دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #25  
قديم 29 ربيع الثاني 1443هـ/4-12-2021م, 11:38 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,756
افتراضي

(48) يونس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (48) يونس
«يونس» في القرآن، اسم نبي الله يونس بن متى عليه السلام، هي تعريب «يونا» العبرية في العهد القديم، التي شهرت بيونانيتها في أصول الأناجيل “Ionas” «يوناس» (مضافًا إليها سينُ الرفع اليونانية) وجاءت في ترجمات الأناجيل العربية «يونان» (بإضافة نون المنصوب في اليونانية أيضًا)، ولكنها شُهِرت عند العرب بصورتها السريانية المأخوذة عن اليونانية «يونس» بكسر النون، فعربها القرآن على ما شهرت به عند العرب، ولكن بضم النون، منعًا لشبهة فهمها من الأنس والإيناس، إن تركها على وزن «يفعل» اليوناني، أو على وزن «يفعل» السرياني. وقد مر بك هذا في تحليلنا اسم نبي الله يوسف عليه السلام، فارجع إليه.
وقصة يونس عليه السلام ترد في «العهد القديم»، أي «توراة الأنبياء والكتبة» في سفر مستقل معنون باسمه. ولأنك لا تجد ترجمة عربية لهذا العهد القديم في مجلد قائم برأسه أشرف عليها اليهود أنفسهم، وإنما تجد الترجمة العربية للعهد القديم مجموعة في مجلد واحد مع «العهد الجديد» في ترجمة عربية أشرف عليها المسيحيون العرب، فستجد سفر يونس هذا في ترجمته العربية المنقولة عن العبرية معنونًا – كما يجب أن تتوقع – لا باسم سفر يونس كما هو لفظه العربي، ولا باسم سفر يونا على أصله العبري، وإنما تجده معنونا باسم «سفر يونان» على ما شاع به اسم هذا النبي عند المسيحيين العرب: «يونان». وبهذا الاسم ديونان» ستجيء الإشارة إلى مقتبساتنا من هذا السفر عند الضرورة.
والذي ينبغي التنبيه إليه في هذا السياق، هو فضل المسيحية الضخم على ديانة اليهود: لولا إيمان المسيحيين بهذا «الوحي» الذي في توراة الأنبياء والكتبة، واعتبارهم المسيح عليه السلام مكملاً ومتممًا لهذا «الناموس» الذي يمثله العهد القديم، ولولا حاجتهم إلى استقصاء ما في العهد القديم من «بشارات» بمقدم المسيح
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/185]
وأوصافه وصفاته وإعجاز مولده إعمالاً لوصيته في الأناجيل: (فتشوا الكتب وهي تشهد لي)، بل قال اختصارًا لولا اتكاء العهد الجديد على العهد القديم، لما قامت المسيحية بهذا الجهد الضخم في دراسة أسفار توراة الأنبياء والكتبة، وترجمتها، ونشرها في بقاع الأرض بكل اللغات، ولو ترك الأمر لليهود أنفسهم لما ضربوا فيه بسهم، لا لكسل فيهم، وإنما لأنهم «يضنون بالخير على غير أهله» في وهمهم، أي على العالم كله من دونهم، لأنهم وحدهم «شعب الله» لا حاجة به إلى غيرهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وأنت بالطبع تحمد للمسيحية فضلها في خدمة أسفار اليهود، بحثًا وترجمة ونشرًا، إذ لولا المسيحية لبقيت تلك الأسفار حبيسة خزائنهم. ولكنك تحترز وأنت تقرأ أسفار اليهود في غير أصلها العبراني من شبهة تطويع الأصل لهوى المترجم في كل نص يراد منه الاستشهاد للمسيح أو لعقيدة التثليث، مثلما تحترز كل الاحتراز من شبهة «التشيع» في تفاسير القرآن والحديث. تحترز من المغالاة هنا وهناك، لأن المغالاة إسفاف، والإسفاف منزلق إلى الإثم الكبير.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى». وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، فقد قال عز وجل: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]، أي فضلنا كلا بمأثرة. وقال في خاتم النبيين: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} [النساء: 113]، وقال فيه عز وجل أيضًا: {إن فضله كان عليك كبيرا} [الإسراء: 87]. حسبك أنه خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الذي ختمت به النبوة والرسالة، والذي يختم به هو الأعلى لا الأدنى. ولكنك تفهم أيضًا من هذا الحديث – فوق دلالته على تواضعه صلوات الله عليه – أن الأنبياء جميعًا سواء في «فضل النبوة» لوحده الرسالة والقصد، ووحدة المرسل جل وعلا. وتلمح في هذا الحديث أيضًا صدى قوله عز وجل: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/186]
ولكن الله عز وجل يقول لخاتم النبيين: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} [القلم: 48 – 50]، أي لا تكن أنت كصاحب الحوت ذي النون – والنون في العربية يعني الحوت – يونس بن متى عليه السلام الذي لم يصبر لحكم ربه فالتقمه الحوت وهو مليم – والمليم هو الذي أتى ما يلام عليه – حين ذهب مغاضبًا، أي هاجر وتباعد: {وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]. وهو أيضًا يونس في قوله عز وجل لموسى وقد ولى مدبرًا ولم يعقب حين ألقى عصاه عن أمر الله فرآها تهتز كأنها جان: {فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا من بعد سوء فإني غفور رحيم} [النمل: 10 – 11]، أي يا موسى أنت معي آمن، فلا يخاف في حضرتي أنبيائي. ولكنه عز وجل علم أنه سيكون من يونس ما كان، أي سيفر يونس من وجهه عز وجل لا إليه سبحانه، فكان يونس بهذه «المغاضبة» ظالمًا، مليمًا أتى ما يلام عليه، ومن معاني الظلم في العربية أن تكون غير محق، تضع الشيء في غير موضعه، فلا يفر من وجه الله إلا ظالم، فما بالك بنبي وضع الله عز وجل عليه كنفه، أفيفر من كنف الله أحد؟ استثنى الله عز وجل من أنبيائه الذين لا يخافون في حضرته يونس الذي ظلم: ذكر ملامته، وذكر توبته، وعقب بمغفرته ورحمته، ولم يولد بعد يونس. فسبحان الذي ما فرط في الكتاب من شيء، الذي أحكم في القرآن كل قول قاله.
ولكن مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 11 من سورة النمل) تهيبوا القول بأن يكون في رسل الله من ظلم، فقال بعضهم إن الاستثناء بالذي ظلم استثناء منقطع، يعني إلا الذين ظلموا من عباده غير الأنبياء. وهذا ضعيف لا يتعمق معنى الآية، لأن خشية الله عز وجل وقر واقر في قلب كل مؤمن، نبي وغير نبي، والنبي بهذا أقمن وأجدر، فلا يخشى الله حق خشيته إلا عالم، ولا عالم كنبي، وليس هذا هو الذي لام الله عليه موسى، ولكنه ليم لأنه وهو في كنف الله عز وجل خشى على نفسه من ثعبان فولى مدبرًا ولم يعقب، ونسى أنه في حضرته عز
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/187]
ورجل آمن مؤمن، فذكره الله بها، فالمستثنى منه إذن في الآية هم الأنبياء حال كونهم في حضرته عز وجل، لا في عموم شأنهم وأحوالهم، والمستثنى هو يونس لأنه «غاضب» ففر من وجه الله عز وجل ولم يفر إليه سبحانه. أما الآخرون فقالوا إن الاستثناء لا شك متصل، أي أن من الأنبياء من ظلم، ولكنهم لم يخصوا بها يونس، وإنما عمموها في هفوات الأنبياء صلوات الله عليهم، من مثل غفلة آدم الذي نسى فأكل مما نهى عنه، وفتنة داود حين وقعت في قلبه امرأة صاحب جنده فأراده على تطليقها ليتزوج هو منها، وأيضًا يونس الذي أتى ما يُلاُم عليه حين ذهب مغاضبًا، والصغيرة من النبي في حكم الكبيرة من غيره. وليس هذا أيضًا هو معنى هاتين الآيتين من سورة النمل، لأن مقصودهما كما مر بك هو اللوم على خوف النبي في حضرة الله عز وجل حيث الأمن الذي ليس فوقه أمن، لا خوف النبي من ذنب أتاه، وهذا لم يفعله يونس، فلم يفر من وجه الله عز وجل لذنب أتاه، وإنما كان الذنب الذي ظلم به هو هذا الفرار نفسه. وقال بعض المفسرين أيضًا إن «الذي ظلم» في الآية لا يبعد أن يكون هو موسى نفسه، يذكره الله بذنبه حين وكز ذلك الرجل المصري فقضى عليه، وهذا ضعيف ممعن في الضعف، لأنه يتأدى بك إلى معكوس الاستثناء في قوله عز وجل «إلا من ظلم»، فيكون المعنى أنت وحدك يا موسى الذي تخاف في حضرتي غير آمن، لفعلتك التي فعلت، فلماذا لامه الله إذن على فراره مدبرًا لم يعقب؟ على أنك لا تعد موسى قاتلاً مرتكب كبيرة، فلم يرد قتل هذا المصري، وإنما قتله عفوًا بوكزة من يده في مدافعته عن رجل من قومه كاد المصري في اقتتالهما أن يبطش بالذي «من شيعته»، ولكن موسى عد هذا القتل غير العمد إثمًا بليغًا: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}، {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} وعاهد موسى ربه وقد تاب عليه ألا يكون من بعدُ ظهيرًا لمجرم ولو كان من شيعته: {قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرًا للمجرمين} (راجع الآيتين 15 و 16 من سورة القصص)، فقد تاب الله عز وجل على موسى ومحا عنه إثم هذه الفعلة وتأثمه منها الذي حاك في صدره: {وقتلت نفسا فنجيناك من الغم} [طه: 40]، قبل أن يبعث موسى إلى فرعون بعشر سنين قضاها موسى في مدين. وتستطيع أن تقول أيضًا إن الفرار من ثعبان مبين كالذي صارت إليه عصا موسى أمر طبيعي في حق البشر وإن كانوا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/188]
أنبياء، وليس هذا هو الذي ليم عليه موسى، وإنما ليم موسى لأنه «ولى مدبرًا ولم يعقب» يعني أدبر موسى فرارًا من هذا الثعبان لما وقع في قلبه من الخوف منه، وهذا طبيعي في حق البشر، ولكنه «لم يعقب»، أي لم يقفل راجعًا إلى ربه يلتمس الأمن من هذا الخوف عند السلام المؤمن المهيمن جلا وعلا.
على أن يونس عليه السلام أقر بظلمه في قول الله عز وجل على لسانه: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، وليس بعد هذا قول لقائل.
قد «ظلم» إذن يونس صلوات الله عليه. فكيف ظلم يونس؟
كانت نينوى – وتقع أطلالها اليوم قُبالة مدينة الموصل شمالي العراق – لا عاصمة الآشوريين وإنما عاصمة الشرق الأدنى القديم كله ما بين القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. كانت آشور تحكم بابل، فهي عاصمة آشور وبابل، ولم يكن قد بزغ بعد نجم الفرس الذين كان عليهم أن ينتظروا حتى الربع الأخير من القرن السادس قبل الميلاد. أما مصر فلم تعد لها اليد الطولى في أحداث الشرق الأدنى القديم منذ مهلك فرعون (رمسيس الثاني كما علمت) في خليج السويس أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد، بل استطاع «أسرحدون» الأشوري اقتحام مصر على عهد «طهرقا» (689 – 663 ق.م) وطارده حتى جنوبيها، ولقب نفسه ملك آشور وبابل ومصر، فأصبحت نينوى عاصمة العالم القديم كله دون منازع. ولكن هذه العظمة لم تدم طويلاً لنينوى، لأن بابل هبت من كبوتها فأسقطت آشور وفتحت عاصمتها نينوى حوالي سنة 607 ق.م، فكان هذا هو آخر عهد نينوى بالعظمة، بل بالوجود كمدينة، فلم يبق البابليون منها إلا خرائب وأطلالا.
وإلى نينوى هذه أرسل يونس عليه السلام كما تقرأ في العهد القديم: «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها لأنه قد صعد شرهم أمامي» (يونان 1/ 1 – 2). ولكن يونان – أي يونس – شق عليه الأمر، وكأنما خشى على نفسه من مصاولة هذه المدينة العظيمة وفيها ملك جائر (كما فرق موسى من قبل من مواجهة فرعون في مصر فقال هو وأخوه هرون: {قالا ربنا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/189]
إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} [طه: 45]، على نحو ما تقرأ في العهد القديم: «فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب فنزل إلى يافا ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب» (يونان 1/ 3)، فكان من أمره مع أصحاب السفينة ما تعلم: عصفت بهم الريح وهاج البحر هياجا لم يعهدوا مثله، فظنوا أنه من ركابها ظالم آبق، واقترعوا على ركاب السفينة أيهم الظالم الآبق، فكان يونس، فألقوه في البحر، فهدأت الريح وسكن البحر، واستقامت لهم السفينة بعد خلاصهم منه. أما يونس فقد التقمه حوت كأنما كان ينتظره. ولكن الله أمر الحوت ألا يمس منه شعرة. ومكث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، وهو قائم يستغفر ويسبح. حتى أمر الله الحوت أن يلفظه إلى البر سليمًا معافى: «ثم صار قول الرب إلى يونان ثانية قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها» (يونان 3/ 1 – 2)، فذهب يونان من فوره إلى نينوى وقال لأهلها: «بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى» (يونان 3/ 4) ولكن أهل نينوى، على غير دأب الذين تبعث فيهم الرسل، آمنوا بيونس، وصدقوا وعيد الله على يديه، الملك والرعية، فرجعوا عما هم فيه من ضلالتهم: «ونادوا بصوم ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم» (يونان 3/ 5)، وقالوا: «لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه فلا نهلك» (يونان 3/ 9). «فلما رأى الله أعمالهم أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه» (يونان 3/ 10). أما يونان فقد اغتم لهذا غمًا شديدًا، وكأنه قال في نفسه فيمَ إذن كان هذا العناء، وفيم كانت بعثتي إلى هؤلاء والله يرق ويرحم: «فغم ذلك يونان غمًا شديدًا فاغتاظ وصلى إلى الرب قائلاً آه يا رب، أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي. لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش لأني علمت أنك إله رؤوف رحيم وبطيء الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر، فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خير من حياتي» (يونان 4/ 1 – 3). ترى هل كان يونان يتمنى إيقاع الوعيد بأهل نينوى رغم توبتهم كيلا يقال أوعد يونان فأخلف الله وعده؟ هذا هو ما يقوله لك السفر: «وخرج يونان من المدينة وجلس شرقي المدينة وصنع لنفسه هناك مظلة وجلس تحتها في الظل حتى يرى ماذا يحدث في المدينة» (يونان 4/ 5). ثم تفهم من السفر أن الله عز وجل أراد أن يبرر ليونان سبب تجاوزه عن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/190]
إيقاع العذاب بأهل نينوى: إنه الرحمة والشفقة منه تبارك وتعالى لا التوبة من جانبهم «فأعد الرب الإله يقطينه فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه لكي يخلصه من غمه. ففرح يونان من أجل اليقطينة. ثم أعد الله دودة عند طلوع الفجر في الغد فضربت اليقطينة فيبست. وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحًا شرقية فضربت الشمس على رأس يونان فذبل، فطلب لنفسه الموت وقال موتي خير من حياتي. فقال الله ليونان هل اغتظت بالصواب من أجل اليقطينة؟ فقال اغتظت بالصواب حتى الموت. فقال الرب أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها ولا ربيتها، التي بنت ليلة كانت وبنت ليلة هلكت. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم وبهائم كثيرة؟» (يونان 4/ 6- 11).
بهذا التبرير لتجاوز الله عن إيقاع العذاب بأهل نينوى بعد توبتهم، ينتهى سفر يونان في العهد القديم. وبغض النظر عن بعض العبارات التي تنبو عن أدب الحديث في جنب الله عز وجل، من مثل «الله يندم» (في الأصل العبراني «وينحم ها إلوهيم» من الجذر العبري «نحم) التي تفرق منها أذن المسلم وإن ألفتها أسماع أهل التوراة، وبغض النظر أيضًا عن سمات في أسلوب هذا السفر تذكرك بأساليب كاتب سفر التكوين حتى تكاد تظن الكاتب في السفرين واحدًا، وتهبط بكتابة سفر التكوين إلى عصر متأخر عن أحداثه، كما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. بغض النظر عن هذا وذاك، فإن وقائع سفر يونان تتقارب كل التقارب مع قصة يونس في القرآن، ولكن ترتيب هذه الوقائع في السرد القرآني مختلف.
وهو اختلاف بالغ الخطورة، لأنه هو الذي يحدد لك كيف «ظلم» يونس، وفيم كانت ملامته.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/191]
يقول لك سفر يونان إن ملامة يونس التي استحق بها عقابَ الحبس في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، كانت هي نكوله عن حمل أعباء الرسالة إلى أهل نينوى، أشفق منها وفر هاربا من وجه الله عز وجل. ولا يفعل هذا نبي اختاره الله على علم.
ويقول لك القرآن أن ملامة يونس التي قذفت به إلى بطن الحوت هي أنه ذهب مغاضبًا: {وذ النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} [الأنبياء: 87]، أي أنه عليه السلام غضب فغاضب، وبديهي أنه لم يغضب من الله عز وجل لإنزاله الرسالة عليه فهجر الله وتباعد عنه، وهذا معنى المغاضبة في اللغة، وإنما المعنى أنه عليه السلام لم يَصْبِر لحكم الله عز وجل في أهل نينوى، أي إمهالهم حتى يتوبوا ثم يرفع العذاب عنهم، ليكونوا مضرب المثل في قوله عز وجل: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} [يونس: 96 – 98]، ولكن يونس غضب من هذا، وكأنما ساءه عفو الله بمحض التسبيح والتوبة عن قوم أرسل لهدايتهم لا لإيقاع العذاب بهم، فخرج من المدينة مغاضبًا، أي هجر وتباعد، فكان من أمره في السفينة وفي بطن الحوت ما تعلم، كي يعلمه الله عز وجل أن التوبة والتسبيح هما وحدهما السبيل إلى الرحمة والعفو: حبسه في بطن الحوت لا ملجأ له من الله إلا إليه، يقر بذنبه، فيسبح ويستغفر، مثلما فعل قومه حين سمعوا وعيد الله على يديه، لم يصروا على ما فعلوا، وأيضًا لم يقنطوا. بهذا نفسه نجى يونس: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} [الصافات: 143 – 148]. كان مجيء يونس إلى قومه قبل التقام الحوت إياه، لا بعده كما تجد في سفر يونان. وكان إنبات اليقطينة عليه عقيب أن لفظه الحوت إلى البر مباشرة لحاجته إلى ظلها في العراء وهو سقيم، لا لينام مستروحًا في ظلها ينتظر إيقاع العذاب بأهل نينوى ليتشفى فيهم كما يقص عليك الكاتب في العهد القديم، فقد صنع لنفسه من قبل مظلة يتظلل تحتها كما يروى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/192]
الكاتب. وإنما احتاج الكاتب إلى هذا بعد أن خلط في أحداث القصة، وفاته درس الحوت الذي استنفده في عقاب يونس على رفضه الرسالة إلى نينوى – وهو محال في جنب رسل الله كما مر بك – فافتعل من عنده «درس اليقطينة» التي فرح بها يونان فرحا شديدًا لا تدري لماذا، ثم أماتها في ليلة فحزن لموتها يونان أيضًا حزنًا شديدًا، بل واغتاظ لموتها حتى طلب لنفسه الموت، وأنت الذي تغيظك هذه المبالغات والتهاويل، كي يقول له الله في النهاية مسكنا غيظه على اليقطينة التي أحبها حتى الموت إنه أقمن بالشفقة على عباده، مائة وعشرين ألف خلق من خلقه صنعهم بيديه، عدا بهائم كثيرة في المدينة، وكأنه عز وجل – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – يعتذر لنبيه عن إشفاقه على أهل نينوى، الذين رحمهم لكثرتهم لا لتوبتهم. فأين درس اليقطينة في هذا السفر من درس الحوت في القرآن؟ بل ما الحكمة من إرسال الرسل إذا كان الله يرحم العصاة في هذه الدنيا من أجل كثرتهم فلا يهلكهم بذنوبهم؟ بل هذا هو ما قاله يونان لله في ذلك السفر يبرر بها نكوله عن تلقي الرسالة إلى نينوى حين نكل، وكأنما يعاتبُ اللهَ بها، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا: «آه يا رب! أليس هذا كلامي إذ كنت بعد في أرضي؟ لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إله رؤوف ورحيم وبطيئ الغضب وكثير الرحمة ونادمٌ على الشر. فالآن يا رب خذ نفسي مني لأن موتي خيرٌ من حياتي» (يونان 4/ 2 – 3) يعني أن يونان لم يُخطيء في فراره من تلك الرسالة لأنها عَبَثٌ في عبث، فسيرحم الله في النهاية، كما كان عبثًا في عبث حبسه في الحوت. ولكنك لا تتوقف لتناقش يونان في هذا القول الذي قاله، فلا يقول نبيٌ هذا الكلام، والذي في السفر من هذا وأمثاله لا يدخل في وحي الله على رسله، وإنما هو عبث انساق إليه قلم الكاتب.
أما قصة يونس في القرآن، فتجد مجملها في قوله عز وجل: {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين} [الصافات: 139 – 148]. والإمتاع في اللغة هو الاستبقاء، أي آمنوا فأبقينا عليم ولم نهلكهم، فالإيمان يجب ما قبله كما قال الصادق المصدوق
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/193]
صلى الله عليه وسلم لمن شَرَطَ عليه العفو عما سلف من ذنوبه قبل إسلامه فقال له: الإسلام يجب ما قبله، أي يسقطه، ولكن غلب «التمتع» في التنعم، وكلاهما «مراد» في الآية. أما «فمتعناهم إلى حين» فهي من إعجاز القرآن، لأن نينوى ضلت وأفسدت من بعد، فأرسل الله عليها البابليين فاستأصلوا شأفتها، مثلما بعثهم الله على بني إسرائيل بعد هذا ببضع سنين فدمروا أورشليم على أهلها.
وربما قيل لك: فماذا تقول في هذا السرد الذي في سورة الصافات الذي يفهم منه أن مجيء يونس إلى «مائة ألف أو يزيدون» - أي إلى أهل نينوى – قد كان بنص القرآن بعد انتباذ الحوت إياه «بالعراء وهو سقيم»: {فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} [الصافات: 142 – 147]، قد التقمه الحوت إذن قبل أن يصدع بأمر الله فيذهب إلى نينوى منذرًا متوعدًا، تماما كما في سفر يونان، فماذا تقول في هذا؟ الرد بسيط. هذا المعترض يغفل مفتتح الآيات الإحدى عشرة من سورة الصافات التي تقص بعثة يونس، وهي: «وإن يونس لمن المرسلين»، ثم يستطرد النسق القرآني المعجز إلى ما كان من أمر يونس حين «أبق»، ليعود فيقص عليك ما كان من شأن القوم الذي كان يونس رسولا إليهم قبل إباقه: كانوا مائة ألف أو يزيدون، وكأنه يرد على تساؤلك: إذا كان يونس من المرسلين، فإلى من أرسل يونس؟ إلى مائة ألف أو يزيدون! ثم ينتهي السرد المعجز لينبئك بمصير المرسل إليهم: آمنوا بيونس فمتعهم الله إلى حين: كي تظل هذه الحكمة واقرة في أذنك، لأنها الحكمة المقصودة من قصة يونس، كي تقارن مصير من كفر من الأمم بمصير من آمن. أما درس الحوت فهو موعظة للأنبياء من بعد يونس، لا لك أنت، فليس لك في هذا نصيب. وقد كان خاتمُ النبيين في قومه أرفق النبيين، لا يستعجل لهم قط العذاب، وقد لقى منهم أشد ما لقى نبي من قومه، فلا يزيد على أن يقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». رغم هذا فقد وعظ خاتم النبيين بموعظة يونس: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} [القلم: 48].
كانت هذه بالضبط ملامَة يونس: لم يصبر لحكم ربه، أي شق عليه قضاء الله في قومه برفع العذاب عنهم، فذهب مغاضبًا وأبق إلى الفلك المشحون، وقلما يقال
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/194]
«أبق» في العربية إلا في العبد الآبق من مولاه، وكان يونس هو هذا العبد الآبق من عفو الله عن قومه فضيق الله عليه في ظلمات البحر والحوت، حتى فهم الدرس، ثم أعاده إلى قومه هاديًا مرشدًا، يرجو لهم الرحمة ولا يطلب لهم الضيقة، فقد ضيق الله عليه من قبل في بطن الحوت: {إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48].
والذي يجب أن تعلمه هو أن «يونا» اسم نبي الله يونس عليه السلام في العبرية يعني بذات لفظه العبري أيضًا «الذي ظلم ولم يعدل» (إي صدق «عبريا) التي جانس عليها القرآن قول يونس: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، أي ما أنصف يونس في إباقه من رحمة ربه، يفسر بها أحد معنيي هذا الاسم العبراني «يونا»، كما سترى، وسبحان العليم الخبير.
لفظة «يونا» في المعجم العبري معناها «الحمامة» الطائر المعروف. وعلماء التوراة على أن الاسم العبراني العلم «يونا» (يعني يونس) من هذا: يونس = حمامة.
والذي يجب أن تعلمه أن هذا الاسم العلم «يونا» اسم لم يتسم به قبل يونس أحد قط من أعلام التوراة، فهو اسم غير مسبوق، وكأنه موضوع له بالذات فشا من بعد في بني قومه نسبة إليه، كما رأيت من قبل في يوسف وموسى وهرون.
أما الذي لا نعلمه أنا وأنت وعلماء العبرية وعلماء التوراة، فهو المعنى الذي قصده متى أبو يونس (وأصل «متى» هو «أمتاي» يعني عبريًا «الأمين» قائل الصدق من «إمت» العبرية بمعنى الأمانة والحق والحقيقة) من تسمية ابنه «يونا»: هل أراد معنى «الحمامة» أم أراد معنى آخر من هذا اللفظ «يونا»، يتطابق رسما ونطقا في الخط العبراني مع لفظ «يونا» بمعنى «حمامة»؟
لستُ في هذا جادًا بالطبع، ولكني أقرب لك المعنى الذي أريد أن أصل بك إليه: الوزن «يونا» وأمثاله في العبرية (المختوم بهاء خاملة لا عمل لها إلا إشباع المد بالفتح قبلها) هو زنة الفاعل على التأنيث، ولئن جاز في العلم المذكر التسمية بالمؤنث، فهو المؤنث اللفظي لا المعنوي، فتسمى ابنك مثلاً «حمامة» أو «نخلة» أو «شمس»، لا تنعته بمؤنث، وإنما تنظر إلى صفات الحمامة أو النخلة أو الشمس، على التشبيه،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/195]
ولكن لا يجوز لك قط تسمية المذكر بنعت مؤنث، فتسمي ابنك مثلاً «جميل»، ولا تسميه قط «جميلة». وليست في العبرية قط نعت يطابق «يونا» في الرسم والنطق ويغايره في المعنى، إلا النعت المؤنث «يونا» يعني «ظالمة»، ومنه «عير يونا»، يعني «قرية ظالمة» كالتي بعث فيها يونس، وبعث في مثلها الأنبياء من قبله.
لا يصح إذن في معنى العلم العبراني المذكر «يونا» إلا معنى واحد هو «حمامة».
ولكن القرآن المعجز، الأفقه بالعبرية من أهلها، ينظر إلى المعنى الآخر الذي في النعت المؤنث «يونا»، اسم الفاعل المؤنث من الجذر العبري «يناج، أي «الظالمة» حين جانس على اسم «يونس»، «الحمامة التي ظلمت»، مشيرًا إلى إباق يونس حين أبق: {إلا من ظلم ثم بدل حسنا من بعد سوء فإني غفور رحيم} [النمل: 11]، وأيضًا في قول يونس وقد أقر بظلمه في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]، التي تترجمها إلى العبرانية هكذا: كي مي يونيم أنى.
كفاك بهذا إعجازًا في فقه العبرية دونه كل إعجاز، وسبحان الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 185-196]


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:25 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir