(12) إدريس:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (12)
إدريس
ليس في التوراة والإنجيل اسم «إدريس»، وإنما ذكر إدريس عليه السلام في القرآن وحده في زمرة من ذكرهم القرآن من النبيين والصديقين.
وقد وردت «إدريس» في القرآن مرتين فحسب: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 56 – 67)، {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين} [الأنبياء: 85].
وقد اختلف مفسرو القرآن في «إدريس» (راجع تفسير القرطبي للآية 56 من سورة مريم)، أعجميٌ اسمه أم عربي، سبق نوحا أم كان من ذرية نوح. والمشهور عند الرواة أن اسمه في العبرية «أخنوخ»، وأنه أول نبي من ذرية آدم سابق على نوح. ومنهم من أصر على أن «إدريس» لفظ أعجمي لأنه ممنوع من الصرف في القرآن لغير علة إلا العجمة، دون أن يذكروا من أي لغة أعجمية هو، كدأبهم حين يعضل الاشتقاق عليهم. والكثرة على أنه من «دَرَسَ» العربية فهو «الدارس» من المدارسة والتدارس على المبالغة، الكثير العلم. وليس في «إدريس» حديث صحيح يَفْصِلُ في المسألة، إلا ما جاء في صحيح مسلم من حديث الإسراء قوله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي أتيت على إدريس في السماء الرابعة»، تفسيرًا لقوله عز وجل في شأن إدريس: {ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 57) وهذا لا يفصل في الترتيب التاريخي لإدريس عليه السلام بين الأنبياء صلوات الله عليهم، ولا يقطع أيضًا بأن إدريس رُفع إلى السماء الرابعة ومات هناك، كما وقع في إسرائيليات نُسبت إلى ابن عباس وكعب الأحبار وغيرهما من الناقلين عنهما، فقد التقى الصادق المصدوق في معراجه بأنبياء غير إدريس ماتوا على هذه الأرض ودُفنوا فيها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/224]
على أن منشأ القول بأن إدريس في القرآن هو «أخنوخ» في التوراة يرد بالقطع إلى يهود من أهل الكتاب عرفوا أن «إدريس» في العربية تكافئ «أخنوخ» في العبرية، وربطوا بين ما جاء في القرآن عن إدريس: {ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 57] وبين ما جاء في سفر التكوين في شأن أخنوخ، أبى متوشالح، أبى لامك، أبى نوح: «وعاش أخنوخ خمسا وستين سنة وولد متوشالح. وسار أخنوخ مع الله بعد ما ولد متوشالح ثلاث مائة سنة وولد بنين وبنات. فكانت كل أيام أخنوخ ثلاث مائة وخمسا وستين سنة. وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (تكوين 5/21 – 24). اللفظ العبري «أخنوخ» يفيد بذاته الدارس الإدريس، و«سيرته مع الله» تفيد «الصديقية» التي في قوله عز وجل: {إنه كان صديقا نبيا} [مريم: 56]، وعبارة «ولم يوجد لأن الله أخذه» تجد صداها في قوله تبارك وتعالى: {ورفعناه مكانا عليا} [مريم: 57]. ولم يقع هذا في القرآن في شأن أي نبيّ على ارتفاع مكانتهم إلا في إدريس، وهذا يدلك على أنه ارتفاع على الموضع حقيقة لا مجازًا. لا تستثنى من هذا إلا عيسى عليه السلام في قوله عز وجل: {يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي} [آل عمران: 55].
لهذا كله فنحن مع القائلين بأن أخنوخ في التوراة هو نبيُّ الله إدريس عليه السلام. والله عز وجل بغيبه أعلم.
أما المستشرقون المنكرون الوحي على القرآن فلم يقولوا بهذا، ولم يلتفتوا إلى وحدة المعنى في «إدريس» و«أخنوخ» وإنما ذهبوا يتلمسون لاسم «إدريس» نظيرًا أعجميًا في أقاصيص أهل الكتاب، فلما أعياهم البحث رأى بعضهم أن أقرب الأسماء إليه «أندرياس» اليوناني، وهذا عبثٌ لا يليقُ بنا الالتفات إليه، ناهيك عن مناقشته والإفاضة فيه.
أما أن «أخنوخ» - لغة – هي «إدريس» فقد علمت أن «الإدريس» هو الدارس الفاقه الحاذق. وأما «أخنوخ» فأصلها العبري «حنوك»، التي تنطق كافها
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/225]
خاء، على ما مر بك من قواعد النطق في العبرية التي تنطق الكاف خاء إذا تحرك أو اعتل ما قبلها، فهي عندهم «حنوخ» عربها العرب إلى «أخنوخ». وأما معنى «حنوك» العبرية هذه فهي على المفعولية من الفعل العبري «حنك» على معنى «حنكه» العربي، أي فقهه وثقفه وعلمه، فهو المحنك المحنوك.
وقد جاءت «إدريس» في القرآن على الترجمة لا غير، تحاشيا لثقل «أخنوخ» التي شهر بها هذا الاسم العلم قبل القرآن.
وأما لماذا كانت «إدريس» ممنوعة من الصرف في القرآن، فهذا من إعجاز القرآن الذي لم يفطن إليه الزمشخري وغيره (راجع تفسير القرطبي للآيتين 56 و 57 من سورة مريم) الذين لم يستطيعوا الجمع بين عربية هذا الاسم في لفظه، وبين عجمته في أصله: القرآن – بمنعه «إدريس» من الصرف – يدلك على أصله الأعجمي، وكأنه يوصيك بأن تتلمسه في «أخنوخ» لا في نبي مجهول من بني إسماعيل عليه السلام.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/224-226]