(32) فرعون:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (32) فرعون
«فرعون» في القرآن هي تعريب «برعا» المصرية القديمة، تصطلح على نطقها مكسورة الباء ساكنة الراء، اتباعًا لمنهج علماء تلك اللغة الذين يفترضون «الكسر» حين يمتنع القطع بحركة المد الواجبة بين ساكنين، في خط لا يعبأ بإثبات حركات المد. وهي في التوراة «برعو» بفتح الباء وسكون الراء، وتحول الألف إلى الواو.
أما «برعا» المصرية القديمة هذه فهي اسم مزجي مركب من شقين «بر + عا»، الشق الأول «بر» يعني البيت أو الدار، والشق الثاني «عا» صفة بمعنى الكِبَرِ أو العظم، فهو «البيت الكبير أو «البيت العظيم». وتدخل «بر» في تراكيب مزجية عديدة، من مثل «بر + عنخ» أي بيت الحياة أو بيت الروح، يعنون «دار الكتبة»، «بر + حض» أي البيت الأبيض، يعنون «دار الخزانة» أو «بيت المال»، «بر + نسو» أي بيت الملك، يعنون «القصر». وحين تأتي «برعا» المصرية القديمة على المزجية فهي تفقد معناها الأصلي كبيت كبير أو بيت عظيم، وتصبح كنية يكنى بها عن شخص الملك مهابة وتفخيمًا، كما قال العثمانيون في خليفتهم «الباب العالي»، وقالوا في رئيس وزرائه «الصدر الأعظم».
والثابت لدى علماء المصريات أن «برعا» لم تصبح اسمًا دالاً بذاته على شخص الملك بحيث تستطيع أن تقول جاء «برعا» وذهب «برعا» وقال «برعا»، إلا منذ عصر الأسرة التاسعة عشرة عصر الرعامسة الذين كان منهم «فرعون موسى» على ما نرجح نحن ويرجع معنا اليوم كثيرون.
ومن إعجاز القرآن أنه – مطلع القرن السابع للميلاد – يوم كانت اللغة المصرية القديمة، وكان التاريخ المصري القديم، طلاسم مطلسمة عند العالم أجمع، بل وعند المصريين أنفسهم، لم يعلم فقط معنى «برعا» في اللغة المصرية القديمة، وإنما علم أيضًا منذ متى بدأ إطلاق هذه الكنية على ملوك مصر، فخص بها فرعون موسى وحده. أما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/33]
حين يذكر ملوك مصر الذين سبقوا «فرعون موسى» - كما ترى في حديثه عن الملك الذي استخلص يوسف لنفسه وجعله على خزائن الأرض – فهو يقول «الملك»، لا يخطئ مرة واحدة فيقول «فرعون».
أما كتبة التوراة – شأنهم شأن الخلق جميعا عصر نزول القرآن وحتى أواسط القرن الماضي وأوائل هذا القرن العشرين – فقد جهلوا هذا وذاك: فسروا «ﭘرعا» (وهي عنهم «ﭘرعو» كما مر بك) على التخمين بأنها لفظة في المصرية القديمة تعني «الملك»، وأطلقوها بلا قيد في سفري التكوين والخروج، لا فرق بين «فرعون موسى»، و«فرعون يوسف»، و«فرعون إبراهيم». وهذا يدلك بالنقد اللغوي وحده – كما مر بك – على أن أسفار التوراة المنسوبة إلى موسى عليه السلام لم تكتب على عصر موسى وهرون – أو قريبًا منه – يوم كان العبرانيون يحسنون فهم تلك اللغة المصرية القديمة بحكم وجودهم بين ظهراني المصريين نحو أربعة قرون تفصل بين عصر يوسف وعصر موسى وهرون، وإنما هي كُتبت من الذاكرة – لا من الوحي المباشر – بعد خروجهم من مصر بقرون أنستهم ما كانوا يحفظون من تلك اللغة.
وأول ما يدلك على علم القرآن القاطع بمعنى البيت الذي في «برعا» هو تلك المفاضلة المعجزة بين «بيت» عند الله في الجنة وبين «فرعون» البيت الكبير، على لسان امرأة فرعون إذ قالت: {رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله} [التحريم: 11]. أما الترجمة الدقيقة في لغتك العربية لمعنى «برعا» هذه (البيت الكبير)، فهي «الصرح»، وبهذه الترجمة الدقيقة فسر القرآن كما سترى معنى «فرعون» - أي «برعا» - من المصرية القديمة التي كان يجهلها الخلقُ جميعًا عصر نزول القرآن في مطلع القرن السابع الميلادي وحتى أواسط القرن الماضي وأوائل هذا القرن العشرين، وسبحان العليم الخبير.
في تفسير القرآن أعلامه المصرية القديمة من مثل موسى وفرعون ومصل بلغة أهلها مطلع القرن السابع للميلاد إعجازٌ يخشع له العقل والقلب. فهل آن للمطنطنين بدعوى النقل والاستنساخ أن يخسؤوا؟ بل ما أحراهم وقد افتضح الجهل أن يجلسوا إلى هذا القرآن مجلس التلميذ من الأستاذ، يتعلمون منه ولا يتعالمون عليه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/34]
وردت لفظة «الصرح» في كل القرآن أربع مرات، مرتين في (الآية 44 من سورة النمل) وصفًا لذلك القصر البلوري الذي بنته الجن لسليمان عليه السلام ودخلته ملكة سبأ فحسبت وهي تطؤه – لملاسته وصفائه وشفافيته – إنها تخوض في ماء رقراق: {قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير} [النمل: 44]. وأما المرتان الأخريان فكانتا في تفسير معنى فرعون من المصرية القديمة بأنه «الصرح».
قال عز وجل: {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين} [القصص: 38]. وقال عز وجل أيضًا: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب} [غافر: 36].
وهو في المرتين يفسر معنى «فرعون» («ﭘرعا» المصرية القديمة) على الترادف الصريح، لا كناية ولا تصوير: ﭘرعا = الصرح. إن أرجعت «فرعون» إلى أصلها المصري القديم «ﭘرعا» لقلت في مثل الآية 36 من سورة غافر: «وقال ﭘرعا يا هامان ابن لي ﭘرعا»!
ألا فسبح معي العليم الخبير، القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
أما علماء المصريات – يهود ومسيحيين – فقد أعياهم العثور على أر أو نحت أو نقش يصدق التوراة فيما ترويه من أخبار فرعون مع موسى وهرون، بله على أثر أو نحت أو نقش يستدل منه على مجرد وجود قد كان لبني إسرائيل في مصر، ناهيك بذلك الحدث الجلل الذي أغرق فرعون في اليم وهو يطارد بني إسرائيل الذين جاوزوا البحر إلى سيناء.
قال الملحدون من أهل الملتين: وماذا في ذلك؟ القصص الديني كله حديث خرافة، لا حقيقة له خارج الذهن، لا نحوت ولا نقوش إلا في أدمغة الذين آمنوا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/35]
أما علماء الأثبات – لا شأن لك بإيمانهم أو إلحادهم – فقد استدركوا على هؤلاء: وهل تتوقع من فراعنة مصر غير ذلك إن صحت تاريخيًا قصة التوراة؟ ليست النصب والنحوت والنقوش في مصر القديمة صنع أفرقة من المؤرخين أو الهواة، وإنما هي تصنع وتقام بأمر الدولة وبتمويل من السلطة الحاكمة، ملوكًا أو كهنة، لا سيما النصب والنحوت والنقوش التي تسجل أخبار الملوك. والملوك يسجلون انتصاراتهم وأمجادهم، ويطمسون ما كان من هزائمهم ومخازيهم، بل ربما صوروا الهزيمة نصرًا، والفضيحة مجدًا. وكذلك يفعلون.
والذي يعنينا من هذا أن فقدان التاريخ دليله العلمي الذي يوثق به أحداث ما كان من أمر فرعون مع موسى وهرون، أدى أيضًا إلى انعدام الدليل العلمي الذي يحدد بيقينٍ لا شك فيه شخص هذا الملك واسمه بين الفراعنة الذين حكموا مصر.
ولكن للغويين كلمتهم في هذا: قد مر بك أن لقب «فرعون» - حين يدل بذاته على شخص الملك – بحيث تستطيع أن تقول ذهب فرعون وجاء فرعون وقال فرعون تعني بها الملك بالاسم، كنية يتكنى بها، لم تسمع في مصر القديمة على هذا الوجه الصريح قبل عصر الأسرة التاسعة عشرة. أي دولة الرعامسة (الأولى) التي حكمت مصر أواخر القرن الرابع عشر قبل الميلاد ودام حكمها حوالي مائة سنة. وقد كان نصيب رمسيس الثاني من مدة حكم هذه الدولة سبعا وستين سنة.
ولأن القرآن يخص بلفظ «فرعون» ملكا بعينه من ملوك مصر، اسمًا علمًا، مُغايرًا بين «الملك» الذي جعل يوسف على خزائن الأرض، وبين الطاغية الذي علا في الأرض أي في مصر (على ما مر بك من أن «مصر» بلغة أهلها يومئذ تسمى الأرض) وجعل أهلها شيعًا، لا يريد به أي «فرعون» سبقه أو تلاه، فهو يعني بالتأكيد «أول» فرعون تلقب به لا ينادي بغيره، أي أول فرعون استقر له هذا اللقب فعرف به. فهو أول الرعامسة إن شئت، أو أشهرهم بهذا اللقب. لا شأن لك بمن اصطنعوا اللقب من بعده، «أشباح فراعين» ليس لهم من الاسم إلا رسمه.
ولكنك تستبعد رمسيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة عشرة، لأن حكمه لم يدم إلا سنة واحدة أو سنة وبعض سنة، وتستبعد أيضًا خليفته سيتي الأول الذي دام
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/36]
حكمه ثلاث عشرة سنة. تستبعد هذين لأن مدني حكمهما (نحو 14 سنة) لا يستوعب أيهما أحداث ما كان بين فرعون وموسى. ولكنك تتوقف عند رمسيس الثاني خليفة سيتي الأول لا تعدوه إلى غيره، لا لطول مدة حكمه التي دامت سبعًا وستين سنة فقط، وإنما أيضًا وبالأخص لأنه أحق فراعين مصر بهذا اللقب، بل هو على الراجح أول من تلقب به.
وأنت تستبعد بالطبع «مرنبتاح» (منفتاح) خليفة رمسيس الثاني، وإن حلا لمؤرخين التوقف عنده. تستبعد هذا بالدليل التاريخي: «لوحة إسرائيل» (الأثر المصري الوحيد الذي جاء فيه ذكر «إسرائيل» بالاسم) وفيها يقول ذلك الملك إنه في السنة الثالثة أو الخامسة من حكمه حارب في آسيا فصال وجال: «يِنْعِمْ أصبحت كأن لم تكن، وإسرائيل أبيدت ولن يكون لها بذرة، وأصبحت حورو (أي فلسطين وما حولها) أرملة لمصر».
والذي حارب إسرائيل في فلسطين فانتصر عليهم وأباد بذرتهم، ثم عاد إلى مصر سليمًا معافى يكتب هذا النقش، لا يمكن بداهة أن يكون هو نفسه «فرعون» الذي هلك في اليم غريقًا وهو يطارد بني إسرائيل في عبورهم البحر إلى سيناء، كما تقول التوراة وكما يقول القرآن. بل في هذه اللوحة - «لوحة بني إسرائيل» - مهما قلت في طنطنة هذا الملك – الدليل التاريخي الكافي على وجود قد كان لبني إسرائيل على مصر مرنــﭘــتاح في فلسطين أو في الطريق إلى فلسطين – أعني في تيه سيناء. وهذا يدلك على أن بني إسرائيل خرجوا من مصر إلى فلسطين قبل أن يخلف مرنـﭘـتاح أباه رمسيس الثاني على عرش مصر، أي كان خروجهم إلى تيه سيناء قبل مرنـﭘـتاح، لا في عهده ولا في عهد من جاءوا بعده رعامسة وغير رعامسة. فلم يكن لإسرائيل كيان في فلسطين قبل خروجهم من مصر، لأن إسرائيل الذين ينسبون إليه رجل فرد، دخل مصر قبل أن يتحقق لبنيه هذا الكيان لا في فلسطين ولا في غيرها. إذن فقول مرنـــﭘـتاح – مهما تشككت في طنطنته – إنه حارب إسرائيل في فلسطين يفيد ثبوت علمه بوجود شعب أو قبيلة بهذا الاسم خارج مصر، وهذا العلم وحده قاطع الدلالة على خروجهم من مصر قبل مرنــﭘـتاح لا بعده. فتعجب كيف يتورط مؤرخون في توقيت
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/37]
خروج بني إسرائيل من مصر بعهد مرنــﭘـتاح وفي أيديهم وتحت بصرهم هذا الشاهد التاريخي القاطع؟ عليك إذن – شأن المؤرخ الجدير بهذا الاسم – التماس فرعون موسى في رمسيس الثاني ومن سبقوه، لا شأن لك قط بمن خلفوه.
على أنك تكتفي من «لوحة إسرائيل» بهذا الدليل التاريخي القاطع على ارتحال بني إسرائيل من مصر قبل عهد مرنــﭘـتاح، لا تعدوه إلى طنطنة هذا الملك بانتصاراته في آسيا فالراجح أن هذا الملك – طوال حكمه الذي دام إحدى عشرة سنة – لم تطأ قدماه أرض سيناء، ناهيك بأرض فلسطين، لانشغاله عن بوابة مصر الشرقية بحروبه مع ليبيين شَنُّوا على مصر من الغرب حملات استيطانية كان لهذا الملك – وهذا هو الإنجاز الوحيد الذي يسجله التاريخ لمرنــﭘـتاح – فضل حماية مصر منها.
هذا وحده هو الذي يفسر لك – إن سلمت بأن فرعون موسى نفسه هو رمسيس الثاني والد مرنــﭘـتاح – سبب سكوت مثر عن ثاراتها لدى بني إسرائيل أربعين سنة في تيه سيناء، وتطوافهم بين جبالها ووهدانها وكأنه لا وجود لمصر عسكريًا في سيناء، ولم يعن بالتساؤل عن سر هذا السكوت والإغضاء أحد: لا تنام مصر عن سيناء إلا في عصور الفوضى. كان هذا هو ديدن مصر منذ فجر التاريخ وإلى اليوم. نامت مصر عن ثاراتها لدى بني إسرائيل في سيناء لانشغالها بمصيبتها في داخلها: سقوط الدولة. لم يمت فرعون موسى على سريره حتف أنفه، وإنما هلك في كارثة كبرى، أودت بين ليلة وضحاها لا بملك مصر وحده، بل وبالملأ من وزرائه وأمرائه وقادة جنده. وكان على مرنــﭘـتاح الذي آل إليه العرش وهو في الستين من عمره أن يواجه هذا كله، بالإضافة إلى أطماع من تحينوا الفرصة للوثوب على مصر واستيطانها، كما ترى في تلك الحملات الليبية التي تصدى لها هذا الملك وانشغل بها عما عداها. على أن الاضطرابات والقلاقل داخل مصر بدأت مع أواخر عصر رمسيس الثاني، وهي اضطرابات وقلاقل لا تفسرها فقط بشيخوخته كما يقول المؤرخون، وإنما تفسرها أيضًا بكوارث طبيعية، وقلاقل سياسية، الأولى تأديب من الله عز وجل: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} [الأعراف: 130]، وجاءت الثانية نتيجة افتضاح فرعون وسقوط هيبته عند شعبه وعند الملأ من بلاطه بتوالي هزائمه أمام موسى وهرون.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/38]
ويقول المؤرخون أن أحوال مصر ازدادت سوءًا وخطورة على عهد مرنــﭘـتاح، وتفاقمت بالصراع على السلطة في بلاط من خلفوه، فتمزقت البلاد شر ممزق، وأعلن كثيرون من كبار حكام الأقاليم استقلالهم، وغزيت مصر من الخارج، وظل الناس سنوات دون حاكم عليهم، حتى كان الرجل يذبح جاره، واستطاع رجل من أصل سوري تنصيب نفسه ملكًا على مصر، ينهب ممتلكات الناس ويهمل المعابد، فختمت به شر ختام الأسرة التاسعة عشرة بعد نحو ربع قرن من مهلك رمسيس الثاني.
أفتجد في تاريخ مصر أنسب من هذا المناخ لسكوت مصر عن ثاراتها في سيناء؟
أما طنطنة هذا الملك بخروجه إلى سيناء وحربه مع بني إسرائيل يستأصل شأفتهم ويبيد بذرتهم، فهي أمانيُّ العاجزَ عن الثأر لمهلك أبيه، يعلل بها النفس، كالذي تقرؤه في ديوان امرئ القيس من شعر حماسي يدبجه في مصارع الذين قتلوا حجرًا أباه.
على أن من المؤرخين من يرتفع بتاريخ خروج بني إسرائيل من مصر أربعة قرون سبقت مصر مرنــﭘـتاح، فيرد هذا الخروج إلى عصر الملوك الرعاة – الهكسوس – الذين حكموا مصر نحو قرنين من حوالي منتصف القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد. وربما نزل بعضهم بتاريخ هذا الخروج إلى عصر الأسرة الثامنة عشر، وتدرج به من تحوتمس الثالث إلى أمنحوتب الثاني فأمنحوتب الثالث، ثم إلى أمنحوتب الرابع، أي اخناتون، في محاولة للربط بين خروج بني إسرائيل من مصر وبين ما يسمونه «ثورة اخناتون» الدينية، تمسحًا بهذا الملك في تاصيل زعمهم بأن اخناتون هذا هو أول قائل بعقيدة التوحيد، وأن التوراة نقلت عنه فكرة عبادة الواحد الأحد، كما استنسخ داود مزموره (104) من نشيد اخناتون الإلهي، متناسين أن بني إسرائيل هم الذين جاءوا إلى مصر بهذه العقيدة مع يوسف ويعقوب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/39]
عن جدهما إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين، والحق أن عقائد المصريين جميعًا، ومنها العقيدة التي جاء بها اخناتون، ليست إلا تنويعات عن لحن واحد، وإنما هم يتبدلون أسماء بأسماء. وليس «أتون» (يعني شعاع الخلق والحياة المنبث عن قرص الشمس) بأفضل من «آمون» إن أدرت التجريد، لأن «آمون» في اللغة المصرية القديمة معناها «الخفي المحتجب»، أي الذي هو وراء كل معبود مشهود، أما «آمون - رع» فهو الإله الأكبر الذي وراء قرص الشمس الإله. والذي فعله إخناتون كان في حقيقته صراعًا على السلطة مع كهنة «آمون». وما كان إقصاؤه الآلهة الأخرى فلا يعبد مع «آتون» غيره، إلا إقصاء لسدنتها وكهنتها، كي ينفرد إخناتون وحده بالكهانة: لا توسل إلى «آتون» إلا به، ولا وساطة بين «أتون» وبين الناس إلا من خلاله. وما هكذا يكون التوحيد أيما نصبت من إله.
على أن التوحيد – فطرة الله التي فطر الناس عليها – بدأ بآدم، ثم ضل من ضل فانتهى إلى الشرك. ولا يخلو شرك من أصل للتوحيد يرد إليه: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، أي أن الشرك هو اصطناع الوسائط بين الخلق والخالق، فهو «الكهانة». وليس الإلحاد ثورة على التوحيد، وإنما هو في أصله إن تمعنت ثورة على الشرك، أي ثورة على الكهنة الذي يعددون الأرباب والوسائط تكثيرًا للأرزاق والجراية، ثم يقفون على أبواب المعابد يقبضون منك الصدقة أتاوة، كالمتسول، الجبار ذي العاهة، يريك من عكازه هراوة غليظة يدق بها عنقك إن تأبيت عليه.
متى رمزت إلى الله عز وجل برمز، فقد فسد الدين، وانصرف الناس عن الأصل إلى الرمز، حتى عبدوا الحجر والشجر. والكهان – وإخناتون منهم – هم الذين يبتدعون لك هذه الرموز ليحكموك بها.
على أن إخناتون لم يعرف الله عز وجل حق معرفته، لأنه يوحد «أتون» ليستأثر به لنفسه. ونشيده الإلهي تهاويم شاعر، أكثره مسبوق مأثور، تقرؤه في تسابيح المصريين من قبله لآمون وغيره. وإنما طنطن الملحدون من أهل الملتين بإخناتون تدليلاً على أن وحي الله عز وجل على رسله مسبوق بما قاله هذا الشاعر الملك المتحنث، بل الملك النبي في قول البعض. وما كن لنبي يدعو الناس إلى الواحد الأحد أن يدعى – كما قال إخناتون في نشيده – أنه ولد من صلب إلهه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/40]
وقد انزلق إلى هذا الوهم أيضًا مؤرخون معاصرون مصريون مسلمون، فرحوا بإخناتون الملك النبي الذي سبق موسى وهرون! قد أصابهم الزهو العرقي المميت، فعموا عن الحق، ربما تعللت لهم بأنهم لا يقرءون القرآن – وهذا أقبح الذنب – ولكنك لا تعفيهم من إثم إشاعة هذا الضلال «العلمي» بين الناس، وأهل الأدب بوجه خاص.
أما المقارنة التي يعقدونها بين نشيد إخناتون وبين مزمور داود (104) فلك أن توازن بين النصين، ولن تجد في القليل الذي اتفقا فيه إلا أفكارًا شائعة لا تحتاج إلى أخذ اللاحق عن السابق. على أن المزمور (104) ليس محقق النسبة إلى داود عليه السلام، دليلك في هذا من «الكتاب المقدس» نفسه، الذي سكت عن نسبة مزامير بعينها، منها هذا المزمور، لداود: قال في بعضها «المزمور (...) لداود»، وسكت عن الباقي.
دام حكم رمسيس الثاني سبعا وستين سنة، فهو أطول ملوك مصر القديمة حكمًا بإطلاق، لا الرعامسة فحسب، فلا تجد بين ملوك مصر القديمة فرعون غيره يستوعب حكمه أحداث ما كان منذ التقاط آل فرعون موسى من اليم وتنشئته في قصر فرعون حتى يبلغ مبلغ الرجال، ويقتل موسى ذلك المصري فيفر من آل فرعون إلى مدين حيث يصهر إلى كاهنها «يثرو» ويمكث عنده عشر سنوات، يعود بعدها إلى فرعون هذا نفسه، ويحاوره فرعون ويداوره، وتمضي بهما السنون حتى يخرج موسى ببني إسرائيل إلى تيه سيناء وقد ناهز موسى الثمانين كما تقول التوراة أو حسابات التوراة، فقد امتد الأجل بموسى في تيه سيناء أربعين سنة ومات في التيه وعمره مائة وعشرون سنة، كما مر بك من قول الكاتب في سفر الخروج. ومهما عجبت لمبالغات التوراة في أعمار أبطالها، فلا شك أن الحوار بين موسى وفرعون قد طال سنوات، لقوله عز وجل: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون} [الأعراف: 130]. وأنت تعلم أن الرسل باستثناء عيسى عليه السلام يبعثون في تمام الأربعين. فر موسى إذن إلى مدين وقد ناهز الثلاثين، وعاد إلى مصر بعد عشر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/41]
سنوات حيث نودي من جانب الطور الأيمن في سيناء، ثم ناجز فرعون سنين، ليخرج ببني إسرائيل إلى تيه إسرائيل إلى تيه سيناء وقد ناهز العقد السادس من عمره، إن لم يزد.
لا يتسع لهذه العقود الخمسة أو الستة حكمُ أي ملكٍ من ملوك مصر القديمة منذ «نعرمر» مُوَحد القطرين إلى رمسيس الثاني. وقد مر بك القول في الشاهد التاريخي – لوحة إسرائيل – المانع من أن يكون « مرنــﭘـتاح» - ابن رمسيس الثاني – هو فرعون موسى - مرنــﭘـتاح ولا جميع من خلفوه. لا يتسع لهذا إلا حكم رمسيس الثاني وحده (67 سنة) إذا كان الفرعونان واحدًا: الذي احتضن وربى، ثم جحد وعصى. والقرآن على هذا لأنه يخص بلفظة «فرعون» ملكًا بعينه، اسمًا عَلَما، لا يعدوه إلى غيره.
ولكن التوراة تقول لك في سفر الخروج أن فرعون الذي التقط موسى من اليم فاحتضنه ورباه، وفر منه موسى إلى مدين بعد قتله ذلك المصري، ليس هو نفسه فرعون الذي هلك في اليم غريقا. بل مات وموسى لا يزال بعد في مدين (خروج 2/ 23)، فلم يعد موسى إلى مصر إلا بعد أن «مات جميع الذين يطلبونه» (خروج 4/ 19) ليقتلوه بذلك الرجل المصري. فهما إذن فرعونان: فرعون الذي ربى، وفرعون الذي بعث موسى عليه السلام إليه رسولا. وقد رتب بعض المؤرخين على هذا أن «فرعون الخروج» هو مرنــﭘـتاح، خليفة رمسيس الثاني. وهذا مردود بما مر بك من الشاهد التاريخي على امتناع دور «فرعون الخروج» على مرنــﭘـتاح وكل من خلفوه. وهو مردود ثانيًا بأن موت ملك مصر لا يسقط الجرم الذي اجترحه موسى بقتله ذلك المصري، كما وهم كاتب سفر الخروج، الذي أراد تعليل إقدام موسى على العودة إلى مصر وهو فيها مهدر الدم. وليس بلازم، لأن الله عز وجل يعصم أنبياءه، بل قد توجس منها موسى: {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون} [الشعراء: 14 – 15]: الذي خرج من مصر فرارا من بطش فرعون قد عاد إلى فرعون هذا نفسه بسلطان الله {... ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما} [القصص: 35].
على أنك لا تأخذ كل ما يسطره هذا الكاتب مأخذ الجد، فهو لا يني يتحفك بمحالاته. من ذلك قوله في نفس الإصحاح (خروج 4/ 34 – 36) وقد فرغ من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/42]
تسجيل نزول الرسالة على موسى: «وحدث في الطريق إلى المنزل أن الرب التقاه ليقتله (يعني أراد الله أن يقتل موسى) فأخذت صفورة (زوج موسى) – وأصلها العبراني «صـﭘورة» يعني «عصفورة» - صوانة وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه وقالت إنك عريس دم لي، فانفلت عنه (أي انصرف الرب عن موسى وعدل عن قتله) حين قالت عريس دم، من أجل «الختان». وقد أحرج هذا النص شراح التوراة: بأي ذنب يقتل الله موسى وقد اصطفاه نبيًا رسولا؟ قالوا إن موسى أهمل ختان ابنه فكاد أن يهلكه بهذا الذنب، لولا قطع صفورة غرلة ابنها (يعني ختنته) فعفا الرب عن موسى، فلا تدري كيف علمت صفورة بغض الله على موسى واعتزامه قتله وموسى في الطريق إلى المنزل. أما قولها إنك «عريس دم» لي (وهي بالعبرية «حتن دميم») فهم يفسرونها بأن الزوجية انقطعت بينهما بغض الله على موسى لإهماله ختان ابنه، وعاد لها موسى عريسًا بمقتضى دم الختان الذي مست به رجليه. هراء يفسر بهراء مثله. لم يتوقف الكاتب لحظة ليسائل نفسه: كيف يقتل الله النبي الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه؟ ولم؟ ألأنه أهمل ختان ابنه كما قال الشراح من بعد هذا الكاتب؟ أفكان موسى يتوقف لحظة عن ختان ابنه لو ذكره الله به قبل أن يقرر قتله؟ أم أراد الله أن يبيت له كي يأخذه على غرة؟ وهبه أراد قتله، فهل يمشي الله إليه ليقتله أم يبعث إليه بملك يقبض روحه؟ وهبه مشى إليه ليقتله، فهل تحول دونه حيلة صفورة؟
لا عليك. هذا الكاتب كأخيه الذي في سفر التكوين يهزل أحيانًا. ومحالاته حشو لا يلزمك، فليس هذا من التوراة التي أنزل الله على موسى.
على أن في التوراة دليلين «جادين» يشيران إلى أن «فرعون الخروج» هو نفسه رمسيس الثاني، ولم يحظيا من المؤرخين بالعناية الواجبة والتدقيق الكافي.
الدليل الأول تجده في سفر الملوك الأول: «وفي السنة الخامسة للمك رحبعام صعد شيشق ملك مصر (يريد «شيشنق») إلى أورشليم وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/43]
بيت الملك ..» (ملوك أول 14/ 25 – 26). ورحبعام هذا هو ابن سليمان بن داود. وتقرأ فيه أيضًا أن سليمان الذي حكم أربعين سنة بدأ حكمه في السنة الأربعمائة وست وسبعين لخروج بني إسرائيل من مصر (ملوك أول 6/ 1). إن أضفت إلى هذا إلى ذاك كان صعود «شيشق» هذا إلى أورشليم في السنة الخمسمائة وعشرين لخروج بني إسرائيل من مصر. ما عليك إذن إلا أن تعين مدة حكم «شيشق» على مصر، وتضيف إلى بدايتها – أو نهايتها إن شئت – 521 سنة حتى تصل بالتقريب إلى عصر «فرعون الخروج». ولكن تاريخ الأسر الحاكمة في مصر يُسمى خمسة ملوك باسم «شيشنق»، شيشنق الأولى إلى شيشنق الخامس، وليس لدينا، ولا لدى المؤرخين أيضًا، الدليل الحاسم على أي الملوك الخمسة هؤلاء كان شيشنق المعنى. ولكن الذي نتوقف عنده هو أنك إن اخترت شيشنق الخامس (منتصف القرن الثامن) وأضفت خمسة قرون منذ خروج بني إسرائيل من مصر إلى عصر رحبعام، لوجدت نفسك في قلب القرن الثالث عشر قبل الميلاد، قرن رمسيس الثاني! أما إن أصررت على شيشنق الأول (منتصف القرن العاشر) كما يصر المؤرخون بلا دليل لديهم، ثم أضفت القرون الخمسة، فقد وصلت إلى منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد، أي عصر تحوتمس الثالث، الذي يرشحه بعض المؤرخين كما مر بك لدور «فرعون الخروج». ولا يصلح تحوتمس الثالث بالذات لهذا الدور بدليل لا يصح فيه جدل غفل عنه أولئك المؤرخون: خلف تحوتمس الثالث ابنه أمنحوتب الثاني الذي حارب بضراوة في آسيا، مارًا بسيناء بالطبع. أفلم تقع عيناه على شراذم بني إسرائيل في التيه فيمزقهم شر ممزق انتقامًا لمهلك أبيه على أيديهم؟ كيف سلم بنو إسرائيل من ثارات مصر أربعين سنة؟ لم يعن ببحث هذا النقطة من المؤخرين أحد. وقد تقدم.
أما الدليلُ الثاني من التوراة على أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني بالذات، وهو دليلٌ حاسم هذه المرة، فأنت تعلم من التاريخ أن هذا الملك ابتنى لنفسه عاصمة في شمال شرق الدلتا أسماها باسمه: «ﭘر – رعمسيس»، يعني «بيت رمسيس». وتعلم من التوراة (خروج 1/11) أن فرعون موسى سخر بني إسرائيل في بناء مدينتين: مخازن فيئوم، ثم رعمسيس. ولا يمكن أن تكون «رعمسيس» التي يعنيها الكاتب سوى «ﭘر – رعمسيس» التي ابتناها رمسيس الثاني، فليس في مصر القديمة شمالي شرق الدلتا قرب منازل بني إسرائيل في مصر مدينةٌ بهذا الاسم غيرُها. والذي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/44]
يبنى لرمسيس الثاني مدينته هذه لا يمكن أن يكون خروجه من مصر سابقًا على عصر هذا الملك. ربما قلت إن هذه من أفانين الكاتب، ينحل قومه شرف بناء مدينة لفرعون، ولكن الكاتب لا يقولها في معرض التفاخر، وإنما يقولها للتدليل على التسخير والذلة والمهانة. لو أراد المفاخرة لما أعضل عليه انتحال أثر مصري أعظم وأخلد، كما ادعى متبجحون من يهود هذا العصر أنهم المهندس الذي كن وراء بناء الأهرام. قد عاصر بنو إسرائيل إذن رمسيس الثاني في مصر، لم يخرجوا منها قبله. وهم كما مر بك لم يخرجوا على عصر خليفته مرنــﭘـتاح ومن جاءوا بعده. فلم يبق إلا أن يكون رمسيس الثاني هذا نفسه هو «فرعون الخروج».
ومن المؤرخين من يشفق من هذا، لا يريد أن يكون رمسيس الثاني، ذلك الفرعون العظيم، سيد العالم في زمنه، هو نفسه «الفرعون الملعون» في القرآن، بينما القرائن كلها تشير إليه، وينعدم الدليلُ العلمي على من يحل محله من ملوك مصر في البوء بإثمه. والسبب أنهم مبهورون بشخصية هذا الملك، أشهر فراعنة مصر وأعظمهم على الإطلاق، متى قست العظمة بالعلو والاستعلاء، والزهو والفخر والتجبر، والبناء والنحت والنقش، وإن كذب وزيف، كما ترى من نقشه الذي يحول هزيمته في قادش إلى بطولة ونصر مؤزر، وكما ترى من سرقته آثار غيره ينسبها لنفسه، مثل بهوى الأعمدة في الأقصر والكرنك. كل هذا عند هؤلاء المؤرخين «هنات» لا تقلل من عظمة هذا الملك، الذي يشفقون من مهلكه ذليلاً خاسئًا بعصا موسى على أيدي شرذمة من بني إسرائيل.
ولو أن هؤلاء المؤرخين آمنوا واتقوا، وقرءوا طويلاً في هذا القرآن، لأدركوا أن الله عز وجل إنما يرسل الرسل إلى هذا الصنف بالذات من الملوك الجبابرة الطغاة: {وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين}[يونس: 83]، الذين آتاهم الله من كل شيء فجحدوا واستكبروا، وتألهوا: {فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [النازعات: 23 – 26]. وما كانت العبرة لتحدث لو كان فرعون هذا ملكا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/45]
هملا. على أنه لم يقل أحد بأن بني إسرائيل ناجزوا فرعون فغلبوه، وإنما هم فروا منه بليل، يتوجسون. بل كان مهلك فرعون بآية كونية كبرى، تناسب «جبروت» هذا الملك، الذي علا واستكبر، فقصمه جبار السموات والأرض، لا كبير غيره.
يؤيد هذا أن مهلك رمسيس الثاني كان آخر عهد مصر بالعظمة، فلم تقم لها من بعدُ قائمة، إلا هبات هنا وهناك، وجذوة تحت الرماد تريد أن تتوهج وسرعان ما تنطفئ. وكأنما حلت بمصر اللعنة (هي لعنة الفراعنة إن تمعنت). وإنما كانت سقطة مصر الفرعونية إلى أبد الدهر تأديبًا لها على سكوتها عن هذا الطاغية، ولو لكان فرعون موسى اسبق من رمسيس الثاني، لما كان لعصر رمسيس الثاني في تاريخ مصر محل. تلك هي عاقبةُ السكوت على كل طاغية متأله: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]، {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} [الزخرف: 54]، {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} [الزخرف: 55]، {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القامية} [هود: 99]، {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك أورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان: 25 – 29].
لو أن رمسيس الثاني آمن لموسى لتغير وجه التاريخ البشري كله، وتاريخ مصر بوجه خاص. ولكن لا مجال في التاريخ لكلمة «لو» التي تفتح عمل الشيطان كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: إنه قضاء الله عز وجل لا راد لحكمه، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين.
وقد كان من آل فرعون من آمن لموسى وهرون. تجد هذا في القرآن ولا تجده في التوراة، ولكنهم كتموا إيمانهم خشية بطش هذا الطاغية. من هؤلاء ذلك الرجل من آل فرعون في سورة غافر الذي لم يطق صبرا فاستعلن لهم بإيمانه: {فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب} [غافر: 45]. بل من هؤلاء أيضًا امرأة فرعون نفسه: {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/46]
رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11].
أفقد كانت هذه هي أم موسى بالتبني، التي التقطته من اليم فاتخذته ولدا؟ التي قالت لزوجها ترقق قلبه: {قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} [القصص: 9]؟ القرآن على هذا، فلم ترد «امرأة فرعون» في كل القرآن إلا في هذين الموضعين فحسب (القصص: 9 – التحريم: 11)، اسمًا علما على تلك التي كانت سببا في استحياء موسى فكان جزاؤها من الله عز وجل أن تؤمن به ليكون لها حسن ثواب الآخرة.
فما بال التوراة تقول أن التي التقطت موسى من اليم فتنبته هي «ابنة فرعون»، ليست هي «امرأة فرعون»؟ أفتكون الابنة والزوجة شخصًا واحدًا؟ أفقد تزوج رمسيس الثاني ابنته؟
نعم. فقد كان من مخازي هذا الفرعون «العظيم» أنه تزوج ثلاثًا من بناته!
ربما استفظعت هذا. لا عليك. فقد سبقه بها الملك «القديس» إخناتون، الذي تزوج ابنته «عنخس إن ﭘا أتون» وهي في الثانية عشرة من عمرها بعد أن فارقته أمها «نفرتيتي» فاستولد ابنته «حفيدته» منها «عنخس إن ﭘا أتون» (الصغرى) ولما رأى أن ابنته لم تنجب له وريثا للعرش وقد حرم من ذريته الذكور، زوجها من أمير صغير في التاسعة من عمره استخلفه على العرش، وهو «توت عنخ آمون»!
هذا قد يفسر لك قول التوراة «ابنة فرعون» على معنى «امرأة فرعون» الذي في القرآن، أي «الابنة الزوجة» التي كانت لرمسيس الثاني.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/47]
قال فرعون بعد ما عاين الآية الكبرى وهو يغرق، يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: {قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل!}، فقال عز وجل: {ألآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون} [يونس: 91 – 92].
وهاتان الآيتان من إعجاز القرآن إن تمعنت: لم يترك الله جثمان رمسيس الثاني في قاع اليم طعامًا لوحوش البحر، بل أصعده إلى نجوة منه، ليتحقق من مهلكه الذين تأله لهم. ورغم ظروف مهلكه التي ترجح معها أنه ما حنط حتى رم، فقد حفظ جثمانه على أحسن ما يكون تحنيط المصريين مومياءات ملوكهم. ويكاد الفطر يتسلل إلى موميائه في المتحف المصري فتفسد وتتحلل، ولكن الله يقيض لها خبراء أجانب يعكفون على تطبيبها فتصح. وكم ذعروا يوم فكوا لفائفها وذراع رمسيس الثاني تنتفض مشرعة إلى أعلى، وكأنها تيبست على حالها يوم هلك، يستغيث ولا مغيث، أو يوحد بها الواحد الأحد. ويظل تمثال له مجندلاً في صعيد مصر قرونا، يمر عليه الرائح والغادي، حتى جاءوا به لينصبوه في ميدان بوسط القاهرة، فيعبث به الصبية: يتخذون من نافورة في قاعدة التمثال «مبالة» وتختنق القاهرة بسكانها، فتقام الكباري والمعابر على أعناق ميادينها، ويغرق التمثال في طوفان البشر، ويطاطئ الرأس التي علتها أقدام المارة، يطلون عليه – إن أطلوا – من عَلٍ! أهذا هو فرعونُ موسى؟ ربما.
ولكن القرآنَ المعجز لا يتركك هائمًا بين الشك واليقين، تبحث عن «فرعون موسى» بين فراعنة مصر، ولكنه يسميه لك بالاسم: إنه ليس «أي» فرعون، يتجادل الباحثون فيه، أي الفراعين كان، ولكنه «فرعون ذو الأوتاد».
قال عز وجل، يسمى فرعون المعنى: {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد} [ص: 12]. وقال فيه أيضًا: {وثمود الذين جابوا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/48]
الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذي طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد} [الفجر: 9 – 14].
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي لهذه الآيات من سورتي ص والفجر) فقد فسروا هذه الأوتاد على معنى الوزراء والأنصار والأعوان. وليس بشيء، فلكل ملك – وإن ذل – وزراء وأنصار وأعوان، وما كان لفرعون موسى أن يخصه الله بلقب شائع في الملوك جميعًا.
وأما أنت – وقد علمك الله من هذه اللغة المصرية القديمة ومن تاريخ الفراعنة وآثارهم ما لم تكن تعلم – فقد علمت أن رمسيس الثاني انتحل لنفسه بناء بهو «الأعمدة» الذي في معبد الكرنك، وهو أعظم آثاره المنسوبة إليه، وإن كان التاريخ يرد الشروع في بنائه إلى جده رمسيس الأول، ويقول إن أبا رمسيس الثاني، «سيتي الأول»، ربما أتم بناءه أو كاد، وجاء رمسيس الثاني يضع «اللمسات الأخيرة» فملأ أعمدة هذا البهو بنقوش تحمل اسمه، غلبت على كل ما كان باسم جده وأبيه، ينتحل كعادته هذا الأثر المعماري الفني العظيم لنفسه، فنسب إليه، لا يعرف به غيره.
ربما قلت وما شأن «ذي الأوتاد» بصاحب هذه «الأعمدة»؟
الجدير بالذكر أن علماء المصريات العرب لا يستحدثون الأسماء للأثر الفرعوني المكتشف، ولا يترجمون اسمه من المصرية القديمة إلى العربية، وإنما هم يترجمون اللفظة الإنجليزية الموضوعة له وفق المصطلح الذي يضعه علماء المصريات الأجانب. قال هؤلاء في ترجمة «يونيت» المصرية القديمة Hall of Columns فقال علماء المصريات العرب «بهو الأعمدة». ولكن هذه «الأعمدة» ليست للزينة والزخرفة، وإنما هي دعائم وأوتاد جبارة، يرتكز عليها – أو كان يرتكز – سقف هائل. إنها أشبه شيء بكتل خرسانية ضخمة تحمل فوق رأسها منشآت جبارة تزن مئات الأطنان. «الأوتاد» هنا إن تمعنت، بعد مشاهدة هذا الأثر بالطبع، ترجمة أدق وأولى.
وسبحان علام الغيوب).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 33-49]