(57) الإنجيل:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ((57) الإنجيل
يضم «العهد الجديد» الذي يتعبد به المسيحيون قبيل نزول القرآن وإلى اليوم سبعة وعشرين سفرًا، وهي إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا، وهي تحكي سيرة المسيح وأقواله وأفعاله ووصاياه منذ أن ولد حتى رُفِع، فهي أشبه بالسيرة النبوية عند المسلمين. بالإضافة إلى ثلاثة وعشرين سفرًا أخرى أولها «أعمال الرسل» أي أعمال الحواريين ومن دخلوا في عدادهم بعد رفع المسيح، وينسب هذا السفر إلى لوقا أيضًا، صاحب الإنجيل الثالث المسمى باسمه. تجيء بعد ذلك أربع عشرة رسالة تنسب إلى بولس (وهو من غير الحواريين بل لم يشهد المسيح ولم يسمع منه)، ثم رسالة تنسب إلى يعقوب الحواري، واثنتان منسوبتان إلى بطرس رئيس الحواريين، وثلاث منسوبة إلى يوحنا الحواري، واثنتان منسوبتان إلى بطرس رئيس الحواريين، وثلاث منسوبة إلى يوحنا الحواري، التلميذ الذي كان المسيح يحبه، وهو أصغر الحواريين سنًا، وليس هو صاحب الإنجيل الرابع المسمى بهذا الاسم، بل هو سمي له. ثم رسالة منسوبة إلى يهوذا الحواري (وهو غير يهوذا المتهم بخيانة المسيح). وأخيرًا «رؤيا يوحنا اللاهوتي»، وليس هو يوحنا الحواري على التحقيق. والأسفار الأربعة الأولى، أعني الأناجيل الأربعة، هي المعنية بلفظة الإنجيل على الإجمال، يكمل بعضها بعضًا وينقل بعضها عن بعض، هي المعنية بلفظة الإنجيل على الإجمال، يكمل بعضها بعضًا وينقل بعضها عن بعض، متساوية في الحجية عند المسيحيين. فلم تحفظ لك الكنيسة إنجيلاً آخر للمسيح غير هذه الأربعة.
ويقول مؤرخو المسيحية إن الأناجيل لم تكن في الصدر الأول أربعة فقط، وإنما كانت بالمئات، نحو ثلاثمائة إنجيل، يروى كل ما شهد أو سمع، أو ينقل عمن شهد أو سمع، أو يقص ما يحتج به لمقولته في المسيح. ولكن الكنيسة – بعد استقرار عقيدة التثليث في القرن الرابع – استبقت من هذه الأناجيل أربعة فقط، هي تلك التي بين يديك الآن، وحظرت ما عداها، الذي طورد وأعدم، لمخالفته بلا شك لمقولة الكنيسة في المسيح.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/298]
والمشهور أن مكتبة الفاتيكان احتفظت في خزائنها ببعض هذه الأناجيل المنكرة، المحظور تداولها بين الناس، وليس هذا بشيء وإن صح، لأنه ليس لك حجاج الكنيسة بالذي أنكرته من تلك الأناجيل. من هذه الأناجيل المنكرة عند الكنيسة الإنيجل المنسوب إلى برنابا الحواري كما يروى مكتشف هذا الإنجيل، الذي أنكرته الكنيسة غداة ظهوره في القرن الثامن عشر، ورمته بالزيف والانتحال، مكيدة كادها للكنيسة بعض خصومها وشانئيها. وليس لك أن تأخذ على الكنيسة إنكارها إنجيل «برنابا»، فهو يقول بمقالة القرآن في المسيح: أنه فحسب عبد الله ورسوله، ليس إلهًا أو ابن إله، بشر صريحًا بخاتم النبيين، وأرادوا قتله على الصليب فشبه لهم، ورفعه الله إليه جسدًا حيًا لا يموت حتى قُرْبِ الساعة، فينزل في الناس ليقطع شبهة الناس فيه.
ولسنا من القائلين بحجية إنجيل برنابا في مواجهة الكنيسة، إذ ليس لك حجاج الكنيسة بما تنكره، بل كلا يولي الله ما تولى. فحسبك هذه الأناجيل الأربعة التي بين يديك، وفيها رغم كل شيء الكفاية كل الكفاية.
وبعد، فليس برنابا الحواري إلا رواية بين رواة، كلهم كتب بغير لغة المسيح، لا تدري عن أي أصل نقل، ولا تدري هل أخطأ في الترجمة أم أصاب.
والذي ينبغي التنبيه إليه أنه ليس في هذه الأناجيل الأربعة إنجيل منسوب إلى حواري شهد وعاين، إلا إنجيل متى وحده، الأول في ترتيب أسفار العهد الجديد، عن قلت إنه «متى العشار» (واسمه في الأصل «لاوي» المعدود بين الاثني عشر على ما تجد في إنجيله (متى 10/3). أما كاتب الإنجيل الثاني، مرقس، فهو من تلاميذ بطرس الحواري، سمع منه ولم يشهد أو يعاين، شأن التابع والصحابي عند أهل الإسلام، وأما الإنجيل الثالث، لوقا، فهو يفصح لك في مفتتح إنجيله عن أنه لم يشهد ولم يعاين: «إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا في البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب إليك على التوالي أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علمت به» (لوقا 1/1- 4)، فهو يوناني يكتب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/299]
إلى يوناني، والمشهور أنه سمع من بولس الذي تعلم بشهادته هو أنه لم يسمع ولم يعاين، فلوقا إذن ناقل عن ناقل. وأما الإنجيل الرابع، يوحنا، فقد قالت الكنيسة إنه يوحنا الحواري (التلميذ الذي كان المسيح يحبه)، كتبه وقد أسن قرب ختام المائة الأولى لميلاد المسيح، سألوه في كتابته ليرد على «بدع ظهرت» تجحد لاهوت المسيح، أو تنكر أن قد كان للمسيح وجود قبل مريم أمه، أو تلاميذ ليحيى بن زكريا يغالون به تلاميذ المسيح، فاستجاب لهم وكتب هذا الإنجيل إثباتًا للاهوت المسيح خاصة. وهذا يعني أن قد كان قبل كتابة هذا الإنجيل مسيحيون ماتوا مؤمنين بالمسيح رسولاً نبيًا ليس إلهًا أو ابن إله. وقد أصرت الكنيسة على نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري دعمًا لشهادته التي تجهر بتأليه المسيح. وليس هذا بصحيح، لا لأنك شهدت الكاتب الذي كتب هذا الإنجيل، وإنما ببساطة لأن الكاتب يُنْهي إنجيله بما تفهم منه صريحًا أنه ليس هو يوحنا الحواري، وإنما هو ناقل عن يوحنا: «هذا هو التلميذ (أي يوحنا) الذي يشهد بهذا وكتب هذا، ونعلم أن شهادته حق. وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة» (يوحنا 21/24- 25)، غنه يؤمن على أستاذه لا أكثر ولا أقل، لأن الضمير في «نعلم»، «لست أظن»، قاطع الدلالة على المغايرة بين هذا المتكلم الشاهد ليوحنا وبين يوحنا المشهود له.
والذي ينبغي التنبيه إليه أيضًا أن هذه الأناجيل الأربعة لم يكتب أي منها بلغة المسيح العبرية – الآرامية، وإنما كتبت كلها ابتداء بلغة يونانية متأخرة عرفت باليونانية الكنسية لاحتوائها ألفاظًا وتراكيب لم تسمع من اليونان قبل عصر المسيح، من مثل: إيفنجليون euaggelion يعني «الإنجيل»، فارقليط parakletos التي تترجم في الأناجيل العربية بلفظة «المعزي»، وليس كذلك، وإنما هي «أحمد» أو «محمد» كما سوف ترى. ولا يصح ما قيل من أنه قد كان لهذه الأناجيل اليونانية كلها أو بعضها أصل عبراني نقلت عنه، وبالذات إنجيل متى الذي كتبه كما يقال لليهود في فلسطين، ولكن هذا الأصل فقد. لا يصح هذا القول ليس فقط لأنه لا عبرة بأصل مظنون قد
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/300]
فُقِد، وإنما أولا وبالأخص لأن مَتَّى بالذات، بل ومرقس أيضًا الناقل عن بطرس، ذكرا في إنجيليهما كما تعلم عبارات بلغة المسيح العبرية – الآرامية حرصًا كلاهما على ترجمتها إلى اليونانية، ولو كانا يكتبان أصلاً بلغة المسيح لقارئ بلغة المسيح لما احتاجا إلى هذه الترجمة لأن قارئهما لا يحتاج إليها.
في هذه الأناجيل الأربعة إذن عناصر ثلاثة تحترز منها كل الاحتراز كي لا تسيء فهم ما نطق به المسيح الذي خاطب ربه في القرآن بقوله: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} [المائدة: 117]، وهذه العناصر الثلاثة هي:
1- عنصر الرواية، أعني صدق الراوي فيما روى، فلا تأخذ إلا بما أجمع عليه الرواة الأربعة، أو بما لا يتناقض مع ما أجمع عليه الرواة الأربعة.
2- عنصر الترجمة، أعني صحة الترجمة من لغة المسيح إلى لغة الأناجيل اليونانية، فتفهم «الآب» بمعنى «الرب» كما قالها موسى عليه السلام، وتفهم «الابن» بمعنى البار المبرور المتبرر أي «مختار الرب» لا ابن الرب، كما رأيت في تحليلنا لاسم ذلك اللص الذي رفض اليهود افتداء المسيح به، أعني «باراباس»، التي أصلها العبراني الآرامي «بار - أبا» يعني «مختار الرب» لا ابن الرب ولا ابن الأب.
3- عنصر الرأي، أي القول الذي زاده الكاتب من عنده يفسر برأيه شيئًا من قول المسيح أو فعله، أو يستشهد من العهد القديم بفقرات ينتقيها لإثبات مقولته هو في المسيح، مثلما مر بك في إنجيل متى من استشهاد في غير موضعه بيونس في بطن الحوت، أو يدبج بقلمه ديباجة يستعلن فيها برأيه هو في لاهوت المسيح كالذي تقرأ في مفتتح إنجيل يوحنا. ليس هذا من وحي الله على رسله، وإنما هو قول الكاتب، لا يلزمك.
تفعل هذا كمسلم يقرأ في هذه الأناجيل. أما الكنيسة فقد احتاطت لحجية المكتوب في هذه الأناجيل بالكلمة والحرف، فقالت بأنه وحي الله على كاتبيه بذات اللغة التي كتبوا بها، تنزل عليهم به الروح القدس ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث، يعني جبريل صلوات الله عليه. وقالت أيضًا أن ما اختلفوا فيه يكمل بعضه بعضًا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/301]
كل إنجيل يقص ما وعى مما سمع. أما حين يصعب التوفيق بين النقيض ونقيضه مثل «ابن الإنسان»، «ابن الله»، وهما «بار - أنشا»، «بار - أبا» الآراميتين، فعندئذ يقال لك: في المسيح ناسوت ولاهوت، أو «الكلمة صار جسدًا وحل بيننا»، أو يقال لك أخيرًا «عظيم هو سر التقوى»، يعني أن هذا فوق العقل، تؤمن به كما علمت. وتؤمن أيضًا بأن آباء الكنيسة الذين صاغوا لك «قانون الإيمان» القائل بأن الله ثالث ثلاثة، وبأن الثلاثة واحد أحد، إنما قالوا ما قالوه هم أيضًا بوحي من الروح القدس بعد رفع المسيح، فهم معصومون بعصمة الله عز وجل من الوقوع في الخطأ.
هنا يمتنع الجدل ويمتنع الحوار.
ولكنك تقول ما قاله الله عز وجل في القرآن: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} [الكهف: 17]، أو تقول بقول القرآن: {قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون} [الزمر: 46].
وقد قال نقاد أناجيل مسلمون أن «الإنجيل» المَعْنِيَّ في القرآن ليس هو تلك الأناجيل الأربعة المعتمدة وحدها عند المسيحيين يوم نزول القرآن، بل ثمة «إنجيل» آخر كتبه المسيح أو أملاه، ولكن أتباع المسيح أضاعوه.
وليس على هذا القول دليل، بل لديك من القرآن الدليلُ على عكسه، أعني أن القرآن ينظر إلى هذه الأناجيل الأربعة نفسها، التي فيها من وحي الله وفيها من قول الرواة، وأن الذي فيها من وحي الله على عيسى هو وحده المَعْنِيُّ بلفظة «الإنجيل» في القرآن، وما عداه ليس بإنجيل، لقوله عز وجل في هذا القرآن: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47]، وما كان الله ليعمي عليهم إنجيلاً غير الذي بين أيديهم، ولكنه طلب إليهم أن يتحروا ما أنزل الله فيه، وينبذوا ما زاد الرواة.
فكيف تميز أنت كمسلم بين ما قاله الله عز وجل في هذه الأناجيل الأربعة وبين ما زاد فيها الرواة؟ قد علمت أن الله عز وجل يخاطب الخلق على لسان أنبيائه، لا على لسان صحابة أو تابعين، ولا على لسان حواريين أو رواة لحواريين. فالذي قاله الله عز وجل في الأناجيل هو الذي نطق به المسيح نفسه مبلغًا عن ربه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/302]
حيثما وقعت في الأناجيل على قول محكي عن المسيح أنه قاله، عليك أن تضعه بين قوسين، أو تخط تحته سطرًا، ودعك من الباقي، فليس هو من المسيح نفسه ضربة لازب، وإنما هو من قول الكاتب، يحتج به لمقولته في المسيح، لا يلزمك، لأنه ليس من وحي الله على رسله.
خذ مثلاً تلك الديباجة الفخمة المفخمة التي افتتح بها يوحنا إنجيله، المكتوب بعد رفع المسيح بما لا يقل عن ستين سنة في أقرب التقديرات، يحتج به لعقيدته في لاهوت المسيح: «في البدء كان الكلمة. كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يوحنا 1/1- 5)، ويمضي فيقول: «كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيا إلى العالم. كان في العالم، وكون العالم به ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه. الذين لا من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل ولكن من الله ولدوا» (يوحنا 11/9- 13). هذا الكلام العويص المبهم المفخم الذي قاله يوحنا في مفتتح إنجيله – أيا كان رأيك فيه – ليس من وحي الله على رسله، لأن قائله ليس المسيح، وإنما القائل هاهنا هو يوحنا الكاتب، يستعلن بعقيدته في ألوهية المسيح، وأن الله والمسيح واحد (وكان الكلمةُ الله)، ناسيًا أنه سيقول بعد ذلك على لسان المسيح يُناجي ربه: «أنت الإله الحقيقي وحدك» (يوحنا 17/3)، أفتأخذ بقول يوحنا وتترك قول المسيح؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/303]
أما وقد استصفيت أقوال المسيح في هذه الأناجيل فخذ بأحسنها، كالذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، معيارك في ذلك ألا تترك محكم القول إلى متشابهه، بل تحكم المحكم في المتشابه فتقيده به، لا تحكم المتشابه في المحكم وتفسر المحكم بالمتشابه الذي يضطرك إلى قول المحال على الله عز وجل، كالذي قيل في مجمع نيقية وما تلاه من مجامع.
وليس عليك بعد ذلك حرج أن كنت مسلمًا يقرأ في هذه الأناجيل، فقد وضح لك الطريق، واستبان المنهج.
والذي يعنينا بالدرجة الأولى في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، هو معنى لفظة «إنجيل». وقد قال علماء المسيحية إنها لفظة يونانية هي «أيفنجليون» euaggelion معناها الحرفي هو الخبر السار أو البشارة. ولكن بشارة بمن أو بماذا؟ أهي بشارة بشيء حدث أم بشيء سيحدث؟ إن كانت بشارة بشيء حدث فهي المسيح نفسه الذي «تنبأت الكتب» بمجيئه، فهو البشرى التي تحققت. ولكن علماء المسيحية لا يقولون بهذا، وإنما يقولون أن البشرى هي بشيء سيحدث، وأن رسالة المسيح هي البشارة بهذا الذي سيحدث. فما الذي جاء المسيح يبشر به؟ أعني ما هو الخبر السار الذي جاء يعلنه للناس، فسميت به الأناجيل «إنجيلا»؟
قال علماء المسيحية أن الذي جاء المسيح يبشر به في هذه الأناجيل هو قرب «ملكوت السموات»: «من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا! لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 4/17). هذه العبارة، ملكوت السموات، وتجيء أيضًا بلفظ ملكوت الله، من العبارات الهائمة المبهمة في مصطلحات الأناجيل، استعصى فهمها حتى على الحواريين أنفسهم فما فتئوا يسائلون عنها المسيح وما فتئ هو يضرب لهم المثل تلو المثل في شرحها، حتى فهموا أخيرًا أنه يعني بها الحياة الآخرة، فريق في الجنة وفريق في السعير. إنها البشارة بقرب قيام الساعة. ولكن لماذا تسمى الساعة ملكوتًا، فيقولون في صلواتهم: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء فكذلك على الأرض» (متى 6/9- 10)؟ الذي يقرب لك المعنى إن كنت من أهل القرآن هو قوله عز وجل يوم يرث الأرض ومن عليها {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]. وربما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/304]
كني المسيح بلفظ «الملكوت» عن الجنة، فقال «أبناء الملكوت»، يعني الأبرار الداخلين في عفو الله ورحمته، المنعمين في رضوانه، أولئك «هم الوارثون» كما تجد في القرآن.
ولكن، كيف تصح البشارة بقرب قيام الساعة؟ قد كان يظن عصر كتابة متى إنجيله أن الساعة على الأبواب، لقوله في مرقس: «متى رأيتم هذه الأشياء صائرة فاعلموا أنه قريب على الأبواب. الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله» (مرقس 13/29 – 30)، لا يلبث المسيح أن يرفعه الله إليه حتى يعود في مجيئه الثاني فتقوم الساعة. ولكن مضت القرون ولم تأت الساعة. وقد قال لهم المسيح في نفس الموضع: «وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب» (مرقس 13/32)، وكفى بهذا إقرارًا من المسيح بأنه لا يعلم إلا ما علمه الله، أما الساعة فعلمها عند ربي، لا يجليها لوقتها إلا هو، كالذي تقرأ في القرآن. فكيف يبشر المسيح بشيء لا يعلم موعده. لم يبشر المسيح باقتراب ملكوت السموات إذن، فقد مضت إلى اليوم قرون وقرون ولم تقم الساعة. بل لا يصح لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبشر بقيام الساعة. الأحرى أن ينذر بها ولا يبشر، فليست هي بالخبر السار إلا لمن ضمن الجنة، ولا يضمن أحد الجنة بعمله إلا أن يتغمده الله برحمته، وإنما هو يرجو عفو الله ومغفرته، فكل عمل في جنب الله قليل لم يقل المسيح: تهللوا! فالساعة قريب. وإنما قال: توبوا! فقد اقترب ملكوت السموات. إنه هنا نذير لا بشير.
لم يبشر المسيح إذن بملكوت السموات، إن فهمت ملكوت السموات بمعنى قُرب قيام الساعة، وإنما تستطيع أن تقول أنه أنذر بها. وقد قالها يوحنا قبله بنفس عبارته: «توبوا! لأنه قد اقترب ملكوت السموات» (متى 3/2). ومن ثم لا يصح اختصاص المسيح وحده بهذه البشارة، أعني النذارة، حتى يسمي بها وحي الله عليه «الإنجيل»، فلم يغفل عن قولها من قبل ومن بعد نبي.
قيل أيضًا أن بشارة المسيح هي البشارة بمغفرة الخطايا، يعني أنه جاء خلاصًا للبشر من خطاياهم. وليس بشيء، لقوله في مرقس: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/305]
(مرقس 16 15- 16)، فليس هو إذن خلاصًا للبشر أجمع، وإنما الخلاص لمن آمن. وهذا صحيحٌ فيه وفي سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. فليست هي إذن بشارة تتخصص به. وقد دعا بها يوحنا قبله: «كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا» (مرقس 1/4). فلا مغفرة إلا بالإيمان والتوبة، أتباع يحيى وأتباع المسيح في هذا سواء. وما العماد على يد يحيى أو عيسى إلا عهد على إخلاص التوبة.
ها قد استبان لك بالتحليل النقدي وحده أن محور رسالة المسيح عليه السلام ليس هو البشارة بقيام الساعة – إن فهمت ملكوت السموات بمعنى يوم الحساب – فلا أحد يبشر بقيام الساعة ولا يطلبها في صلواته. وليس هو أيضًا «النذارة» بها، فهذا عامٌ في كل نبي لا يختص به المسيح وحده. بل حتى إن فهمت ملكوت السموات بمعنى الحياة الآخرة «الملك يومئذ لله»، فريق في الجنة وفريق في السعير، أو فهمت ملكوت السموات بمعنى الجنة فقط، فلا يستقيم لك هذا أو ذاك، لأن التبشير بالجنة والتنفير من النار هو قول الأنبياء جميعًا لم يغفل عن قوله نبي، ولا يختص به نبي دون نبي، لا يصح أن تنفرد به رسالةُ المسيح فيتسمى به «إنجيليه». ولا يصح أيضًا أن تكون رسالةُ المسيح هي «البشارة» بمغفرة الخطايا، فهذه هي بُشرى جميع الأنبياء من قديم لكل مؤمن تاب وأناب فأسلم وجهه لله مخلصًا له الدين.
ولا يصح بالذات ما قاله اللاهوتيون من بعد في تأصيل نظرية البشارة بمغفرة الخطايا: قالوا بل من الخطايا مكتسب وأصلي. فأما المكتسب فهو الذي يجترحه البشر في هذه الدنيا ويصح تكفيره بالاستغفار والتوبة. وأما الخطيئة الأصلية فهي خطيئة يولدون فيها ولا حيلة لهم في دفعها لأنهم ورثوها ولم يجترحوها. إنها خطيئة أبيهم آدم يوم نسى فأكل من الشجرة المنهي عنها، فباء بإثمها البشر جميعًا، الذين يولدون في دنس هذه الخطيئة منذ أن طرد أبوهم من الجنة حتى مجيء المسيح «ببشارة» افتدائه البشر منها بدمه المسفوح على الصليب، لأن «الآب» لا يقبل قربانا يعدل معصية آدم إلا دمًا زكيًا لم يولد في دنس هذه الخطيئة، وهو المسيح، ابن الله الوحيد الذي ولد لخلاص العالم. ولا يصح هذا، ليس فقط لأن الله تاب على آدم وزوجه قبل إهباطهم إلى الأرض كما قال القرآن: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/306]
عليه إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]، ليس هذا فحسب، وإنما أولاً وبالذات لأن الخطيئة لا تورث، بل كل امرئ محاسب فحسب بما قدمت يداه، لا يسأل بما فعل آباؤه، ولا يؤخذ بفعل ذراريه. وثانيًا لأن معنى هذه المقولة هو أن الأبرار قبل المسيح – وفيهم أنبياء الله ورسله وصديقوه – ماتوا كلهم في خطيئة آدم، لا حظ لهم في الآخرة. ولا يصح هذا أخيرًا وبالذات لأن المسيح لم يقله في هذا الإنجيل الذي بين يديك، ولا يجوز التزيد على أنبياء الله ورسله، ولا سيما في أمر هو عمود الدين عند أصحاب هذا اللاهوت.
وقد جودل أصحاب هذه المقولة بمعظم هذا الذي قلناه، فأحيط بهم. ولكنهم استدركوا على أنفسهم فقالوا إن الأبرار قبل المسيح – وفيهم أنبياء الله ورسله وصديقوه ومنهم مريم عليها السلام – يُعفِيهم الله بسبق الاصطفاء من وزر الخطيئة الأصلية فلا يولدون في دنس خطيئة آدم، وإنما تحمل بهم أمهاتهم حملاً بريئًا من هذا الدنس، يرقعون كما ترى قولاً يقول، فما صح لهم هذا ولا ذاك، لأنه متى فسدت المقدمات فقد فسدت النتائج.
إذا كان المسيح لم يبشر بالساعة، ولم يبشر بمغفرة الخطايا مجانًا، ولم يبشر بنسخ الولادة في دنس خطيئة آدم، فبماذا بشر المسيح إذن في إنجيله إذا كانت «الإنجيل» تعني يونانيً البشارة أو الخبر السار؟
يقول أهل القرآن أن بشارة المسيح إنما كانت بختام النبوات على يدي الذي يأتي بعده، لقول المسيح في القرآن ينص على هذه البشارة: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6].
لا تقرأ هذا أو قريبًا منه في أناجيل متى ومرقس ولوقا، وإنما انفرد به «يوحنا» الذي جمع بين النقائض: أله المسيح جهرة في مفتتح إنجيله، وختمه بالنص على أن المسيح رُفِع ولم يَقُل بعد كل الذي يجب أن يقال، كما يتبين لك من قول يوحنا على
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/307]
لسان المسيح: «إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقولَ لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذلك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية» (يوحنا 16/12- 13). لم يرشد المسيح أتباعه إذن إلى «جميع الحق»، بل عليهم أن ينتظروا «الآخر»، متمم النبوات جميعًا، الذي يرشدهم إلى «جميع» الحق، فلا يبقى بعده من رسالات السماء شيء يقال.
هذه في الأناجيل هي شهادة عيسى للقرآن ولمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ختام النبوات به بعد ستة قرون من رَفْع المسيح، وهي بشارته بقائل جميع الحق. وهي كافية في ثبوت بشارة عيسى بخاتم النبيين، ولو قد تلبث عندها علماء المسلمين لكفتهم، ولكنهم أصروا على التماس اسم خاتم النبيين في الأناجيل صريحًا على لسان المسيح، وسيأتي.
على أن علماء المسيحية لم يسلموا لعلماء المسلمين بالذي قالوا، وهذا بديهي، وإلا لدخلوا ودخل معهم الخلق جميعًا في دين الله أفواجا. وإنما يقول شراح المسيحية وعلماؤها ولاهوتيوها أن هذا الآخر الذي يأتي بعد رفع المسيح ليرشد الناس إلى جميع الحق، أي ليقول لهم ما لم يقله المسيح، لأنهم لا يستطيعون احتماله، الذي نعته المسيح بروح الحق، ليس هو بشرا من أنبياء الله ورسله، وإنما هو «الروح القدس»، ثالث الثلاثة في عقيدة التثليث، يعنون ملك الله جبريل صلوات الله عليه. وهذا القول – إن تمعنت – مردود بما في إنجيل يوحنا نفسه الذي تجد فيه بالنص من كلام المسيح لتلاميذه قبل القبض عليه: «وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي. لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم. ولكني أقول لكم الحق إنه خيرٌ لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزّي (وهي الفارقليط Parakletos اليونانية). ولكن إن ذهبت أرسله إليكم» (يوحنا 16/5- 7)، وهذا صريح في أن المسيح وهذا الآتي من بعده لا يتعاصران على هذه الأرض. لا بدُ من رفع المسيح أولاً قبل مجيء هذا الآتي. بينما تقرأ في يوحنا أن هذا الروح القدس كان معهم قبل رفع المسيح، بل إن المسيح نفخ فيهم هذا الروح القدس قبل ارتفاع المسيح: «ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس» (يوحنا 2/22). وهو مردود أيضًا بأن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/308]
«الروح القدس» عندهم إله (ولم يكن يوحنا يعلم بالطبع يوم كتب إنجيله أن جبريل سيتأله في الربع الأخير من القرن الرابع)، ولا يليق بإله ألا يتكلم من نفسه، بل ينتظر سماع ما يقال له ثم يقوله للناس، وإنما يصح هذا في أنبياء الله ورسله، يلقى إليهم وحيه فيتكلمون به، شأن محمد صلى الله عليه وسلم وهذا القرآن. بل لا يصح في جبريل بالذات وإن لم يتأله جبريل، لقول المسيح في يوحنا: «ومتى جاء المعزي (وهي الفارقليط Parakletos اليونانية) الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي» (يوحنا 15/36) لأن جبريل عليه السلام، ملك الله إلى أنبيائه ورسله قد سبق «انبثاقه»، لا ينتظر المسيح حتى يرسله من عند «الآب»، بل قد سبق انبثاقه مولد عيسى نفسه، لأنه النافخ في مريم، المؤيد للمسيح في المعجزات التي أجراها الله على يديه. ولو كان عيسى إلهًا بذاته لما احتاج إلى جبريل. ولو كان جبريل إلهًا بذاته لما احتاج إلى «السماع» من الآب ليتكلم بما يقوله له «آب» من ذات جوهره. ولو بقي جبريل ملكًا على أصله لما جاز أن يكون هو المبشر به، لأن الملائكة لا تتنزل على تلاميذ، وإنما تتنزل على أنبياء، كالشأن في جبريل ومحمد، صلوات الله وسلامه على ملائكته وأنبيائه. وأخيرًا – وهو الفاصل الحاسم – فإن هذا الذي تنزل على التلاميذ يوم الخمسين (أي بعد خمسين يوما من رفع المسيح كما تقرأ في سفر أعمال الرسل) لم يقل لهم شيئًا، لا من نفسه ولا سماعًا من الآب، كما قال المسيح في الآتي بعده، وإنما كان دوره هو تأييده ونصرتهم وإجراء العجائب على أيديهم كالذي تقرؤه في سفر أعمال الرسل. ليس هذا إذن هو الآتي بعد المسيح، الذي «شهد له»، وإنما الشاهد للمسيح هو هذا القرآن.
أما لفظة «الفارقليط» Parakletos التي سمى بها المسيح هذا الآتي بعده، فهي من اليونانية الكنسية التي لم تسمع قط من اليونان قبل عصر المسيح، يعني أنها منحوتة نحتًا لتسمية هذا الآتي، وقد قال علماء المسيحية إنها يسهل اشتقاقها على المفعولية من الفعل اليوناني Parakalein بمعنى استغاثه واستنصره واستعانه فهو إذن المستغاث، المستنصر، المستعان: أخذوا Kalein اليونانية بمعنى ناداه واستدعاه، وأخذوا المقطع اليوناني Para بمعنى إلي حوالي، وكأنك تقول «هلم إلي». ولا تزال Parakalo في اليونانية المعاصرة تفيد معنى الطلب والرجاء (أرجوك!) هذا التفسير المسيحي للفظة الفارقليط Parakletos بمعنى النصير الشفيع، تفسير متأثر
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/309]
بالدور الذي اضطلع به «روح القدس» من بعد رفع المسيح من نصرة التلاميذ وتأييدهم بالعجائب التي أجراها على أيديهم على نحو ما تقرؤه في سفر «أعمال الرسل»، وإن لم يقل لهم شيئًا مما قال المسيح إنه سيرشدهم إليه، الذي يقول لهم «جميع» الحق. ومن ثم لا يتفق هذا التفسير مع دور هذا «الآتي» من بعد المسيح، لأنه ليس المعني بها.
ولا شك أن يوحنا الكاتب لهذا الإنجيل حين نص على أن الفارقليط هو نفسه روح القدس جبريل: «وأما الفارقليط الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم» (يوحنا 14/26)، كان متأثرًا بهذا الذي كان، فخلط قلمه بين «روح الحق»، «روح القدس» التي سمى بها الفارقليط مرة واحدة فقط في هذا الموضع وهي في كل المواضع الأخرى «روح الحق»، وليست روح الحق هي روح القدس كما ظن يوحنا المتأثر بالذي كان.
والذي ينبغي التنبيه إليه أن ترجمات الإنجيل بكل اللغات استبقت لفظة فارقليط على أصلها، تحاشيًا من التورط في ترجمة معناها إلى اللغة المترجم إليها، فقالت الترجمة العربية حتى أوائل هذا القرن «فارقليط»، وقالت الترجمة العبرانية «برقليط»، وقالت الفرنسية le Paraclet، إلخ. ولكن من اللغات الأوروبية من تصدت لهذه الترجمة فقالت الألمانية «المدافع» أو «الشفيع» المتشفع به Fürsprecher وتابعتها الإنجليزية على هذا المعنى فقالت «الناصح المشير» Counsellor وكأنها المحامي، وقالت الإنجليزية أيضًا «المعزي» المواسي Comforter وأخذتها عنها الترجمة العربية المعاصرة فقالت «المعزي»، لا تجد اليوم غيرها في ترجمات الإنجيل العربية. وليس هذا كله بصحيح من حيث اللغة، لا سيما «المعزي»، وإنما هو التفسير بالعقيدة، لا التفسير باللغة، فليس في Parakalein اليونانية شيء من معاني العزاء والمواساة، وليس فيها أيضًا شيء من معاني الشفاعة والمدافعة والمشورة، وإنما هي – إن اشتققتها من Parakalein كما يقول علماء المسيحية – تعني فقط المستغاث المستنصر المستعان، أو الذي تتوجه إليه بالرجاء، على معناها الباقي في اليونانية المعاصرة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/310]
أما علماء المسلمين فقد دلهم بعض السريان من قديم على أن «فارقليط» هذه تعني في اليونانية «أحمد» التي في القرآن اسمًا لخاتم النبيين الذي بشر به عيسى قومه في القرآن. فذهب بعض المفسرين إلى أن «الفارقليط» من أسمائه صلى الله عليه وسلم. وقد جادل بها المسلمون أهل الكتاب إلى هذا العصر. وانتبه علماء المسيحية إلى خطورة هذا حين يقرؤه المسيحيون العرب الذي يعرفون على التحقيق معنى الاسم «أحمد» أو «محمد» في لغتهم العربية، ولا علم لهم بتلك اللغة اليونانية التي كتبت بها أصول الأناجيل وصيغت بها لفظة Parakletos هذه التي استبقيت على أصلها «فارقليط» في الترجمات العربية حتى أوائل هذا القرن العشرين، فلا يستطيعون لمقولة علماء المسلمين هؤلاء دفعًا. قال علماء المسيحية إذن أن Parakletos اليونانية لا تعني قط «أحمد» وإنما تعني «المعزي» فحسب، معقبين بأنها في الأصل اليوناني Parakletos، وليست Perikliots، «فليس في المتن شيء من معاني الحمد». وتوقفت ترجمات الإنجيل العربية عن استخدام لفظة الفارقليط، ووضعت في موضعها لفظة «المعزي» قطعًا للجدل حول شبهة معنى «الحمد» في الاسم على مثال ما فعلت الترجمة الإنجليزية Comforter.
هذا الدفع «اللغوي» بأن الفارقليط لا تعني أحمد، دفع متأخر بطبيعة الحال، لم يعرف قبل مبعث خاتم النبيين المسمى «محمدا»، أو قل إنه لم يعرف قبل اطلاع الغربيين على معنى اسمه صلى الله عليه وسلم، فهبوا لمنع اشتباه اسمه باسم ذلك الآتي بعد المسيح، الذي إن لم ينطلق هو لا يجيء. ولكن هذا الدفع لم يطفيء الشبهة، بل زادها اشتعالاً: ها قد علم المسلمون أن في اليونانية «فريقليط» Periklitos بمعنى «أحمد» شبيهة كل الشبه بـ «فارقليط Parakletos المثبتة في الأصل اليوناني، فلم لا تكون هذه هي تلك، تحرفت على قلم يوحنا الكاتب في إنجيله؟
على أن علماء المسيحية أصحاب هذا الدفع اللغوي لم يوفقوا، فليس معنى فارقليط Parakletos اليونانية هو «المعزي» كما مر بك وكما يعلم دارسو اللغة اليونانية، ولا معنى للإصرار على أن الفارقليط يعني المعزي. وليس بصحيح أيضًا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/311]
أن Parakletos لا تعني «أحمد»، وأنها لو كانت أحمد لقيلت بلفظ Periklitos، بل Parakletos بذاتها ودون افتراض تحريف أو تحوير، تعني أحمد أيضًا، إن اشتققتها لا من Parakalein وإنما من Parakleiein، المقطع الأول Para بمعنى المبالغة وتجاوز الحد، والمقطع الثاني Kleiein فعل بمعنى مجده وحمده فهو المحمود أكثر من غيره، شأن «أحمد» التي جاءت في القرآن، وفي هذا تعليل لمجيئها على «أحمد» لا «محمد»، لأن القرآن ينظر إلى المكتوب في الأناجيل اليونانية لا إلى ما نطق به المسيح بلغته، وليس في اليونانية صيغة «مفعل» التي في العربية والعبرية، وإنما فيها المقطع Para الذي يفيد المبالغة وتجاوز الحد. والمحقق الذي لا يصح فيه جدل أن المسيح لم يقل فارقليط أو فريقليط، فهو لا يتكلم اليونانية، ولا يحدث تلاميذه بها، وإنما هي ترجمة من يوحنا الكاتب، لا تدري عما نقل، فلا تدري هل أخطأ أو أصاب.
هذا إن قلت أن «فارقليط» يونانية. ولكنك تستطيع أن تقول أيضًا وهذا هو الذي أرجحه أنا – إن «فارقليط» ليست يونانية، وإنما هي عبرية – آرامية «برق + ليط» على ما نطق به المسيح بلغته ونقلها على حالها يوحنا الكاتب حسبما استقام له نطقها بلسانه اليوناني. الذي يدلك على هذا أن العبرية المعاصرة تستخدم «برقليط» هذه بمعنى المحامي، لا اسم عندها للمحامي غيره. وقد تقدم القول في تضاعيف هذا الكتاب أن لفظة «برق + ليط» العبرية – الآرامية معناها كاشف الغشاوة أو واضع الإصر، وهو نعته صلى الله عليه وسلم في القرآن: {الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157]. والإنجيل المعني في هذه الآية هو بلا شك هذا الإنجيل اليوناني الذي بين أيديهم، فما كان الله ليعمي عليهم إنجيلاً آخر، وما كان القرآن ليقول إلا حقًا، لأنه هاهنا يتحدى أهل الكتاب بهذا الحق: إنه عندكم مكتوب في إنجيلكم فتلمسوه فيه، باسمه أو بنعته، لقوله عز وجل مباشرة بعد ذكرى بشرى المسيح قومه بمحمد في الآية 6 من سورة الصف: {ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 7 – 8].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/312]
هذا قاطع في بشارة الإنجيل بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، سواء قلت إنه «الفارقليط» المتنازع عليها، أو قلت أنه قائل جميع الحق الذي لا يبقى بعده شيء يقال كما وصفه المسيح صريحًا في هذا الإنجيل الذي بين يديك.
هذه هي «البشارة» إن قلت إن «الإنجيل» يونانيًا معناها البشارة.
على أننا لا نتلبث طويلاً عند هذا، فقد مر بك في تضاعيف هذا الكتاب أن رسالات الله عز وجل – من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه – إنما تستمد الدليل على صدقها من ذاتها لا من خارجها، لا تحتاج إلى نبوءات وبشارات في الكتب السابقة كالذي ألح عليه كتبة الأناجيل الأربعة. القرآن غني عن ذلك، فلم يبق قولاً لقائل من بعده. ولو كان بعد خاتم النبيين نبي – وهذا من إعجاز القرآن في أنباء القرآن – لما عدم الناس نبيًا جديدًا يقطع هذه الفترة المتطاولة – أربعة عشر قرنًا حتى الآن – التي لا سابقة لطولها في تاريخ الأديان بين نبي ونبي، لا شأن لك بالطبع بمن تطفل واقتحم فجاء بنفسه لم يرسله أحد، من أمثال تلك البهائيات والقاديانيات التي لم تأت بجديد إلا محاولة «المصالحة» بين اليهودية والنصرانية والإسلام، فضيعت على نفسها هذا وذاك.
على أن «الإنجيل» لا تعني يونانيًا البشارة أو الخبر السار كما سوف ترى: هذا على شهرته غير صحيح.
المتفق عليه بين علماء المسيحية جميعًا هو أن «الإنجيل» تعريب «إفنجليون» اليونانية euaggelion مركبة من مقطعين: eu + aggelion الأول هو البادئة eu التي تُفيد التقريظ والتحميد، والثاني aggelion قالوا أنه بمعنى «الخبر»، فهو «الخبر السار». وقد حرصت جميع الترجمات على استبقاء euaggelion على أصلها، فقالت الإيطالية Evangelo وقالت الفرنسية Evangile وقالت الألمانية Evangelium، إلخ. وقالت العربية «إنجيل» كما تعلم، وقال السريان «أنجليون» (التي حكاها عنهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/313]
القرطبي في تفسيره فرسمها بالكاف «أنكليون» لأن الجيم السريانية هي الجيم القاهرية، لا يصح عنده رسمها بجيم عربية القرآن). أما الإنجليزية فتصدت لترجمتها على ما شاعت به، فقالت Gospel (التي أصلها good + spell) بمعنى القول الطيب، تريد «البشارة». وأما الترجمة العبرانية للأناجيل اليونانية فقالت «بسورا» تعني البشارة حرفيًا. وهذا يدلك على أن ترجمات الأناجيل جميعًا ومنها العربية والسريانية استبقت اللفظ اليوناني على أصله، فيما عدا الإنجليزية والعبرانية اللتين تصدتا لترجمته، فأخطأتا كلتاهما كما سترى.
هذا الخطأ الشائع الذي وقع فيه المترجمان الإنجليزي والعبراني منشؤه أنهما ترجما «المفهوم» الذي شاع، لا «الأصل» اليوناني في لغته اليونانية. لأن المقطع الثاني في هذه اللفظة (إن حسبتها يونانية) هو «أنجليون» aggelion وهو مأخوذ من «أنجليو» aggelio يعني «الرسالة» اشتقاقًا من «أنجلوس» aggelos يعني الرسول المرسل (ويطلقها اليونان أيضًا على الملك واحد الملائكة ومنها angle الإنجليزية، مثلما تفعل العبرية والآرامية في «ملآخ» التي تستخدم بمعنى الملك واحد الملائكة وبمعنى الرسول واحد الرسل). «أنجليون» إذن معناها الرسالة لا الخبر. أما المقطع الأول eu فهو بادئة يحلى بها ما بعدها («أنجليون») فتفيد التقريظ والتحميد كما في eu – genis يعنس حسن التربية فهو المهذب، وكما في eu – geustos يعني حسن المذاق، فهو السائغ الشهي، أو تفيد الخير كما في eu – logia أي قول الخير، يعني المباركة والتبريك، أو تفيد المبالغة في تحقق الصفة في الموصوف كما في eu- pathis يعني الشديد الحساسية، فهو الهش الرقيق. من هنا تتيقن أن هذا اللفظ اليوناني المركب «إفنجليون eu – aggelion ليس معناه الخبر السار أو الخبر الحلو أو الخبر الطيب، أو الخبر نعم الخبر، وإنما هو محض «الرسالة» حلاها كتبة الأناجيل بهذه البادئة eu التي تفيد التقريظ والتحميد، أو ما شئت من معاني هذه البادئة اليونانية على ما أوردناه آنفًا.
وربما قيل لك أن «الرسالة» من معنى «الخبر» قريب، وما يدريك أن كتبة الأناجيل أرادوا معنى «الخبر» فقالوا في موضعه «رسالة»؟ ولا يصح هذا، أولا وقبل كل شيء لأنك تأخذ القائل بما قاله لا بما أبطنه. وثانيًا لأن الذي لا يفرق بين معنى الخبر ومعنى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/314]
الرسالة، لا يفقه من أمر لغته شيئًا، فلا تأتمنه على شيء مما كتب في هذه الأناجيل، وثالثًا لأنهم لو أرادوا الخبر الطيب أو الخبر السار لقالوا ببساطة kalo neo (مفرد kala nea اليونانية مكافئة good news الإنجليزية)، ولما تمحلوا هذه الصيغة المخصوصة euaggelion التي لم تسمع قط من اليونان قبل المسيح، ورابعًا، وهو الفاصل الحاسم، لأن «أفنجليون euaggelion هذه لو كانت تعني يونانيًا البشارة أية بشارة، أو الخبر السار أي خبر سار، لصلحت في اليونانية بهذا المعنى في غير اسم «إنجيل المسيح»، ولكنها جمدت في الاستعمال علمًا على ما جاء به عيسى، لا تصح في غيره كما يعرف علماء تلك اللغة.
لن تحتاج بالطبع إلى أن أدلك على الفرق بين معنى الرسالة ومعنى الخبر: الرسالة تقتضي «مرسلاً، «رسولاً»، «مرسلاً إليه»، والخبر لا يحتاج إلى أي عنصر من هذه العناصر الثلاثة، فقد ينتقل الخبر بذاته، وقد ينتقل ممن يحرص على إخفائه فيذهب لمن لا يعنيه الخبر ولا يأبه به. والرسالة لا تتضمن خبرًا بالضرورة، بل بالأحرى طلبًا أو تكليفًا، وهي في الغالب الأعم تشترط ردًا، ولكنها في أقل القليل تنتظر «استجابة». وليس الخبر أو النبأ من هذا كله في شيء.
وقد استشعر المترجم العربي حرجًا من إضافة «الإنجيل» إلى الله في مثل قول مرقس: «وبعد ما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز بإنجيل الله» (مرق 1/14)، فقالت ترجمة الفاتيكان العربية «يكرز بإنجيل ملكوت الله»، أضافت من عندها لفظة «ملكوت» فاصلاً بين الإنجيل والله. أما ترجمة الكنيسة الأرثوذوكسية المصرية فقالت «يكرز ببشارة ملكوت الله»، رفعت «إنجيل» ووضعت في موضعها «بشارة» وأضافت هي أيضًا لفظة «ملكوت» فاصلاً بين «البشارة» (التي هي الإنجيل) وبين «الله». أما حين جاءت لفظة «الإنجيل» منفردة في الفقرة التالية مباشرة: «ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس 1/15)، عندئذ تركت لفظة «الإنجيل» على أصلها في الترجمتين. هذا التحرج من إضافة «الإنجيل» إلى الله ناشيء عن فهمهم الإنجيل بمعنى الخبر السار أو البشارة، ولا يصح أن تكون لله بشارة، لأن عيسى هو «المبشر» لا الله، أو هو «الكاروز» أي البشير النذير آراميًا. ولو قد فهموا «إنجيل» بمعنى «الرسالة» على أصلها اليوناني، لاستقام الفهم واستقامت العبارة «يكرز برسالة الله».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/315]
ولولا أنني لا أقول بيونانية لفظة «إنجيل» على ما سيأتي بيانه، لقلت لك أن المعنى في عبارة مرقس «يكرز بإنجيل الله» يعني «يبشر بإنجيل الله»، هو البشارة التي في الأناجيل بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم، فتفهم من عبارة مرقس لا «يبشر بإنجيل الله» وإنما «يبشر برسول الله».
ولكنني لا أحتاج إلى هذا، لأنني أقول بأن المعنى بعبارة «ملكوت الله» التي في مرقس وأمثالها: «قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله» (مرقس 1/15) هو «رسول الله» تسمية بالمصدر على المبالغة والتفخيم، لأن «ملكوت» عبريًا وآراميًا كما يعرف علماء هاتين اللغتين (مع إبدال كافها خاءً في النطق لا في الرسم) تعني «الرسالة» لا «الملك»، فلا يبعد أن تشتبه على كتبة الأناجيل بلفظة «ملكوت» المكسورة اللام بدلاً من فتحها، والتي تعني الملك والمملكة، فترجموها باليونانية حيثما وردت بلفظة Basileia يعني «المملكة» التي حسنتها الترجمات العربية فقالت «ملكوت». فقد أراد المسيح إذن أن الزمان كمل واقترب مجيء الرسول الخاتم. تجد مثل هذا في قولهم في صلواتهم: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك» أي فليأت رسولك، قائل جميع الحق، خاتم النبوات. عليك كلما قرأت في هذه الأناجيل لفظة «الملكوت» منسوبة إلى الله عز وجل أن تفهم منها مباشرة رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم: إنها «أنجلوس» اليونانية في هذا الموضع بالذات Aggelos لا المملكة والملكوت Basileia. عندئذ يستقيم الفهم وتستقيم العبارة. لن يقبل هذا بالطبع علماء المسيحية، وإلا لآمنوا من قبل بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. ولكنني أقول لك أنك كمسلم يقرأ في هذه الأناجيل ويريد أن يقع فيها على حقيقة وحي الله على عيسى، أقرب ما يكون إلى ما نطق به المبشر بخاتم النبيين.
عليك فقط أن تفهم الأب بمعنى الرب، والابن بمعنى البار أو الصفي المختار، وأن الملائكة التي في الأناجيل تجيء أحيانًا بمعنى الرسل، وأن الملكوت حين يبشر بمجيئه واقتراب زمانه إنما هو «رسول الله» محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأن تفهم لفظة euaggelion «الإنجيل» إن حسبتها يونانية لا بمعنى البشارة أو الخبر السار، وإنما بمعنى «الرسالة» أو «الرسول»، لا سيما أن زيادة النون في «أنجليو» التي أصبحت «أنجليون» تنسخ الاسمية على المصدر وتردها إلى الاسمية على الفاعل، فهي أقرب إلى الرسول منها إلى الرسالة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/316]
أما وقد وضح لك أن «أفنجليون» euaggelion لا تعني البشارة، وإنما تعني يونانيًا «الرسالة»، وهو المعنى الذي يقلب مفهوم «البشارة بمغفرة الخطايا» عند علماء المسيحية رأسًا على عقب، فليس أمامنا وأمامهم إلا القول بأن «الإنجيل» ليست في الأناجيل على الترجمة للفظ قاله المسيح بلغته، وإنما هي على أصلها العبري – الآرامي الذي نطق به المسيح، جاء في صورة يونانية.
نعم. هذا هو القول الذي به نقول: ليست «إنجيل» يونانية، وإنما هي عبرانية، كما سترى.
كان عيسى يتقن عبرية التوراة كما كان ينطقها موسى وهرون، صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا من تعليم الله عز وجل إياه: {وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [المائدة: 110]، فكان يجادل بالتوراة في الهيكل علماء التوراة وهو بعد حدث يافع. وهذا من آيات الله فيه، فقد فسدت عبرية التوراة على ألسنة الناس في فلسطين وآلت إلى رطانة آرامية على ما مر بك في تضاعيف هذا الكتاب. وهو أيضًا الذي نعنيه بأن لغة المسيح، ولغة «إنجيله» أيضًا، عبرية – آرامية، يختلط فيها هذا بذاك.
وضح لديك الآن أن لفظ «البشارة» (وهي «بسورا» عبريًا) لا يصح اسمًا لوحي الله على عيسى، ولا يصح أيضًا لفظ «الرسالة» (وهي «ملآخوت» عبريًا وآراميًا)، لأن الرسالة هي منصبة عليه السلام، لا وحي الله عليه، وإلا لتساوى في الاسم التوراة والإنجيل والقرآن، التي هي أعلام على وحي الله على موسى وعيسى ومحمد كل على حدة صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا. ومن ثم لا تصح «أنجليون» aggelion اليونانية، سواء أخذتها كما يقولون بمعنى البشارة أو كما نقول نحن بمعنى الرسالة، ولا معنى وراء هذين للفظة «أنجليون» اليونانية، اسمًا لوحي الله على عيسى. هنا تقطع بأن «أنجليون» اليونانية ليست يونانية، إن كانت هي اسم وحي الله على عيسى كما سماه الله أو سماه المسيح.
لا يبقى لديك إذن إلا أن «أنجليون» هذه لفظة بلغة المسيح، اسمٌ لوحي الله على عيسى، نقلها كتبة الأناجيل على أصلها بالخط اليوناني كما سمعت من المسيح
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/317]
نفسه، أخذوها على العلمية المجردة فلم يحتاجوا إلى تمحيص معناها في لغة المسيح، ولم يفسروها للقارئ مثلما فسروا «طاليثا قومي» (قومي يا صبية)، «إيلي إيلي لما شبقتني» (إلهي إلهي لماذا تركتني) وغيرهما، فبقيت لفظة «إنجيل» - كما بقيت التوراة وبقي القرآن – على أصلها في كل اللغات.
إن صح هذا – وهو الصحيح الذي لا يصح غيره بعد كل الذي قلناه ولأنك لا تتصور أن يتسمى وحي الله على عيسى اسمًا علمًا بغير لغة المسيح – فما هي تلك اللفظة العبرانية التي نطق بها المسيح في تسمية «إنجيله» فآلت عند كتبة الأناجيل اليونانية إلى «أنجليون» اليونانية؟
قد علمت أن اليونان يهمسون الهاء فلا تكاد تبين، وأنهم أيضًا لا يستطيعون تشديد الجيم، فيستبدلون من الجيم الأولى نونًا، يكتبون gg وينطقون ng.
ومر بك أيضًا في تضاعيف هذا الكتاب أن أداة التعريف في العبرية هي «ها»، تحذف ألفها عند الوصول ويشدد ما بعدها بديلاً من حذف الألف، كما تحذف أنت في العربية اللام من أداة التعريف «أل» وتشدد ما بعدها في مثل «ألشم» فتقول «أشمس». مثال ذلك في العبرية «تورا»: لا يقال عند التعريف «هاتورا» بل «هتورا».
هكذا يفعل العبرانيون في مثل لفظة «جليون» حين تزاد فيها أداة التعريف: لا يقال «ها جليون»، وإنما يقال «هجليون».
فكيف تنطق أنت «هجليون» العبرانية هذه إن كنت يونانيًا يهمس الهاء، ولا يشدد الجيم؟ تسقط الهاء، وتضع موضع الجيم المشددة الحرفين نج، ومن ثم تؤول عندك «هجليون» العبرانية أولاً إلى «أجليون» بإسقاط الهاء، ثم إلى «أنجليون» بتغيير الجيم المشددة (ج) إلى (نج)، فتكتب aggelion وتنطق angelion.
هذا هو بالضبط ما فعله كتبة الأناجيل اليونانية حين أرادوا نطق «هجليون» العبرانية التي سمعت من المسيح في تسمية «إنجيله»، فقالوا «أنجليون» aggelion.
أما البادئة (إفــ) eu التي ألصقوها بـ «أنجليون» فأصبحت «إفنجليون» وهي euaggelion التي تقرؤها في الأناجيل اليونانية، فهي على التقريظ والتحميد لوحي الله على عيسى، كما يقول المسلم على التمجيد في القرآن: «القرآن الكريم»، «القرآن العظيم»، ونحو ذلك. دليلك في هذا أن السريان حين أخذوا عن اليونان اسم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/318]
الإنجيل لم يقولوا «إفـ + أنجليون»، وإنما أسقطوا هذه البادئة تمامًا، وقالوها مباشرة على ما حكاه الثعلبي «أنجليون».
أما «جليون» العبرية هذه فهي زنة «فعلون» العبرانية من الجذر العبري «جلا» على معنى التجلية والجلاء والتبيين، كما قالوا من «يثر» يثرون (حمو موسى) وكما يقولون من «علا» العبرانية «عليون» على المبالغة في العلو والتسامي.
وفي العبرية المعاصرة «جليون» أخرى هي هي رسمًا ونطقًا، معناها «الصحيفة»، ومنها «جليون أشوم»، أي صحيفة الاتهام، يعني «بيان» التهم المسندة.
وفي عبرية التوراة أيضًا «جليون» مثلها (وقعت في سفر أشعيا بصورة الجمع، أي «هجليونيم»)،معناها «المرآة»، لأنها الجالية المجلوة.
ومن طريف ما ذكره «إنجيل برنابا» الذي أنكرته الكنيسة، قول المسيح لتلاميذه يصف إنجيليه وكأنه يفسر التسمية: «حينئذ قال التلاميذ حقًا إن الله تكلم على لسانك، لأنه لم يتكلم إنسان قط كما تتكلم. أجاب يسوع: صدقوني إنه لما اختارني الله ليرسلني إلى بيت إسرائيل أعطاني كتابا يشبه مرآةً نقية نزلت إلى قلبي حتى إن كل ما أقول يصدر عن ذلك الكتاب. ومتى انتهى صدور ذلك الكتاب من فمي أصعد عن العالم. أجاب بطرس: يا معلم هل ما تتكلم الآن به مكتوب في ذلك الكتاب؟ أجاب يسوع: إن كل ما أقوله لمعرفة الله ولخدمة الله ولمعرفة الإنسان ولخلاص الجنس البشري إنما هو جميعه صادر من ذلك الكتاب الذي هو إنجيلي» (برنابا 168/1 – 5).
ليس بعد هذا بيان في تفسير معنى «إنجيل» عبريًا على لسان صاحب الإنجيل: إنه «الكتاب – المرآة»، «هجليون» المرآة الجالية المجلوة. ولا يقدح في استشهادنا بإنجيل برنابا أنه إنجيل أنكرته الكنيسة، فلا مدخل هاهنا لإقرار الكنيسة أو إنكارها، لأن خصوم إنجيل برنابا أنفسهم يعترفون لكاتب هذا الإنجيل – أيا كان كاتبه – بأنه فقيه من فقهاء العبرية، ضليع متضلع من عبرية التوراة خاصة، حتى اتهموه بأنه يهوديٌ أسلم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/319]
الإنجيل إذن هي «هجليون» العبرية من الجلاء والتبيين، آلت على قلم كتبة الأناجيل اليونانية إلى «أنجليون».
وعلى معنى الجلاء والتبيين، فسرت لفظة «إنجيل» في القرآن كما سترى.
فسبحان العليم الخبير، القائل بكل اللغات، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
وردت لفظة «الإنجيل» في القرآن اثنتي عشرة مرة، هي: {وأنزل التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3]، {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [آل عمران: 48]، {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} [آل عمران: 65]، {وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور} [المائدة: 46]، {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} [المائدة: 47]، {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 66]، {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل} [المائدة: 68]، {وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [المائدة: 110]، {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157]، {وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} [التوبة: 111]، {ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29]، {وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل} [الحديد: 27].
وأول ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» كتاب منزل، شأنه شأن التوراة والقرآن، ليس مجرد بشارة أو رسالة، لا تصح فيه معاني «أنجليون» اليونانية إن حسبتها يونانية، وقد مر بك نقضنا ليونانية «إنجيل»، وإنما هو مجمل وحي الله على عيسى، فيما بقى لك منه مما حفظته الأناجيل وصدقت فيه، أعني الذي صدقه القرآن والحديث الصحيح، ولا عليك مما ضاع منه، فحسبك القرآن المصدق المهيمن وفيه الكفاية. وليس معنى «الكتب المنزلة» أنها أنزلت «مكتوبة» في قراطيس،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/320]
وإنما المعنى أنها مكتوبة عند ربك في اللوح المحفوظ، يتنزل بها ملائكة الله على عباده الذين اصطفى.
وثاني ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» نزيل على ذات القوم الذين أنزلت فيهم التوراة من قبل، قلما يجيء إلا على الإلصاق بالتوراة قبله أو على التجاور مع هذه التوراة التي أنزل الله على موسى مقصودًا بها بنو إسرائيل، فهو «ملحق» على الأصل، تكملة لوحي الله على بني إسرائيل. وقد قالها المسيح بالنص في هذه الأناجيل: «ما جئت لأهدم الناموس والأنبياء، وإنما جئت لكمل»، فلا يصح أن يقال أن الإنجيل ناسخ للتوراة، وإنما هو وهي واحد، وإنما الإنجيل جلاء وتبيين. على أن المسيح عليه السلام جاء رحمة لليهود، يخفف عنهم بعض الذي شدد الله عليهم، ريثما يجيء الرسول الخاتم، الرحمة المهداة للخلق أجمعين. فهو من هذا الوجه موطئ لخاتم النبيين.
وثالث ما تستظهره من هذه الآيات أن «الإنجيل» الذي فيه هدى ونور، فيه أيضًا شريعة أحكام، لقوله عز وجل: {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} ، وفي هذا لفتة بليغة إلى حظر الاعتداد بغير ما في الأناجيل من وحيه عز وجل، فلا عبرة بقول يقال من بعد رفع المسيح، كالذي قيل بإسقاط الختان واستحلال الخنزير، فلا وحي يتنزل على تلاميذ.
أما معنى لفظة «إنجيل» التي في القرآن، فقد قال المفسرون (راجع تفسير القرطبي للآية 3 من سورة آل عمران) إنها عربية من «النجل» بمعنى الأصل، فالإنجيل على هذا القول أصل لعلوم وأحكام، وقيل هو من نجلت الشيء إذا استخرجته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم، فقد استخرج الله به دارسًا من الحق عافيًا، وقيل من التناجل بمعنى التنازع، لتنازع الناس فيه. وليس هذا كله بشيء لما مر بك من عبرانية «إنجيل». وحكى الثعلبي فأصاب أنه في السريانية دإنكليون» (يريد «أنجليون» بالجيم القاهرية). ولكن المفسرين لم يقعوا على معنى «أنجليون» السريانية هذه، فلم يتصدوا لتفسيرها، لم يقولوا بشارة، ولم يقولوا أيضًا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/321]
رسالة. وهذا يدلك على أن معاصريهم من نصارى السريان، وفيهم من برع في الترجمة إلى العربية من اليونانية عبر السريانية عصر تفاسير القرآن، لم يحققوا أصل لفظة «أنجليون» هذه لا يونانيا ولا سريانيا، وإلا لذكره «الثعلبي» الذي حكى عنه القرطبي قوله بسريانية هذه اللفظة «أنكليون». وهو يدلك أيضًا على أن التفسير الذي نقوله نحن برد لفظة «إنجيل» إلى العبرانية «هجليون» على معنى الجلاء والتبيين، الكتاب – المرآة، الجالية المجلوة، تفسير جديد غير مسبوق، هدانا الله إليه بفضل منه ونعمة، له الفضل وله المن وحده.
والذي ينبغي التنبيه إليه أن القرآن لم يعرب «إنجيل» على الأصل العبراني الذي نقول به: «هجليون»، وإنما عربه ناظرًا إلى صورته اليونانية الشائعة على ألسنة الخلق جميعًا عصر نزول القرآن: «أنجليون»، فقال «الإنجيل»، وبقيت «الإنجيل» أعجمية تحتاج من القرآن إلى تفسير على منهجنا في هذا الكتاب.
فبماذا فسر القرآن «إنجيل»؟ فسره بأدق مرادف وأبنية: إنه «البينات»، أي «الجليات الواضحات»، وليس أقرب من هذا إلى العبرانية «جليون» الجلي المجلو. جاء بها القرآن بلفظ الجمع لإفادة إنزال الإنجيل على المسيح تباعًا، شأن القرآن، لا شأن التوراة المنزلة على موسى دفعة واحدة في الألواح.
لم يفسر الإنجيل في القرآن بالترادف على التجاور، وإنما رفع القرآن لفظة «إنجيل» من الآية ووضع في موضعها «البينات»، وكأن «البينات» من أسمائه، وهذا أبلغ التفسير في القرآن بالمرادف.
قال عز وجل في سورة المائدة: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور}[المائدة: 46].
وقال عز وجل يجانس البينات على إنجيل: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87]، ومثلها بذات نصها في نفس السورة (البقرة: 253). وأما الحاسمة القاطعة في أن «الإنجيل» هو المعني بلفظ «البينات» فقوله عز وجل: {ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون} [الزخرف: 63]، يصف فيها عيسى «البينات» التي جاء بها بأنها الحكمة وبيان الذي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/322]
اختلفوا فيه، لا يصح فيهم البينات في هذه الآية بالذات بمعنى المعجزات التي أجراها الله على يديه بتأييد من روح القدس، وإنما هي وحي الله على عيسى الذي في الإنجيل، إذ لا يصح وصف المعجزات بأنها «الحكمة» أو بأنها «بيان الذي اختلفوا فيه». وقد أوتي عيسى أمرين: البينات، أي الإنجيل، ثم المعجزات التي «أيده فيها الله بروح القدس» ، لا يصح الخلط بين هذا وذاك. وقد فسر القرطبي في تفسيره الآية 87 من سورة البقرة لفظ البينات بأنه الحجج والدلائل، وهذا جيد، فليس وحي الله على رسله إلا هذا، ولكنه لم يعلم معنى «الإنجيل» في أصله الأعجمي «هجليون» الجلي المجلو، ولو علمه لما تردد في تفسير البينات بالإنجيل نفسه، كتاب الله على عيسى.
ولكن، كيف تطلب من أهل التفسير على عهد القرطبي رحمه الله في القرن السابع الهجري أن يعلموا علم ما لم يعلمه أهل الإنجيل أنفسهم حتى كتابة هذا الكتاب الذي نكتب: معنى لفظة «إنجيل» في أصلها العبراني الذي نطق به المسيح عليه السلام؟
هذا الفضل من الله، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، والحمد لله رب العالمين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 298-223]