دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #39  
قديم 5 جمادى الأولى 1443هـ/9-12-2021م, 03:58 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,754
افتراضي

(61) الروم:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (61) الروم
وردت الروم مرة واحدة فحسب في كل القرآن، في سورة افتتحت بهم فسميت باسمهم «الروم» قال عز وجل: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 1 – 6].
وهذه الآياتُ الست كما ترى، من فرائد إعجازات القرآن في نبوءات القرآن.
ولكن علماء القرآن الذين طالما استدلوا بهذه الآيات على إعجاز القرآن في نبوءات القرآن، لم يوفوا هذه الآيات حقها من الإعجاز، لأنهم تابعوا قدامى المفسرين (راجع تفسير القرطبي لهذه الآيات من سورة الروم) الذين احتفلوا لتحقق النبوءة بانتصار الروم في بضع سنين من نزول الآيات – والبِضْعُ هو من الثلاثة إلى ما دون العشرة، وقد تحققت النبوءة بالفعل، فتوقفوا عند هذا ولم يلتفتوا إلى أن الآيات لا تحتفل لانتصار الروم بعد هزيمتهم، فتوقفوا عند هذا ولم يلتفتوا إلى أن الآيات لا تحتفل لانتصار الروم بعد هزيمتهم، فلله الأمر من قبلُ ومن بعد، ولكنها توقت للمسلمين يوم انتصارهم في بدر، يوم ينصر الله المؤمنين فيفرحون بنصره، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.
أما «الروم» المعنيون في الآيات، فهم الروم البيزنطيون، أصحاب القسطنطينية (استانبول من بعد أو الآستانة)، الناطقون باليونانية، لا الروم الغربيون، أصحاب روما، الناطقون باللاتينية. فقد انهارت إمبراطورية الروم الغربية نهائيًا بسقوط روما في أيدي القوط عام 476م، ولم يَعُد من «الروم» عصر نزول القرآن مطلع القرن السابع الميلادي سوى رومُ المشرق، أعني روم «بيزنطة» التي ورثت
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/367]
مجد روما القديم وخلفتها على أقاليمها في مصر والشام، بالإضافة إلى أراضيها الأصلية في البلقان، وآسيا الصغرى (الأناضول).
ولأن حكام بيزنطة كانوا سلالة من قياصرة روما عند انقسام الإمبراطورية عام 395م إلى غربية في روما وشرقية في بيزنطة، فقد تسمى الملوك البيزنطيون أيضًا باسم القياصرة (المأخوذ من اسم قيصر كما تعلم): قيصر في روما وقيصر في بيزنطة. وما أن سقطت روما في أيدي القوط وآل فيها الحكم إلى أقوامٍ من غير الروم، حتى بات قيصر بيزنطة وحده هو القيصر، وباتت بيزنطة، أو القسطنطينية، الوريث الشرعي لمجد روما القديم. بل باتت بيزنطة هي «روما»، ليس فقط في أعين البيزنطيين أنفسهم، الذين لم يتردد بعضهم في إطلاق اسم روما مجازًا على عاصمتهم وإنما أيضًا وبالأخص في أعين أهل الأقاليم التابعة الذين لمي روا في انتقال تبعيتهم من روما إلى بيزنطة سببًا يدفعهم إلى تعديل مسمى الدولة التي يخضعون لها: إنهم القصير وولاة القيصر، وهم أيضًا «الروم»، لاتينيين بالأمس أو بيزنطيين اليوم، أصحاب «روما الأولى» أو أصحاب «روما الثانية». إنهم «الروم» في كل حال.
لهذا كان العرب عصر نزول القرآن يقولون «الروم» يعنون «اليونان». بل ما زلت تسمع في العربية العامية لفظة «الرومي» في موضع «اليوناني». بل لم تعرف العربية الفصحى «اليونان» واليوناني إلا منذ العصر العباسي في سياق ترجمات فلاسفة «اليونان» إلى العربية. على أن العرب كانوا يتوسعون فيطلقون اسم «الروم» على سكان شمالي البحر الأبيض المتوسط (بحر «الروم» عند قدامى الجغرافيين العرب)، فهم إذن الأوروبيون بوجه عام.
ورغم ذلك كله، فإن لفظة «الروم» هي في أصلها نسبة إلى «روما» بلا جدال، سواء أردت روما التي في إيطاليا، أو «روما» الثانية التي على ضفاف البُسفور، أي بيزنطة المعنية في الآيات. ويتعين من ثم عند التماس التفسير القرآني للفظة «الروم» على منهجنا في هذا الكتاب التماس معنى «روما» هذه في لغة أهلها، وسيأتي.
أما الطرف الآخر في «المغالبة» المشار إليها في الآيات فهم الفرس، الذين لم تسمهم الآيات، اكتفاءً بذكر عدوهم اللدود الغالب يوم يفرح المؤمنون بنصر الله، ولاستفاضة شهرة هذا الصراع الأزلي بين قطبي العالم القديم: كسرى وقيصر.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/368]
كانت الحرب بين هاتين الدولتين سجالاً بين كسرى وقيصر، يُدال من الروم للفرس ليُدالَ من الفرس للروم، في صراع طال أمده، منذ بدأ اليونان ينازعون الفرس – ورثة بابل وآشور ومصر – سلطانهم في هذا الشرق الأدنى القديم. استمر الصراع – جولة هنا وجولة هناك – منذ غارة الإسكندر في الربع الأول من القرن الرابع قبل الميلاد نحو ألف سنة حتى أواسط القرن السابع الميلادي، حيث أنهى «المؤمنون» الذين تتحدث عنهم الآيات هذا الصراع بقضائهم قضاءً باتًا على دولة الفرس، وطردهم الروم البيزنطيين، طردًا باتًا أيضًا، من مصر والشام، ليغزوهم من بعد في آسيا الصغرى ويناجزوهم حتى أبواب القسطنطينية، لينفردوا وحدهم بالسيادة المطلقة على أراضي طرفي النزاع معًا في هذه المنطقة من العالم.
كان هذا الصراع بين الفرس والروم، يقتل بعضهم بعضًا ويثخن بعضهم في بعض، الذي طال أمده حتى شهد مبعث خاتم النبيين، مقدمة ضرورية لهزيمتهما معًا في وقت واحد، على أيدي «حفنة» من العرب يقلون عنهما عددًا وعدة بما لا يقاس، فيفعلون بالفرس في سنين قلائل ما لم يستطعه الروم في ألف سنة، ولا يكتفون بهذا وإنما يفعلون بالروم – أيضًا وفي نفس الوقت – هذا الذي طالما تمناه الفرس ولم يتحقق لهم: القضاء البات على أطماع الروم في الشرق الأدنى كله وحصارهم في عقر دارهم لا يخرجون منه إلا مناوشات لا طائل من ورائها. ورغم هذا كله، فأنت بإزاء معجزة فذة من معجزات التاريخ، لا تملك أن تغمط أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أقدارهم. كانوا رجالاً أفذاذًا لم يشهد التاريخ أمثالهم من قبل ومن بعد.
وتستطيع أن تقول أيضًا – من الناحية الاستراتيجية البحت – أن كرة الروم على الفرس كما تنبأت الآيات، أي عودتهم إلى اقتطاع سورية وفلسطين ومصر من نفوذ فارس، أعني عودة الدولتين إلى تقاسم السيادة على أرض الشرق الأدنى القديم، العراق في أيدي الفرس، ومصر والشام في أيدي الروم، هيأت مسرح الصراع المقبل بينهما وبين العرب، تهيئة مواتية للذين آمنوا، أفضل بما لا يقاس مما لو بقى الفرس في مواقعهم بمصر والشام يوم بدأ الفتح العربي لهذه الأقطار، يغالبون الفرس وحدهم عليها. كان العرب عندئذٍ – لو بقى الفرس في مصر والشام – سيلاقون عدوًا واحدًا متماسكًا متراصًا، تخضع جيوشه لقيادة فارسية موحدة في كل من العراق والشام ومصر، لا عدوين متناحرين يتربص كل منهما بالآخر – الفرس والروم – لا يأبه أي منهما بانتصار العرب على خصمه اللدود، ناهيك بالشماتة والاشتقاء.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/369]
وإلى هذا تشير الآيات بقوله عز وجل: «لله الأمر من قبل ومن بعد» ، أي كانت هزيمة الروم أمام الفرس، لينتصر الروم من بعد عليهم، بقضاء منه عز وجل وتدبير، لأمر هو بالغه، والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والذي غفل عنه أكثر من تكلموا في تفسير هذه الآيات فلم يوفقوا إلى فهمها على وجهها، أن «النصر» في اللغة هو العون والمظاهرة والتأييد، ليس هو بذاته كما يظن الأكثرون الفوز والفتح والغلب، وإنما هو العون والتأييد المؤديان إلى الفوز والغلب. ومن هنا تفهم عبارة «نصر الله» حيثما وقعت في كل القرآن بمعنى تدخله عز وجل بمدد من عنده، ملائكة وغير ملائكة، لنصرة فريق وتخذيل فريق، فتنقلب على الفور موازين القوى لصالح الفريق الذي «نصره الله»، يعني أيده وأعانه، فينتصر الذين كان نصر الله في معيتهم ليكونوا هم الغالبين.
ومن دقيق القرآن أنه حين تحدث عما كان بين الفرس والروم: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ...} [الروم: 1 – 4] استخدم مادة «غلب» ولم يستخدم مادة «نصر»، لأن الغلب هنا وهناك كان بأمر الله، أي بقضائه وتدبيره: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4]، ولم يكن بانتصاره عز وجل لفريق على فريق، أي بتدخله عز وجل لصالح فريق ضد فريق، بمدد من عنده، ملائكة وغير ملائكة. وإلا لقلت أن الله كان مع الفرس يوم غلبوا الروم، يعني كان راضيًا عن الفرس ساخطًا على الروم، ثم سخط على الفرس ورضي عن الروم فانتصر للروم عليهم، ولا يصح هذا لن الله عز وجل لا يجوز عليه البُداء، «يبدو» له الأمر فيمضيه، ويبدو له العكس من بعد فيمضيه، إن صح هذا في البشر – وهو مذموم لأنه تذبذب بين النقيض ونقيضه – فهو محال في حق العزيز الحكيم. وقد كان الفرس مجوسًا يوم كانت الكرة لهم، وكانوا مجوسًا أيضًا يوم كانت الكرة عليهم. وكان الروم أيضًا أهل كتاب يوم غلبهم الفرس المجوس، وبقوا أهل كتاب يوم أديل لهم من الفرس. أما حين تحدثت الآيات عن «نصر الله» فهي تريد انتصار الله عز وجل للمؤمنين الذين يفرحون بنصره. والمؤمنون كما مر بك في مبحث «الصابئين» اصطلاحٌ قرآني يُراد منه «المسلمون» أهل القرآن لا أهل الكتاب. وإنما ينتصر الله عز وجل لجنده فحسب، أي للذين آمنوا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/370]
والأصل في هذا أن الله عز وجل الذي لا ينصر باطلاً على حق، لا ينصر باطلاً على باطل، وإنما هو ينتصر فحسب للحق على الباطل: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء: 18]. يعني لا يتعلق «نصر الله» حين ينسب الله النصر إليه تبارك وتعالى إلا بانتصاره عز وجل لجند هو قائدهم، أي بانتصاره للذين آمنوا. وقد انتصر الفرس من قبل، فلا يقال الله نصرهم، وانتصر الروم من بعد، فلا يقال قد نصرهم الله على الفرس، وإنما يقال – في المرتين – الذي قالته الآيات: {لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 4]. لم ينهزم الفرس لأنهم مجوس أصحاب هرمزدا وأهرمن، ولم ينتصر لأنهم نصارى أهل كتاب يرببون المسيح وجبريل، فالكفر كما تعلم ملة واحدة، وكلتا العبادتين عند الله باطل. وليس الباطل عند الله درجات بعضها دون بعض، بل الكل باطل، لا «يؤازره» الله بنصره، وإنما «يقضي» فيه قضاءه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فليس أهل الكتاب – يهود ونصارى – بأولياء للذين آمنوا حتى يفرح المؤمنون – كما تنبأت الآيات – بنصر الله يوم ينتصر الروم على الفرس المجوس كما توهم المفسرون. بل قد نهى الله الذين آمنوا عن توليهم: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51]، يبين لك عز وجل علة النهي عن توليهم، أي لأنهم أولياء بعض، يعني أولياء بعض عليك، لا تستنصر بإحدى الطائفتين على أختها، ولا تستنصر بطائفة منهما على عدو لك، فلن يصدقوك الولاية، بل هم معًا عليك، لا يألونك خبالا. ومن يتولهم فقد ظلم، لأنه صار في معيتهم وبات منهم، فلا يهديه الله سبيلا، والله لا يهدي الظالمين.
هذا النهي عن تولي أهل الكتاب من إعجاز القرآن في توجيهات القرآن، فلم يعرف التاريخ قديمه وحديثه – بل وحديثه بالذات – موقفًا انتصر فيه أهل الكتاب للمسلمين على عدوهم، وإنما هم ينتصرون لعدو المسلمين عليهم، أو ينتصرون لبعض المسلمين على بعض نكاية فيهم جميعًا، وإذكاءً للفرقة بينهم، ليفشلوا وتذهب ريحهم وأنت تعلم بالطبع أن توجيهات القرآن للذين آمنوا توجيهات عاملة، ماضٍ فيهم حكمها إلى يوم القيامة، لا تخص عصر التنزيل فحسب، بل انطباقها على هذا العصر أظهر وأبين.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/371]
لن أذهب بك بعيدًا، فعندك من هذا في الانتصار لعدو المسلمين عليهم، مثل فلسطين. وعندك من هذا في الانتصار لبعض المسلمين على بعض، مثل حرب البسوس بين العراق وإيران. وعندك من هذا في التحريش بين المسلمين ثم التحريق عليهم. مثل حرب النفط في الخليج التي أتت على الأخضر واليابس في أرض المستغيث والمستغاث منه على السواء. المستجير بهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، تحرقك كما تحرق أخاك المسلم الذي استنصرت بهم عليه، حليف الأمس وحليف اليوم، لا يرعون فيهما إلا ولا ذمة، فلا يبالون أين يصبون نيرانهم هنا أو هناك، يتبرون ما علوا تتبيرا، فينسفون الفريقين نسفًا ويدمرون عليهم. وتدفع أنت ثمن هذه النيران التي أحرقوا بها دارك ودار أخيك، وتدفع ليه أيضًا أجر تعمي رما خربوه بأيديهم، بل وتدفع أيضًا نفقات جيش الاحتلال الذي استدعيته ليفصل بينك وبين أخيك، فما جاءوا لتحرير الكويت كما قد تظن أو لصد العراق، فقد استنفدوا أغراض التفويض الذي استصدروه لأنفسهم بتحرير الكويت وتجاوزوه إلى تركيع العراق، وما زالت قواتٌ لهم ماضية في احتلال العراق ونحن نكبت ما نكتب، بحجة تأمين جيشهم في جنوبي العراق، وما خفي كان أعظم، وإن كان قد برح الخفاء. وليس بعد هذا غفلة. ولولا أن نخرج عن مقاصد هذا الكتاب لزدناك.
وليست آفة المسلمين اليوم أنهم تشرذموا دولاً، فالقرآن لم يستبعد هذا ولم يؤثمه، لقوله عز وجل: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} [الحجرات: 9 – 10]. افترض القرآن في «أخوة المؤمنين» انقسامهم طوائف، يعني دولا، وافترض في هذه الدول قتالاً بين دولة ودولة، كما حدث بين العراق وإيران، ثم بين العراق والكويت، وافترض فيهم أيضًا باغيًا ومبغيًا عليه. ولكنه افترض قبل هذا وذاك وجود «الجماعة» التي تنتصر للمبغي عليه وترد بالقسط والعدل على الباغي، أي «الجماعة» المأمورة في هاتين الآيتين
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/372]
بإقامة القسط والعدل. التي تحمل غيرها على الفيء إلى أمر الله. وقد غابت هذه «الجماعة» كما تعلم في حرب العراق وإيران، بل قد ظاهر مسلمون لا تشك في إسلامهم هذا العراق الباغي على إيران، معتلين بشعوبية جاهلية تقسم المسلمين إلى عرب وأعاجم، قد نسوا قوله عز وجل آنفًا «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم» لا فرق في هذه الأخوة بين مسلم ومسلم، بل الكل في «أخوة المؤمنين» سواء. وما أسرع ما استدار الباغي على حلفاء الأمس، فحسبك الله ونعم الوكيل.
وإنما صار المسلمون اليوم إلى ما صاروا إليه لفقدانهم الإحساس بأنهم وحدهم من دون الخلق «أمة»، الجامع بينهم هو الإسلام وحده.
وليس الإسلام شعارات وبطاقات هوية، ولكنه تحكيم القرآن والسنة في كل شأن من شؤون حياتك، لا تأخذ نتفًا من هنا ونتفًا من هناك – كالذين يكتفون بإقامة الحدود وتغليظ الحجاب على استحياء في هذا وذاك – وإنما هو أولاً وبالأخص تحكيم القرآن والسنة تحكيمًا باتًا في «القرار السياسي» الذي يحدد مسار المجتمع وغاياته وأهدافه، ويحدد ولاءاته وانتماءاته.
الذي يؤثمه القرآن هو غياب هذه «الجماعة» المأمورة وحدها في هاتين الآيتين بإقامة القسط والعدل، العاملة بأمر الله في مجتمعاتها، تعرف ما هو، فتحمل غيرها من المجتمعات المسلمة على أن «تفيء إلى أمر الله».
ولم تعد في المسلمين اليوم «الجماعة» المؤهلة لهذا الدور، لأنه لم يعد في المجتمعات المسلمة اليوم مجتمع واحد يحكم حقًا وصدقًا بالكتاب والسنة، يعني أولاً وآخرًا يحكم القرآن والسنة في «قراره السياسي» داخل المجتمع المسلم وخارجه، ناهيك بمن يرجمون الداعين إلى هذا أو يصمونهم بالرجعية والتخلف.
الذين لا يرتضون تحكيم الكتاب والسنة في أنفسهم بحجة أن الاحتكام إلى الكتاب والسنة رجعية وتخلف، لا يقبل منهم التصدي للكلام بالإسلام في نزاع كلا طرفيه مسلم. وإنما يحتكم المسلمون اليوم في أنزعتهم إلى بطانة من غيرهم لا يألونهم خبالا، قد نبذوا من القرآن – فيما نبذوا – قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/373]
إن كنتم تعقلون ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} [آل عمران: 118 – 120].
هذه البطانة، الذين لا يألونك خبالاً، الذين تحبهم ولا يحبونك، الذين إن تمسسك حسنة تسؤهم وإن تصبك سيئة يفرحوا بها – إن لم يكونوا هم الساعين فيها المعينين عليها – الذين لا يودون إلا إعناتك وتعنيتك، هم هؤلاء الأوروبيون – الأمريكيون شرقًا وغربًا، ورثة الروم الذين في القرآن بالدم والفكر والتوجه جميعًا. شهدت هذا في مواطأتهم إسرائيل عليك، وما زلت تشهده، ولن تزال. حتى تواضعت أحلامك فبات منتهى أملك وقد سلمتهم أمرك أن يردوا عليك جزءا فحسب من فلسطين التي غصبوك عليها، متشفعًا لديهم بتلك «الشرعة الدولية» التي أعملوها فيك بهمة لا تعدلها همة يوم تداعوا عليك في الخليج كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. وهيهات هيهات. إنها شرعتهم هم، ليس لك فيها نصيب. ما زلت تحلم حتى تفيق. ولن تفيق حتى يرد الله عليك بصرك. ولن يرد الله عليك بصرك حتى تفيء إلى إسلامك، أي تفيء إلى «أمر الله»، وإلا فما أنت بمسلم.
وإذ لم تعد مسلمًا إلا شعارات وبطاقات هوية، فانتصر بمن شئت وما تشاء. قد خلى الله بينك وبين قوانين النصر والهزيمة، تفعل فيك فعلها، لا يؤازرك بنصره. وليتك وقد خليت لما اخترت، تعمل في إطار هذه القوانين فتتلمس أسباب النصر والغلبة، ولكنك لا تقلد غالبيك الذين فتنت بهم إلا في هزلهم ولهوهم ومباذلهم، لا شأن لك بجدهم وعلمهم وصنائعهم.
قال عز وجل: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47]، أي قد تكفل الله بنصر الذين آمنوا حقا وصدقا فعملوا بإيمانهم. أما أنت فقد أسلمت ولم تؤمن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/374]
وإذا كان الله عز وجل لا ينصر المسلمين اليوم لأنهم فحسب يخالفون عن أمره، فما ظنك بمن توهم أن الله كان في نصر نصارى الروم على مجوس الفرس، وكلا الفريقين من غير جنده؟ قد قالت الفرس هرمزدا وأهرمن، وقالت الروم آب وابن وملك.
لم ينتصر الله للفرس على الروم يوم كانت الغلبة للفرس، ولم ينتصر أيضًا للروم يوم تحققت نبوءة القرآن بكرة الروم عليهم. ولكنه عز وجل – في المرتين – أعمل في كلا الفريقين قوانين النصر والهزيمة، فانتصر الذي اتخذ للنصر عدته، وانخذل الذي قصر وتوانى. أي أنه عز وجل خلي بين الفريقين وبين تلك القوانين، ولم «يتدخل» لنصرة فريق على فريق، فيقلب موازين القوى لصالح أولئك الذين كان نصره في معيتهم، كما فعل مع المسلمين في «بدر».
بل إن الله عز وجل الذي نصر المسلمين في بدر وهم أذلة: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة} [آل عمران: 123] يعني وهم مستضعفون لا يملكون من أسباب الفوز إلا هذا الإيمان الذي استحقوا به «نصر الله» على عدو يتفوق عليهم بالعدد والعدة، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم – القادر عليها في كل حين – لم ينصر هؤلاء المسلمين أنفسهم يوم أحد، وفيهم رسول الله، بل خلي بينهم وبين قوانين النصر والهزيمة، لا لشيء إلا لأن فريقا منهم – والمعركة دائرة وبوادر النصر تلوح – أطمعتهم الغنائم: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} [آل عمران: 152] فتركوا مواقعهم وخالفوا عن أمر رسول الله، وكانت العاقبة التي تعلم: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون} [آل عمران: 153]. قال عز وجل في أولئك الذين كانوا يوم أحد سببًا في هزيمة جند الله وجند رسوله: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} [آل عمران: 155]. وإنما وسعهم حلم الله وغفرانه رحمة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/375]
منه عز وجل فلم يهلكهم بذنبهم، بل استتابهم من زلتهم، لا يعصون نبيهم من بعد. وكانت «أحد» هي الموعظة والعبرة.
قال عز وجل يحذر الذين يخالفون عن أمر رسول الله الذي هو أمره تبارك وتعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63].
والذي حدث في «حنين» قريب من هذا وإن اختلف السبب: كانت الهزيمة في أحد عاقبة العصيان، أي عاقبة المخالفة عن أمر رسول الله، وكانت الكسرة الأولى في حنين عاقبة الاستنصار بغير الله، أي الاستنصار بالعدد والعُدَّة، قالوا: لن نغلب اليوم من قلة! يعني أنهم في كثرة من العدد ووفرة من العُدَّة، لا يحتاجون إلى مدد من الله. فحجب الله عنهم نصره وخلى بينهم وبين قوانين النصر والهزيمة، لأنه عز وجل غنى عمن استغنى بنفسه. ولكنه لقنهم بها درسًا لا ينسونه من بعد.
قال عز وجل يذكر بنصره الذين آمنوا إذ هم مستنصرون به، ويبكتهم بخذلانه إياهم يوم استغنوا بأنفسهم: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين} [التوبة: 25].
ولو راجعت سجل هزائم المسلمين وانتصاراتهم على مدى التاريخ منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العصر وإلى ما شاء الله، لما وجدت إلا هذين السببين وراء هزائمهم: الاستنصار بغيره عز وجل أو النكول عن أمره. عندئذ ينخلع «المسلم» من صفة «المؤمن»، الطاعة والتوكل. وإنما يتكفل الله عز وجل بنصر «المؤمنين» فحسب.
انظر إلى بديع قوله تبارك وتعالى يشترط «الإيمان» على الذين آمنوا أنفسهم، كي يكون الله في نصرتهم: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139]: قد علم أنه يخاطب الذين آمنوا، ولكنه يشترط عليهم الاستمساك بهذا الإيمان والعمل به، وإلا فلينتصروا لأنفسهم بأنفسهم إن استطاعوا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/376]
تستظهر من هذا أن الله عز وجل لا ينتصر لجند، أي لا يمدهم بمدد من عنده، إلا جندًا هو قائدهم. لا ينتصر لروم أو فرس، ولا ينتصر لعرب أو عجم، بل ولا ينتصر للمسلمين أنفسهم، وإنما ينتصر فحسب للمؤمنين «الذين آمنوا»، لا يصح فهم عبارة «نصر الله» في كل القرآن إلا بهذا المعنى وحده.
وإذ قد تقرر هذا، فلا يصح فهم قوله عز وجل في الآيات الست من مفتتح سورة الروم «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله» على أنه – كما توهم مفسرون – فرح المؤمنين بانتصار الروم على الفرس، وإنما النصر المبشر به نصر آخر، تتنبأ به تلك الآيات للمؤمنين – أي المسلمين – على عدوهم، مشركي قريش، فيفرح المؤمنون بنصر الله إياهم.
دليلك في هذا – فوق ما تقدم – تعقيبه عز وجل على هذه البشرى بقوله: «ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم»، ولا معنى للرحمة هنا في انتصار يحرزه الروم على الفرس، وإنما كانت رحمته عز وجل بالمؤمنين، يوم قلب موازين القوى لصالح هؤلاء المستضعفين في بدر.
أما القاطع الحاسم، فهو تعقيبه عز وجل يؤكد وعده: {وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 6]، فلسي لروم أو فرس وعد عنده عز وجل، وإنما الوعد للمؤمنين الذين آمنوا.
ولا يصح أيضًا – كما توهم مفسرون – فَهْمُ «الوعد» على أنه وَعْدٌ للمؤمنين بتحقق نبوءة القرآن بانتصار الروم على الفرس فيفرح المؤمنون في مواجهة المنكرين الوحي على القرآن بأن القرآن صدق. هذا تافهٌ لا يعتد به. فقد ظل مشركو قريش على تكذيب القرآن بعد تحقق النبوءة بانتصار الروم على الفرس في بضع سنين، وما كان ليعجزهم أن يقولوا في محمد صلى الله عليه وسلم: عراف يرجم بالغيب صدف.
ولا يصح أخيرًا قول من قال أن المسلمين اغتموا لهزيمة الروم من الفرس لأن الروم أهل كتاب والفرس مجوس عبدة نيران أشبه بقريش عبدة الأوثان، الذين تهللوا لانتصار الفرس وعدوه انتصارًا لآلهة الشرك، أمثال آلهة قريش، وإن الآيات نزلت لتبشر المسلمين بأن فرحة قريش لن تدوم، فسينتصر الروم من بعد على الفرس،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/377]
ويومئذ «يفرح المؤمنون» وتغتم قريش. هذا الكر والفر بين الفرس والروم لغو يتنزه القرآن عن إنزال آيات فيه، فضلاً عن أن يحتفل له، ناهيك بأن يكون قضية تشغل بال النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، بل ما كان صلى الله عليه وسلم لينحاز إلى روم أو فرس، وكلاهما عدو للذين آمنوا. لو صح هذا لتحالف المسلمون مع الروم على الفرس، ولكن المسلمين الذين أجهزوا من بعد على الفرس، لم يفلتوا الروم.
الصحيح أن موقع عرب شبه الجزيرة من المعارك بين الفرس والروم كان موقف المتفرج لا موقف المشارك، لا تستثنى من هذا إلا مناذرة الحيرة في العراق، موالي فارس، وغساسنة الشام، موالي الروم، وكلاهما على دين النصرانية، الغساسنة على مذهب قيصر بيزنطة آنذاك وأصحاب الحيرة نساطرة يخالفونهم في المذهب، ومن هنا تفهم حلف الغساسنة مع الروم، ولواذ المناذرة بالفرس، أعداء القيصر. أما قريش وغيرها من قبائل العرب فما كانوا يرون مصلحة لهم في هذا أو ذاك، وإنما وقفوا موقف المتفرج على حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إلا لهو الحديث وتزجية الفراغ، ذلك الترف السياسي الذي ينعم فيه المتبطلون، شهود مباراة بين فريقين لا تكتمل لذتهم إلا بالشيع لهذا الفريق أو ذاك. وتستطيع أن تقول أنه قد كان من سادة مشركي قريش من كان هواه مع المناذرة موالي فارس، هللوا لانكسار الروم، أي هللوا لانتصار حزب المناذرة على حزب الغساسنة، وكلا الفريقين نصارى كما مر بك، لا مجس ولا أهل كتاب. بل لم تكن حرب الفرس والروم أصلاً حربَ تنصير أو تمجيس، وإنما كانت حربًا على السيادة والنفوذ في الشرق الأدنى القديم. دليلك في هذا أن الفرس يوم انتصروا لم يسعوا إلى نشر المجوسية في مصر والشام، وأن الروم لما انتصروا لم يسعوا في تنصير أعدائهم المجوس.
وتستطيع أن تقول أيضًا أن هذا الفريق من سادة قريش الذين هللوا لانكسار الروم – كما تقرأ في كتب السيرة وكتب التفسير – أرادوا أن يغيظوا بها النبي وصحابته جادين أو هازلين: لو كان إله السموات والأرض، إله محمد وإله المسيح، هو الإله الحق، أفكان ينكسر أمام آلهة النيران؟ يخلطون بين ثالوث النصارى وبين الواحد الأحد لا إله غيره، ويظنون ظن الجاهلية في تصورها «آلهة» تمشي على الأرض تحارب على أتباعها، فهو صارع بين «الآلهة» لا صراع بين البشر.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/378]
لم يكن هذا بالطبع موضع «الرهان» بين أبي بكر رضي الله عنه وبين هذا النفر من سادة قريش عقب نزول هذه الآيات من سورة الروم، أعني رهانه مشركي قريش على انتصار الروم من بعد على الفرس في بضع سنين من نزول الآيات. فلست ترتضي للصديق رضي الله عنه أن يغتم لانتصار آلهة النيران على ثالوث النصارى، أو أن يراهن على أن «الآب والابن والروح القدس» أقوى شكيمة من «هرمزدا وأهرمن». هذا عبث يتنزه عنه أبو بكر. وإنما قال هذا مفسرون ينسقون مقولتهم على أن بعض الشر أهون من بعض، ومن ثم فبعض الكفر أهون من بعض. ولا تصح هذه «النسبية» في الدين بالذات. لأن الكفر كما تعلم ملة واحدة. وقد كفر القرآن عباد المسيح وجبريل كما كفر عباد هرمزدا وأهرمن، فلا ينتصر الله لهذا الفريق أو ذاك. تسمع قريبًا من هذا ممن أفتاك أواسط هذا القرن بالوقوف مع الغرب «المسيحي» ضد الشرق «الملحد»، وكلاهما عدو للذين آمنوا. وهو كما ترى تنسيق على ما قاله المفسرون من قبل في تأصيل فهمهم تلك الآيات من سورة الروم، أي أن بعض الكفر أهون من بعض. وهو خطأ محض. فموقف المسلمين من غير المسلمين واحدٌ لا يتلون: إنهم سلم لمن سالمهم، حرب على من حاربهم: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} [التوبة: 7].
وإنما راهن أبو بكر مشركي قريش الذين هللوا لانكسار الروم على صدق قوله عز وجل: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد} [الروم: 3 – 4]، ولم يزد. وقد صدقت النبوءة بتمامها كما تعلم، وربح الرهان أبو بكر.
الفهم الصحيح لهذه الآيات الست من سورة الروم هو أن الله عز وجل يعد جنده الذين آمنوا – وهم يومئذ قليل مستضعفون في الأرض – بالنصر على عدوهم مشركي قريش نصرًا ما كان أحدٌ من الذين «لا يعلمون» كما وصفتهم الآيات، يحسبه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/379]
ممكنًا بأي معيارٍ أردت، لولا أنه وعد من الله عز وجل لا يخلف الله وعده. وحددت الآيات لموعد هذا النصر علامة: ينتصر المسلمون يوم يبلغهم نبأ انتصار الروم على الفرس في بضع سنين من نزول الآيات. لم تقل الآيات «ينصر الله المؤمنين في بضع سنين» كيلا يقال أنه وعدٌ على التراخي في أي يوم شئت خلال تسع سنين (والتسعة أقصى غاية البضع)، ولكنها وقتت لانتصار المسلمين على عدوهم موعدًا ربطته بانتصار الروم على الفرس في بضع سنين من نزول الآيات، غير مقصود من الحديث عن المعارك بين الفرس والروم إلا هذا وحده.
وأنت تعلم بالطبع أن رابطة السببية معدومة تمامًا بأي معيار أردت بين انتصار يحرزه هرقل قيصر بيزنطة على كسرى أبرويز ملك الفرس وبين أول انتصار يحرزه الذين آمنوا على مشركي قريش. بل الحدثان منفصلان كل الانفصال في المكان، منفصلان كل الانفصال في المقدمات والنتائج. لم يكن كسرى حليف قريش ولم يكن قيصر حليف الذين آمنوا، ولم تكن مكة أو المدينة داخلتين في استراتيجية الحرب بين الفرس والروم، حتى يكون ثم مجال للقول برابطة التداعي بين الحدثين، يؤذن وقوع أولهما بوقوع الثاني. أعني أن النبوءة بوقوع الحدث الأول وهو انتصار الروم على الفرس، لا تتضمن بذاتها النبوءة بوقوع الحدث الثاني وهو انتصار الذين آمنوا في بدر، تضمن السبب للنتيجة. وإنما هما نبوءتان منفصلتان، تجمع بينهما نبوءة ثالثة، هي التنبؤ بتزامن تحقق النبوءتين الأولى والثانية.
وهذا هو لب الإعجاز في هذه الآيات، الذي يتحدى به القرآن منكري الوحي عليه. لو وقفت النبوءة عند «توقع» انتصار الروم على الفرس في بضع سنين لقيل حكيم حصيف، قدر أن الحرب بين الفرس والروم كر وفر، كالعهد بالحرب بين كسرى وقيصر، جولة هنا وجولة هناك، وأن كرة الروم على الفرس لن تتأخر بحساب الزمن سوى بضع سنين، يضمد فيها قيصر جراحه، ويستجمع قواه، ويعيد تنظيم فلول جيشه، ويعبيء حشوده، طالما أن القسطنطينية عاصمة الروم وقلب الإمبراطورية صمدت لهجمات الفرس وردتهم على أعقابهم. ليس هذا تنبؤًا يحتاج إلى وحي، وإنما هو تقدير حصيف يستطيعه خبراء الإستراتيجية العسكرية في كل العصور، بل ما كنت لتعدم من يقول به من العرب أشياع الروم في شبه الجزيرة، بل ما كنت لتعدم بين قادة جيوش الفرس أنفسهم من يحسب حسابه ويعد العدة لمواجهته.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/380]
ولو قد توقفت النبوءة – من جهة أخرى – عند التنبؤ للذين آمنوا بالنصر على مشركي قريش في غد قريب، بضع سنين، والمسلمون يومئذ في قبضة قريش تنكل بهم وتسومهم العذاب ألوانا، لا أمل لهم في مغالبة قريش، إلا رجاء أن تكفكف قريش أذاها، لقلت أنها نبوءة جريئة بكل المقاييس، لا يتورطُ في مثلها من خبراء الإستراتيجية أحد. ولكنك تفوتك خصوصية النبوءة التي في هذه الآيات، فالقرآن من قبل سورة الروم ومن بعدها لا يخلو من مثلها، أعني لا يخلو من موعدة المسلمين بالنصر على عدوهم في غد قريب: {ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214]، أما هذه الآيات من سورة الروم فهي توقت موعد هذا النصر على الجزم والتأكيد: «وعد الله لا يخلف الله وعده». ومع ذلك فما كنت لتعدم بين كفار قريش من يقول لك: وماذا في هذا؟ صحت النبوءة أو لم تصح، رجل (يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم) يستنهض همه أتباعه، فيمنيهم الأماني، ويعدهم بالمحالات.
ولكن النبوءة التي في الآيات لم تتوقف عند هذا أو ذاك، ولكنها تنبأت بتزامن وقوع حدثين منبتي الصلة والأسباب، الأول وهو انتصار الروم على الفرس في بضع سنين، حدث محتمل غير مستبعد بمنطق مسار الصراع بين ندين متكافئين تدور الحرب بينهما سجالاً، يدال لهذا من ذاك، فتقول جازمًا مطمئنًا إن الكرة التي كانت اليوم للفرس ستكون في الغد للروم غير بعيد. أما الحدث الثاني، وهو انتصار المسلمين على مشركي قريش (في بدر)، فالتنبؤ به يوم نزلت الآيات تنبؤ بالمُحال في منطق الناس، خبراء وغير خبراء، لا يتورط في مثله عراف أو كاهن. وأبعد من هذا وذاك التنبؤ بتوقيت واحد لوقوع هذين الحدثين المنفصلين، المُمكن والمُستحيل. لم تقل الآيات ينتصر الروم في بضع سنين، وينتصر المؤمنون أيضًا في بضع سنين، كي تستجيز أن ينتصر الروم في خلال خمس سنين مثلاً وينتصر المؤمنون في خلال سبع سنين، أو العكس، والخمس والسبع كلتاهما داخلتان في «البضع»، ولكن الآيات تقول «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله»، يعني ينتصر المؤمنون يوم يبلغهم نبأ انتصار الروم على الفرس، لا قبل ولا بعد. وقد حدث، فأي إعجاز وأي علم.
الوحيد الذي فهم النبوءة على وجهها يوم أنزلت الآيات هو بالطبع الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يفسِّرها لصحابته على معنى التزامن بين
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/381]
انتصار الروم في بضع سنين وبين «اليوم» الذي يفرح فيه المؤمنون بنصر الله، كما تستطيع أنت اليوم تفسيرها وقد تحققت النبوءة. وإنما فطن إلى هذا من فطن من المسلمين والمفسرين من بعد بدر. وكانت هذه حكمةً بالغة: لو فهم المسلمون النبوءة على وجهها وبتوقيتها يوم أنزلت الآيات لتهاونوا في مجاهدة قريش، ولقعدوا يتسقطون أنباء المعارك بين الفرس والروم، ينتصر المسلمون يوم ينهزم الفرس. وهذا يفسر لك لماذا اقتصر رهان أبي بكر على انتصار الروم في بضع سنين ولم يزد. وهو يفسر لك أيضًا احتفال المفسرين بربح أبي بكر الرهان وصدق نبوءة القرآن بانتصار الروم في بضع سنين، دون أن يلتفت أكثرهم إلى جوهر الإعجاز في نبوءة هذه الآيات: توقيت يوم انتصار المسلمين في بدر، يوم السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة.
ومما تقرؤه في كتب التفسير (ومنها تفسير القرطبي) أن جبريل عليه السلام نزل يوم بدر فأنبأ النبي بانتصار الروم على الفرس. هنا تفهم ما فهمه صلى الله عليه وسلم من هذه البشرى، ينتصر المسلمون يوم ينتصر الروم على الفرس، فما أن فارقه جبريل حتى خرج يستنجز ربه ما وعده في تلك الآيات من سورة الروم، وأكب في الدعاء حتى سقط عنه رداؤه: اللهم نصرك الذي وعدتني! وجاء نصر الله الذي كان فاتحة كل نصر يحرزه المسلمون من بعد، وصدق الله وصدق رسوله.
أما المفسرون الذين لم يربطوا بين انتصار الروم وبين توقيت النبوءة لانتصار يحرزه المسلمون على قريش، وفاتهم من ثم جوهر الإعجاز في تلك الآيات، فقد اضطروا إلى تعليل «فرحة المؤمنين يومئذ بنصر الله» بأنها الفرحة لانتصار أهل كتابٍ على مجوس، وهو خطأ محض كما مر بك، لا سندَ له من قرآنٍ أو سنة، ولكنه كان التكأة التي يتكئ عليها الذين يفتونك اليوم بموالاة أهل الكتاب على غيرهم، مهما لقيت منهم أو شقيت بهم.
وأما المفسرون الذين التفتوا إلى هذا الربط بين انتصار الروم وبين انتصار يحرزه المسلمون على عدوهم، فقد تفاوتوا في تحديد الغزوة التي انتصر فيها المسلمون يوم انتصر الروم على الفرس، لأنهم لم يعنوا بتحديد التواريخ الدقيقة لسجل المعارك بين الفرس والروم، كي يطابقوه على سجل المعارك بين المسلمين وبين قريش، فمن قائل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/382]
أنها غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية للهجرة (وهو الصحيح كما سترى)، ومن قائل أنها غزوة الحديبية سنة ست، وهذا يتعارض مع قوله عز وجل في «بضع سنين» أي دون العَشْر، وما بين نزول سورة الروم وغزوة الحديبية حوالي ثلاث عشرة سنة، ولكن قائل هذا لم يتلبث، وربما زعم أن البضع السنين هي من موعد رهان أبي بكر قريشًا، وهو تخريج سقيم يناقض نص الآيات، فلا تلفت إليه.
والذي لم يتلبث عنده أيضًا هؤلاء المفسرون هو قوله عز وجل «في أدنى الأرض»، يحدد مكان الموقعة التي انهزم فيها الروم من الفرس والمعنية في الآيات، والذي سيكون هو نفسه في بضع سنين مكان الموقعة التي سيدال فيها للروم من الفرس، لقوله عز وجل: «غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين»، أي غلبوا في أدنى الأرض وسيغلبون في أدنى الأرض أيضًا في بضع سنين من نزول الآيات. هذا هو الفهم المباشر لعبارة القرآن بمنطق اللغة العربية التي تجتزئ عن ذكر ظرف المكان في الشق الثاني بسبق النص عليه في الشق الأول حين يكون ظرف المكان في الشقين واحدًا، ولا سيما حين تكون مادة الفعل في الشقين هي نفسها «غلبت»، «سيغلبون»، والمسند إليه في الشقين واحد «الروم»، وذلك كراهية التكرار الذي هو حشو لا فائدة فيه. من ذلك قولك: «جئتك في دارك بالأمس، وسأجيئك غدا» فتفهم مني مباشرة أني سأجيئك غدًا في دارك أيضًا لا في غيرها، وإلا لنصصت لك على المكان الآخر الذي سأجيئك فيه غدا. بهذا وحده يكتمل فهم النبوءة بانتصار الروم على الفرس – المتزامن مع انتصار يحرزه المؤمنون فيفرحون به – فهما محددًا في المكان والزمان: في أدنى الأرض، وفي بضع سنين. أما إن تركت المكان غفلاً في النبوءة، فعندئذٍ تحتار في اختيار الموقعة من بين مواقع انتصر فيها الروم على الفرس بعد نزول الآيات، أهي انتصارهم على الفرس في مصر، أم الشام، أم في الأناضول، أم في أرض الفرس نفسها. ومن ثم يتفاوت قولك في تحديد الموقعة المتزامنة التي انتصر فيها المسلمون على عدوهم. على أن هذا الفريق من المفسرين اختلف أيضًا في مدلول «أدنى الأرض»، التي فهموها بمعنى «أقرب الأرض»، فمن قائل إنه أقرب الأرض إلى الفرس، ومن قائل أقرب الأرض إلى الروم، ومن قائل أقرب الأرض إلى العرب. هنا لا تدري على وجه القين أي مكان تعنيه الآيات بقولها «غلبت الروم في أدنى الأرض» فتحتار في اختيار الموقعة المعنية في سلسلة معارك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/383]
الفرس والروم التي انتصر فيها الفرس على الروم، وتخبط خبط عشواء في تحديد التاريخ الذي تبدأ منه البضع السنين.
مفتاح فهم النبوءة على وجهها هو فهم معنى «أدنى الأرض» التي في الآيات لأنها هي التي تحدد لك مكان الموقعة المعنية في الآيات بين الفرس والروم كرًا وفرًا، الأولى والثانية، فتقطع بيقين لا شك معه بمبدأ ومنتهى الفاصل الزمني بينهما، الداخل في إطار المهلة المضروبة في القرآن لموعد كرة الروم على الفرس، الذي هو نفسه موعد انتصار المسلمين في بدر كما سترى. ولم يوفق المفسرون إلى فهم مدلول «أدنى الأرض» رغم أن منهم علماء في اللغة العربية، فتشبثوا بأن معنى «الأدنى» هنا هو «الأقرب» من دنا يدنو فهو دان، لا معنى له غير هذا. ولكن «الأدنى» كما يعلم هؤلاء المفسرون ويعلم علماء العربية جميعًا لا تجيء فقط بمعنى أفعل التفضيل من دناي دنو فهو دان، أي قريب، وإنما تجيء أيضًا على معنى الأسفل الوطيء. لا يقول العرب في أفعل التفضيل من «الدون» الأدون، وإنما يقولون «الأدنى»، وكأنها «الأدنأ» من دنوء يدنوء فهو دنيء، سهلت همزته. ومن هذا تجيء «الدنيا» التي نعيش فيها، مؤنث «الأدنى». ليست هي من القرب والدنو، وإنما هي من السفلية والتحتية والوطاءة، يعني التي أهبط إليها آدم. وقد استخدم القرآن لفظة «الأدنى» بالمعنيين كليهما، فجاءت على معنى الأقرب في مثل قوله عز وجل: {ذلك أدنى ألا تعولوا} [النساء: 3]، أي أقرب. وجاءت بمعنى الدون والأدنأ في مثل قوله عز وجل: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} [البقرة: 61]، أي الأرذل لا الأقرب بالطبع، وفي قوله عز وجل: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} [المجادلة: 7]، يعني أقل أي دون. بل إن القرآن يستخدم أحيانًا مادة دنا يدنو نفسها لا بمعنى قرب، وإنما بمعنى هبط، في حديثه عن تنزل جبريل بالوحي: {ثم دنا فتدلى} [النجم: 8]، لا يصح فهمها بمعنى قرب فتدلى. واستخدمها أيضًا على معنى التحتية والدونية في قوله عز وجل: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} [الأحزاب: 59]، يعني يرخينها إلى أسفل، وليس يقرينها من أجسادهن. الأدنى تجيء أيضًا بمعنى الوطيء الهابط قطعًا. والوطيء في اللغات العبرانية والآرامية
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/384]
والكنعانية هي «كنعان»، التي تجد أثارة منها في مادة «كنع» العربية حين تقول «كنعت الشمس إلى المغيب» أي مالت.
لم يوفق المفسرون إلى هذا المعنى الآخر في عبارة أدنى الأرض، لأنهم لم يعلموا أن القرآن يستخدم هذه العبارة لا على الصفة، وإنما على العلمية: إنها ترجمة القرآن المعجز لاسم فلسطين بلغة أصحاب الأرض «الكنعانيين» قبل أن يكون لبني إسرائيل في فلسطين وجود. إنها «كنعان» أو «إرص كنعان» (أرض كنعان)، يعني «الأرض الوطيئة». وسبحان العليم الخبير القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.
نزلت تلك الآيات من سورة الروم ما بين السنتين السابعة والسادسة قبل الهجرة (614م – 615م)، فهي تشير بالقطع إلى تلك الموقعة التي انهزم فيها الروم أمام الفرس على أرض فلسطين سنة 614م، وكانت فاتحة لهزائم الروم أمام الفرس في سورية، وفي مصر وليبيا (سنة 619م)، وتراجع الروم في الأناضول حتى أسوار القسطنطينية. ومفهوم الآيات المباشر أن «البضع السنين» - أي ما دُون الشعر – تحسب منذ بدء صولة الفرس على الروم سنة 614م إلى مبدأ كرة الروم عليهم: «وهم من بعد غلبهم سيغلبون»، يعني لن تتأخر كرة الروم على الفرس إلى أبعد من سنة 624م قبل اكتمال عشر سنين، متوافقة مع نصر الله الذي يفرح به المؤمنون في بدر يوم السابع عشر من رمضان سنة 2هـ (إبريل سنة 624م). والثابت تاريخيًا أن الروم قبعوا وراء أسوار القسطنطينية حتى سنة 622م، لم يخرجوا لمناجزة الفرس إلا يوم خرج هرقل بجيشه في تلك السنة في أول حرب صليبية عرفها التاريخ، وهو يرتدي المسوح ويرفع صورة مقدسة للعذراء، تهلل له أجراس الكنائس، وتدوي من خلفه صلوات وترانيم، تدعو له بالنصر على الفرس المجوس، واستعادة المدينة المقدسة أورشليم، واسترداد «عود الصليب» الذي استلبه المجوس يوم استولوا على أورشليم. لم يكن الرجل قديسًا يؤازره الله بنصره على الفرس المجوس كما توهم مفسرون، أو كما تصوره لك بعض كتابات مؤرخي المسيحية، فقد علم الذين قرعوا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/385]
لمخرجه الأجراس وشيعوا جيشه بالصلوات والترانيم أن نكاح المحارم زنا صريح، وقد نكح هرقل «مارتينا» ابنة أخته فاستولدها تسعة بنين وبنات، وصحبته في حملاته وغزواته، ولكنها سياسة الملوك في استنهاض الهمم بالدين. لا تستثار نخوتهم لشأن من شؤون الدين إلا لهذا، يعصون الله ويتبجحون فيسألونه النصرة.
لم تكن أمام هرقل يوم خرج لمناجزة الفرس سنة 622م سوى سنة وبضع سنة من المهلة المضروبة في الآيات لكرة الروم على الفرس في بضع سنين تبدأ من سنة 614م كما مر بك. ولكن المعارك بين الروم والفرس طالبت بين كر وفر حتى حقق الروم نصرهم الحاسم على الفرس في فبراير سنة 628م على أرض الفرس نفسها، فسلم لهم الفرس بالسيادة على أراضي الروم في آسيا الصغرى وفي الشام ومصر وما يليها، وأعادوا إليهم «عود الصليب». وليست هذه بالطبع هي الموقعة المعنية في الآيات – وإن توافقت مع غزوة الحديبية سنة ست هجرية كما قال مفسرون – أولاً لأنها تجاوزت المهلة المضروبة في القرآن بسنوات أربع، إن قلت بها فقد خطأت القرآن، أعني لم تحسن الفهم عنه، لأن القرآن يريد مبدأ كرة الروم على الفرس لا منتهاها، كما أراد مبدأ صولة الفرس على الروم سنة 614م لا منتهاها سنة 622م. وثانيًا لأن القرآن يريد معركة بعينها بين الفرس والروم يغلب فيها الروم الفرس مثلما غلبوهم في أدنى الأرض منذ بضع سنين. أعني معركة تدور على أرض فلسطين. ورغ اضطراب المؤرخين في تحديد التواريخ الدقيقة لمعارك الفرس والروم منذ سنة 622م، فالثابت تاريخيًا أنه قد كانت للروم على الفرس كرتان، انتهت أولاهما بدخولهم أرض الفرس سنة 624م ثم تراجعوا إلى الأناضول. وكر الفرس عليهم حتى ألجئوهم إلى ضفاف البوسفور سنة 626م، ولكن كرة الفرس كانت تشبه صحوة الموت، فما لبث الروم أن كروا عليهم كرتهم الثانية التي انتهت بانتصارهم الحاسم في فبراير سنة 628م. ولا شك أن القرآن يعني كرة الروم الأولى التي انتهت سنة 624م لا كرتهم الثانية، دليلك في هذا من القرآن «البضع السنين» محسوبة ابتداء من سنة 614م كما مر بك إلى أوائل سنة 624م ميلادية على الأكثر (سنة 2هـ) قبيل انتصار الذين آمنوا في بدر يوم 17 رمضان سنة اثنتين للهجرة (إبريل سنة 624م). وقد حفلت كرة الروم الأولى بانتصارات للروم على الفرس في القوقاز وأرمينيا والأناضول حتى نهر الفرات، وفي أرض الفرس نفسها حتى تبريز، ومنها الذي يعنينا هنا استعادة القدس أواخر 623م أو أوائل 624م، قبيل انتصار المسلمين في بدر (إبريل 624م).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/386]
هذه النبوءة التي ربطت بين انتصار الروم على الفرس في أدنى الأرض وبين انتصار الذين آمنوا في بدر، أي بين الممكن والمستحيل في منطق الناس، هي نبوءة بغيب محض، لا يستطيعها إلا علام الغيوب.
فسبحان عالم الغيب لا يظهر على غيبه أحد، إلا من ارتضى من رسول.
أما لفظة الروم التي تعنينا في مباحث هذا الكتاب، فهي كما مر بك نسبة إلى «روما» الأصلية التي في إيطاليا وإن انتسب إليها البيزنطيون المعنيون في القرآن.
وأنت تعلم بالطبع أن «روما» الأصلية في لغة أهلها اللاتين تكتب وتنطق Roma، ولكن الذي لا تعلمه إن كنت لا تعرف اليونانية، لغة البيزنطيين المعنيين في القرآن، فهو أن روما هذه نفسها في لغة اليونان تكتب وتنطق «رومي» Romi. وقد حار اللغويون في تفسير أصل معنى «روما» Roma في لغة أهلها، إذ لا اشتقاق لها ترد إليه في لغة اللاتين، فقيل أنها منحوتة من لغة أهل إتروريا، قوم في إيطاليا سكنوا قديمًا تُسكانيا وجزءًا من أمبريا على الساحل الغربي من إيطاليا، بادت لغتهم. وفي أساطير الرومان أن روما بناها حوالي 753 قبل الميلاد الأخوان رومولوس وريموس، فربما جاء اسم روما على النسب إلى هذين. وهذا عند اللغويين لا يقدم ولا يؤخر، لتعذر تفسير اشتقاق هذين الاسمين كذلك من اللغة الإترورية.
ولكن القرآن المعجز يفطن إلى ما لم يفطن إليه أولئك اللغويون، فيدرك منذ أربعة عشر قرنًا أن تحول اليونان في لغتهم باللفظ Roma الإتروري إلى Romi اليونانية لم يأت من فراغ بل أرادوا إصابة المعنى الذي أراده الإتروريون من لفظة Roma في لغتهم، وهو القوة وشدة البأس. ذلك أن «رومي» Romi اليونانية كما تعني اسم مدينة روما تعني أيضًا في اليونانية بذات حرفها ولفظها «القوة وشدة البأس».
قال عز وجل يجانس على «الروم» ذوي القوة وشدة البأس، يفسر معناها بالتقابل والترادف معا وفق منهجنا في هذا الكتاب: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} [الروم: 1 – 3]، يعني غلب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/387]
الشديد القوي وسيغلب أيضًا، يكرر مادة الغلب في شأنهم ثلاث مرات، فعل القائل المتثبت، المتمكن مما يقول.
لم يكن هذا موقف أصحاب المعاجم الذين تصدوا مؤخرًا لتفسير معنى «روما» الإترورية، تنسيقًا على «رومي» اليونانية، فقالوا متظننين غير متثبتين (?) Rome = strength (روما = القوة؟) يُتبعون تفسيرهم بعلامة استفهام، فعل المتردد الذي لا يقطع بيقين. أما القرآن الذي قالها قبل أن يقولوها بأربعة عشر قرنًا فهو يقولها قوله العارف المتيقن.
ألا فسبح معي العليم الخبير، القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.
والحمد لله رب العالمين.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 367-388]


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:07 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir