(40) طالوت:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (40) طالوت
مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن القرآن يخالف التوراة في تسمية أول ملوك بني إسرائيل: قالت التوراة: «شاؤول»، وقال القرآن «طالوت».
وقد زعم بعض المستشرقين المنكرين الوحي على القرآن، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أخطأ خطا بينا في تسمية شاؤول: قبلت له شاؤول فوقعت في سمعه طالوت، ولم يتثبت. وأنصف بعضهم – أو تحرى بعض الإنصاف ولم يستوف – فقال ان محمدًا صلى الله عليه وسلم علم من وصف هيئة شاؤول في التوراة إفراط شاؤول في الطول، فلقبه بكنية يستفاد منها المبالغة في الطول، فقال «طالوت» على الإبدال من اسمه الأصلي في التوراة «شاؤول» عالمًا أو غير عالم بهذا الاسم الذي لطالوت في التوراة.
ولم يتصد هؤلاء – كما لم يتصد القرطبي رحمه الله في تفسيره الآية 247 من سورة البقرة – لسبب عدول القرآن عن «شاؤول» إلى طالوت، ولو علمه المستشرقون لما ملكوا إلا أن يشهدوا لهذا القرآن بإعجاز فوق إعجاز، كما سترى. ولكن الهدى هدى الله، والله عز وجل لا يهدي إليه إلا من أناب.
رسما «شاؤول» بالألف بعد الشين على ما شاعت به في «الكتاب المقدس» (وترسم فيه أيضًا بواو غير مهموزة «شاول»)، وصحيحها في العبرية «شؤول»، على زنة «فعول»، زنة اسم المفعول في تلك اللغة، و«شاؤول» مفعول من «شأل» العبري، مكافئ «سأل» العربي بكل معانيه، وأخصها المعنى هنا الطلب، تقول سألت الله عز وجل، يعني طلبت منه وتمنيت عليه: {يسأله من في السموات والأرض
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/134]
كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29] أي أنه جل وعلا الساعي في حوائج الخلق أجمع، كل يوم هو في شأن هذا وذاك وتلك، المستخفي بالليل والسارب بالنهار، لا يغفل عن النملة في أديم الأرض، ولا يسهو عن النبتة في صميم الجبل. وهذا من دقيق القرآن، لو تأملته لساخت نفسك، ولخشع العقل وانفطر القلب.
«شاؤول» إذن معناها عبريًا «مسؤول» بمعنى موضع السؤال والطلب، فهو «طلبة» أو «سؤل» أو هو «المنة» و«الفضل»، كما قال عز وجل يستجيب لموسى: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى} [طه: 36 – 37]، يعني قد طلنا عليك بما سألت، أي طلنا عليك بسؤلك الذي سألت، وهذا شبيه بما سأله صموئيل لقومه: سألوا الله على لسان هذا النبي أن يبعث عليهم الله ملكا، فطال الله عليهم به، وكان لهم سؤلهم الذي سألوا.
والقرآن المعجز، الذي لم يفته معنى «السؤال» الذي في شاؤول العبرية كما ظن المتطفلون على المباحث اللغوية من أدعياء الاستشراق المنكرين الوحي عليه، يجيء بشاؤول على «طالوت» العربية التي تجمع بين معنيين كما سترى: الذي طال الله به على قومه، والطوال الذي فاق بطوله كل أقرانه. فأي إعجاز وأي علم!
كان شاؤول رجلاً طوالا، يعني مفرطًا في الطول، لا يتجاوز كتفيه أحد من قومه: «فوقف بين الشعب فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق» (صموئيل الأول 10/ 23) فكان طول قامته من دواعي تقبلهم له واجتماعهم عليه: «فقال صموئيل لجميع الشعب أرأيتم الذي اختاره الرب أنه ليس مثله في جميع الشعب؟ فهتف له كل الشعب وقالوا ليحيى الملك» (صموئيل الأول 10/ 24).
والقرآن يعبر عن فرط طول قامة شاؤول بالبسطة في الجسم. ولكن القرآن يزيد قارئه بيانًا: {وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/135]
والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 247]، يذكرهم بأنهم هم الذين استخاروا الله فيمن يملكون عليهم، وقد اصطفاه الله من دونهم، فلا قول بعد هذا لقائل. ولكنه عز وجل يتلطف، فيبين لهم أسباب الاصطفاء لهذا المنصب: لا عبرة بسعة المال، وإنما العبرة بالبسطة في العلم اللازم لإدارة شؤون الملك، وبالهيئة التي تحفظ الهيبة، وقد اجتمعا في «طالوت» طويل القامة الذي طال الله عليهم به.
طال يطول طولا (مضموم الطاء في المصدر) يعني طالت قامته فهو طويل.
أما طال يطول طولاً (بفتح الطاء في المصدر) فمعناه طالت قامته حتى فاق أقرانه فهو طوال. ومعناه أيضًا أفضل ومن أنعم: طاله بكذا، وطال عليه به، يعني جاد عليه بالفضل والمنة. والاسم من هذا، أي المطول به، هو الطيل، والطال والطالة أيضًا.
وقد وصف الله عز وجل ذاته العلية بذي «الطول» (غافر: 3) يعني المنعم المفضال المتفضل.
و«طالوت» مصدر صناعي من «الطال» على هذين المعنيين كليهما، الطوال والطال، كما قيل «ناسوت» من «الناس»، جاء بها القرآن ولم تسمع من العرب، إدلالاً بعلمه وإعجازه، فيجيء بشاؤول المعنى لا يسميه باسمه مترجمًا فحسب ولكنه يصوره لك أيضًا بصفته: لا تقرأ «طالوت» أو تسمعها إلا وتراه أمامك، الطوال العملاق. وسبحان العليم الخبير.
وقد فطن مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 247 من سورة البقرة) إلى معنى «الطوال» الذي في «طالوت». ولكنهم، وقد علموا من أحاديث أهل الكتاب أن طالوت اسمه في التوراة «شاؤول»، لم يفطنوا إلى ما في «طالوت» من معنى الطيل والطال والطالة، أي الامتنان على السائل بما سأل، أي السؤل، معنى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/136]
اسم «شاؤول» عبريًا. وهم لم يفطنوا إلى هذا لأنهم لم يعلموا أن شاؤول عبريًا معناها «السؤال» عربيًا، وما كان لهم أن يعلموا هذا لأنهم لا يقرءون التوراة مباشرة في نصها العبري، ولأنهم أيضًا، وهذا أهم، لم يتوفروا على دراسة عبرية التوراة بالقدر اللازم لتأصيل معاني أعلامها.
أما لماذا عدل القرآن عن «شاؤول» إلى «طالوت» التي لا وجود لها بذاتها أو بوجه قريب منها في أسفار التوراة التي بين يديك، فهذا كما مر بك هو منهج القرآن في التعريب: يعدل عن التعريب إلى الترجمة حين يُسيء التعريب إلى المعنى:
إن قال في «شاؤول» شؤول على أصلها العبري، اختلط معناها بمعاني الجذر العربي «شال» بالشين غير مهموز، فعل العقرب، تشول عليك بذنبها، وهذا بعيد تمامًا عن معنى الجذر «شأل» العبري المهموز المكافئ لـ «سأل» العربي بالسين.
وإن قال في تعريب «شاؤول» «سؤول»، أي شؤول العبرية معدولاً عن شينها إلى السين، شأن القرآن في الأعلام العبرية ذوات الشين، مثل «شلومون» المعربة على «سليمان»، أخذها القارئ بمعنى «سؤول» العربية يعن الكثير السؤال، أي السائل الملحف في السؤال، أي أخذها بعكس معناها في العبرية: السؤل، موضع السؤال.
وقد كان في متناول القرآن بالطبع أن يترجم «شاؤول» بمكافئها العربي الدقيق، أعني «سؤل» أو سول (غير مهموزة، قد سمعت من العرب بمعنى «سؤل» المهموز)، أو يترجمها بفعل آخر بنفس معناها، وهو الطلب، فيقول «طلبة» (كما نسمي نحن في أعلامنا الآن فنقول «طلبة» بضم الطاء على معنى «البغية»).
ولم يفعل القرآن هذا لأن «سول» غير المهموزة تختلط عند القارئ العربي بمعنى «التسويل» وهذا من معنى «شاؤول» العبري بعيد. ولأن «سؤل» و«طلبة» ليس لهما من الجرس القرآني الذي عهد نصيب.
أما «طالوت» التي جاء بها القرآن – وهي من مستحدثات القرآن – يصيب بها الاسم والصورة معًا، فهي شأو في الترجمة بعيد، دونه قطع الرقاب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/137]
فسر القرآن إذن العلم العبراني «شاؤول» بالترجمة، فقال «طالوت»، والتفسير في القرآن بالترجمة يغني عن كل تفسير. ولكن القرآن يفسر أيضًا معنى هذا الاسم الأعجمي وهو الطلبة والبغية والسؤل، بالتصوير، في قوله عز وجل: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} [البقرة: 246]، أي سألوا الله على لسان هذا النبي ملكًا يقاتلون معه في سبيل الله، فاستجاب الله سؤلهم بشاؤول ملكًا.
ولعلك تلاحظ هنا أن «شاؤول»، شأنها شأن كثير من أعلام التوراة، تشبه أن تكون كنية يتكنى بها العلم المقصود بعد تحقق الصفة والحال، أي ما كان شاؤول «سؤلاً» يوم ولد، وإنما يوم ملكه الله عليهم بسؤالهم إياه.
وطالوت العربية من هذا أيضًا بلا جدال، فلا أحد يتسمى يوم مولده بالطوال العملاق، إلا أن يراد منها المعنى الآخر، الفضل والمنة، الذي تأخذه من الطال والطالة، فلا تدري أي الاسمين كنية، ولا تدري أيضًا أي الكنيتين أسبق من الأخرى في تسمية هذا الملك.
أما لماذا جاءت «طالوت» في القرآن – وهي عربية – اسمًا ممنوعًا من الصرف غير منون، فالوجه عندي أن أخص سبب لهذا هو الإشارة إلى عجمة صاحب الاسم العلم).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 134-138]