مر بك من قبل أن القرن الخامس قبل الميلاد (قرن «عزرا» الكاتب) شهد غلبة الآرامية في ربوع فلسطين على عبرية التوراة، حتى كان جزء لا يستهان به من سفر عزرا هذا نفسه مكتوبًا بهذه الآرامية التي بات يتكلمها الناس، وحتى انبهمت توراة موسى على المتعبدين بها في نصها العبراني فلا يفهمون ما يُتْلَى عليهم حتى يفسره لهم اللاويون والكتبة. وقد كان هذا بتأثير السبى في بابل حيث الآرامية لغة الحديث والكتابة، يعني لغة السادة. وما عاد سبى بابل إلى أورشليم بقيادة عزرا الكاتب إلا وقد رانت على ألسنتهم جميعًا رطانة آرامية، ولم يأت القرن الثالث قبل الميلاد حتى بات عامة إسرائيل آراميي اللسان، فتقطع جازمًا آمنا مطمئنًا بأن هذه الآرامية قد كانت هي لغة المسيح ولغة إنجيله ولغة حوارييه وليس عبرية التوراة. وهذا يفسر لك فساد تلاوة الناس من أسفار هذه التوراة غير المضبوطة بالشكل والنقط، حتى جاء أمثال جماعة أهل الأثر (بعلى ماسورا) منذ القرن الثاني لميلاد المسيح يحاولون ضبطها بالشكل والنقط بعد أن فسدت ألسنة الناس. وهو يفسر لك أيضًا استغراق هذه المحاولة ثمانية قرون كاملة حتى تمت في القرن العاشر الميلادي، لا لسبب بالطبع إلا اختلاف الناس عليهم، يعني لم يكن على «قراءتهم» إجماع، حتى كُتِبَ لهم النصرُ أخيرًا على منتقديهم فصارت لقراءتهم السيادة على ما عداها.
والذي يعنينا هنا من هذا كله هو أن اسم «عزرا» هذا العائد من سبى بابل، تأثر بدوره بهذه الآرامية التي فشت على ألسنة الناس وأقلامهم، فهو مختوم في الرسم بألف مد، لا بتلك الهاء الخاملة «العبرانية» التي ختم بها «عزرا» آخر، صنوه في المعنى، أي على المصدرية من الجذر العبري: «عزر». هذه الصورة «الآرامية» المرسوم بها اسم «عزرا» الكاتب المعنى، ربما توحي لك بآرامية العلم التوراتي الذي عاش مع سبى اليهود في بابل يتلو عليهم من توراة موسى ويفسر لهم باللسان الآرامي ما يغمض عليهم، أعني أن اسمه اتخذ في السبى صورة آرامية.
وقد مر بك أن أداة التعريف في الآرامية هي «ألف مد» يختم بها الاسم ولا تبدؤه وكأنها ألف المنصوب في العربية. فتقول الآرامية «ملكا» تعني «الملك»، وتقول «كاتبا» تريد «الكاتب»، وتقول أيضًا «عازرا» (دون تنوين بالطبع في هذا كله) تعني «العازر» اسم الفاعل في الآرامية من «عزر»، فهو عربيًا العازر الناصر، لا العزر والنصر. والذي يجب أن تعلمه هو أن الرسم «عزرا» لا يفهم آراميًا إلا على معنى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/208]
اسم الفاعل مزيدًا بأداة التعريف الآرامية (أي بألف المد في آخره)، ولا يفهم آراميًا على المصدرية من «عزر» الآرامية، لأن مصادر الثلاثي المجرد في الآرامية تجيء على زنة «مِفْعال».
وقد مر بك أن جماعة «بعلى ماسورا» في ضبطهم نطق أسفار التوراة (أعني العهد القديم) بالشكل والنقط، ما كان لهم من سلطان على «أحرف» هذا النص المقدس، فما كان لهم بالطبع تغيير ألف المد في اسم «عزرا» الكاتب إلى الهاء الخاملة العبرانية، لأن عملهم كما تعلم اقتصر على «التشكيل» فقط. ولم يكن التشكيل عشوائيًا بالطبع، بل هو متأثرٌ بأستاذيتهم في عبرية التوراة، ينقونها مما علق بها من شوائب تلك الآرامية التي لحن بها الناس في قراءتهم النص المقدس. ومن هنا لا تحيل عليهم أن يجانسوا ضبط اسم «عزرا» الكاتب المختوم بألف المد الآرامية على صنوه، «عزرا» الآخر المختوم بالهاء الخاملة العبرانية، فيئول نطق «عازرا» (ويرسم في الخط العبري – الآرامي بغير ألف بعد العين أي «عَزِرا») إلى نفس نطق سميه «عزرا» الآخر المختوم بالهاء الخاملة العبرانية، فيظن أنهما واحد في المعنى. وهذا يفسر لك لماذا استجاز علماء التوراة فهم معنى اسم «عزرا» هذا وسميه الآخر، على معنى اسم الفاعل من «عزر»، لا على المصدرية منه.
أيُّما صح هذا أو ذاك – أعني آرامية اسم «عزرا» الكاتب أو عبرانيته – فالراجح عندي أن القرآن لم يأت بهذا الاسم «عزير» من فراغ، وإنما جاء به على نحو ما نطق به هذا الاسم يهود يثرب، الذين فهموا من هذا الاسم معنى اسم الفاعل من «عزر» العبري، فجاءوا به على الأصل العبري لزنة اسم الفاعل في العبرية «عزير» مضمومة العين مكسورة الزاي بعدها ياء ممالة.
ولكن العربية الفصحى، وأمها عربية القرآن، لا تعرف هذا الوزن (أعني «عزير» الممالة الياء) وإنما تعرفه فقط العربية العامية في نطقها أمثال «حسين»، «عبيد».
هذا الوزن العبري «عزير» الممالة الياء لا يتزن على أوزان العربية إلا إذا جئت به على أقرب الأوزان العربية إليه، وهو الوزن «فُعَيْل»، فتئول «عزير» الممالة الياء إلى «عزير» التي في القرآن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/209]
جاءت إذن «عزير» في القرآن على التعريب لا على التصغير كما وَهِمَ أدعياء الاستشراق. وهو أيضًا تعريب مفسر لا يحتاج من القرآن إلى تفسير آخر لمعنى هذا العَلَم الأعجمي لوحدة المادة اللغوية المنحوت منها لفظ «عزرا» العبري – الآرامي ولفظ «عزير» الذي في القرآن: غاية ما تفهمه من «عزير» إن حاولت فهمه عربيًا أنه «العزر» مصغرًا فهو «عزير» جاء نطقًا ومعنى على مثال «نصر» و«نصير» الفاشيين في أعلام العرب. وقد صاغت العربية أسماء نادرة على فعيل لا تريد منه التصغير، أشهرها «لجين» التي تفهم منها معنى «الفضة» لا «الفضيضة. والاسم «عزير» في القرآن بهذا أشبه.
ومن إعجاز القرآن الذي لم يلتفت إليه أحد، أنه يحدد لك شخص «عزير» المعنى بأنه «عزرا» الكاتب لا غيره. تستظهر هذا من قوله عز وجل معقبًا على «دعوى النبوة» التي أسبغت على عزير وعلى المسيح: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا منق بل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 30 – 31]، يعني كانت البنوة المدعاة لصنفين: عزير «الحبر»، والمسيح عبد الله ورسوله. وليست «الحبر» هي العالم بإطلاق على ما شهرت به، وإنما هي أيضًا «الكاتب» يحبر كتابته، شأن كتبة التوراة، وأحبار اليهود هم حفاظ التوراة وكتابها. وقد كان عزير (أعني عزرا الكاتب) عند اليهود هو هذا الكاتب الحبر. ولمي كن عزرا عند اليهود كاتبًا فحسب، ولكنه أيضًا كاهن كاتب «كوهين سوفير» (راجع في هذا النصين العربي والعبراني: نحميا 8/9). بل هو الأستاذ المعلم: «وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويين إلى عزرا الكاتب ليفهمهم كلام الشريعة» (نحميا 8/ 13)، مهيبًا جليلاً: «ووقف عزرا الكاتب على منبر الخشب الذي عملوه له لهذا الأمر، ووقف بجانبه متثيا وشمع وعنايا وأوريا وحلقا ومعسيا عن يمينه، وعن يساره فدايا وميشائيل وملكيا وحشوم وحشبدانة وزكريا ومشلام. وفتح عزرا السفر أمام كل الشعب، لأنه كان فوق كل الشعب» (نحميا 8/ 4 – 5).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/210]
أما قائل هذا الكلام، نحميا صاحب هذا السفر المعنون باسمه ضمن أسفار العهد القديم، فليس نبيًا ولا كاهنًا، وإنما هو والي فارس على إقليم «اليهودية» في فلسطين الذي آلت إليه «مملكة يهوذا» بعد الاحتلال البابلي وورثته فارس فيما ورثت عن بابل. ورغم سلطان نحميا في أورشليم المستمد من سلطان فارس، تراه وهو يهودي مثل عزرا يقول عن عزرا إنه «فوق كل الشعب» يسمع له نحميا ويطيع. وما ذاك إلا لأن ملك فارس، أرتحشتا ملك الملوك، سمع لعزرا واستجاب لكل سؤله حتى لتكاد تظن أنه انخلع من دينه ودخل في دين عزرا: «عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتبٌ ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه، كل سؤله (عزرا 7/ 6)، بل أعطاه تفويضًا على بياض: «من أرتحشنا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة غله السماء الكامل، إلخ. (عزرا 7/ 12)، يقول فيه: «ومني أنا أرتحشتا الملك، صدر أمر إلى كل الخزنة الذين في عبر النهر إن كل ما يطلبه منكم عزرا الكاهن كاتب شريعة غله السماء فليعمل بسرعة إلى مائة وزنة من الفضة، ومائة كر من الحنطة، ومائة بث من الخمر، ومائة بث من الزيت والملح من دون تقييد» (عزرا 7/ 21 – 22). ومن كانت هذه حظوته عند ملك الملوك: «قد صدر مني أمر أن كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين، أن يرجع إلى أورشليم معك، فليرجع. من أجل أنك مرسل من قبل الملك ومشيريه السبعة لأجل السؤال عن يهوذا وأورشليم حسب شريعة إلهك التي بيدك، ولحمل فضة وذهب تبرع به الملك ومشيروه لإله إسرائيل الذي في أورشليم مسكنه. وكل الفضة التي تجد في كل بلاد بابل من تبرعات الشعب والكهنة المتبرعين لبيت إلههم الذي في أورشليم. لكي تشتري عاجلاً بهذه الفضة ثيرانا وكباشا وخرافا وتقدماتها وسكائبها وتقربها على المذبح الذي في بيت إلهكم في أورشليم. ومهما حسن عندك وعند إخوتك أن تعملوه بباقي الفضة والذهب فحسب إرادة إلهكم تعملونه. والآنية التي تعطي لك لأجل خدمة بيت إلهك فسلمها أمام إله أورشليم. وباقي احتياج بيت إلهك الذي يتفق لك أن تعطيه فأعطه من بيت خزائن الملك» (عزرا: 7/ 13 – 20)، أقول من كانت هذه حظوته عند الملك، بل من كانت الشريعة بيمناه والمال بيسراه وسلطان الملك من ورائه، فلا تستكثر عليه أن يلهج الناس بحمد وتعظيمه حتى الإغراق، والمغالاة كما مر بك إسفاف لا تؤمن مغبته. وقد حدث.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/211]
شح العلم والعلماء في زمن عزرا الكاتب، فانفرد وحده بالكلمة في بني إسرائيل. لم يكن نبيًا، نعم. ولكنه كان أخطر من نبي. فإلى عزرا هذا وحده يعزي النص المقدس الذي استنسخه من ذاكرته لتوراة موسى التي بين يديك الآن، والذي لا تبعد به أبعد من قرن عزرا الكاتب، القرن الخامس قبل الميلاد، بعد وفاة موسى عليه السلام بنحو سبعة قرون.
تُرى إلى أي مدى صدقت ذاكرة عزرا، وكم حفظت أو ضيعت؟ علم هذا لله وحده. ألا ليت عزرا الكاهن الكاتب كان نبيًا تأتمنه على وحي الله، معصومًا بعصمة أنبيائه في البلاغ والتبليغ عن الحق تبارك وتعالى. إذن لجاءتك توراة موسى عليه السلام بنفس نصها المسطور في الألواح! لا عليك. حسبك القرآن المصدق المهيمن وفيه الكفاية، الذي تعهد الله بحفظه كاملاً غير منقوص إلى قيام الساعة، لا يتحرف أو يتبدل في الصدور، ولا يتصحف على يد النساخ.
ولا ينقضي القول في عزرا أو عزير قبل الإشارة (راجع تفسير القرطبي للآية 259 من سورة البقرة) إلى ما قيل من أعن عزيرا هذا هو ذاك الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} [البقرة: 259]. جاء القرآن بهذه المعجزة الكبرى في الإماتة والإحياء، يمهد بها للآية التالية مباشرة (البقرة: 260) في سؤال إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الله الموتى، فأمر بذبح أربعة من الطير ثم يجعل لحمها أخلاطًا يفرقها في قمم أربعة جبال ثم يدعوهن فيأتينه سعيًا، قد جمع الله كل جزء إلى جزئه، ثم نفخ فيهن الحياة. كانت كلتا المعجزتين أكبر من أختها، ولكن المعجزة التي أراها الله إبراهيم كان شاهدها إبراهيم وحده، أما الأخرى فكانت «آية للناس»، لأن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه عاد إلى قومه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/212]
يحدث بها، لم تنل المائة السنون من نضارته شيئًا، فلا يستطيع تكذيبه من بلغ به الكبر من قومه، الذين عرفوا فيه ذلك الفتى يوم خرج من قريتهم على حماره هذا نفسه يحمل طعامه وشرابه فافتقدوه مائة عام. ومن الناس من تكون آيات الله عليه عمى، المكذب والمسف سواء، فقيل «ابن الله» كما يحكي مفسرو القرآن.
ولا يصح أن يقال إن عزرا الكاتب هو هذا الرجل – إن قلت إن عزرا الكاتب هو نفسه عزير المسمى في القرآن – فتكون قريته هي تلك القرية الخاوية على عروشها التي خربتها بابل، أي أورشليم، إذن لكانت ميتته في أورشليم نفسها، ولما صعد منها في سبى بابل وعاد إليها بقومه يوم عادوا إلى أورشليم من هذا السبى، أو لعاد قومه إلى أورشليم وما زال عزرا في الميتة التي أميتها مائة عام، لم يشهد معهم إعادة بناء الهيكل الذي جاءوا من بابل لإعادة بنائه فور عودتهم، وعزرا الكاتب لم يشهد فقط إعادة بناء هذا الهيكل، وإنما شارك في إعادة بنائه مشاركة القائد الرئيس، بل الممول عن أمر ملك فارس. ولو كانت تلك الآية الكبرى في عزرا الكاتب لما فاتت على اللاهجين بمآثره في سفرى عزرا ونحميا على ما مر بك. بل ليس في العهد القديم كله، أو في الكتاب المقدس بشطريه، إشارة إلى شخص أماته الله مائة عام ثم بعثه.
وقد مر بك أن القرآن في «عزير» يكاد ينص بالاسم على عزرا الكاتب الحبر، في تعقيبه على دعوى البنوة لله. {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} [التوبة: 31]، فلا يترجح لديك قول بغيره.
ليس ما يمنع من أن يكون الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه رجلاً من غير بني إسرائيل لم يحيطوا به خبرا، ولكنهم علموه من القرآن فاصطنعوه كدأبهم لأنفسهم ثم حدثوا بقصته (المليئة بالتهاويل في تفاسير القرآن) مفسري القرآن الآخذين عنهم، الذين وجدوا فيها المبرر لانزلاق اليهود إلى دعوى البنوة على عزير، ابن الله في قول من قال.
الصحيح أن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه فكان من آيات الله كالفتية أصحاب الكهف، رجل لم يسمه القرآن، كما لم يسم أصحاب الكهف. وكل خبر في القرآن واقع لا محالة قد وقع. ولكن القرآن سرد الخبر وتكتم الاسم، فهو من غيب الله لا يخاف فيه، والله عز وجل بغيبه هو وحده العالم الأعلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 203-213]