الفصل الرابع: آدم في الملأ الأعلى
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل الرابع
آدم في الملأ الأعلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/157]
يتناول هذا الفصل تفسير اثنى عشر اسمًا علمًا، هي: جبريل – ميكال – مالك – هاروت – ماروت – بابل – الفردوس – عدن – جهنم – إبليس – آدم – إدريس.
يتقدم الملائكة، والجن أيضًا، في الخلق على آدم، أي كانوا قبل أن يوجد. تستدل على هذا بمثل قوله عز وجل: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين * قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين}[ص: 71 – 85].
تستدل من هذا، ومثله في القرآن كثير، على أن الملائكة رضوان الله عليهم أسبق وجودًا من آدم، لأنهم نبئوا بخلقه من قبل أن يخلق، وأمروا بالسجود له من قبل أن يشرع الله عز وجل في خلقه، وقبل أن يفرغ عز وجل من تسويته، وينفخ فيه من روحه.
وتستدل منه أيضًا على أن «إبليس» كان موجودًا في الملأ الأعلى يوم فرغ الله عز وجل من خلق آدم، بدلالة توجه الأمر إليه بالسجود لآدم. وإبليس من الجن بمقتضى قوله عز وجل: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50]. بل الجن أسبق وجودًا من الإنس بنص قاطع في القرآن: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون * والجان خلقناه من قبل من نار السموم} [الحجر: 25 – 26]، والجان هم الجن بلا خلاف.
وتستدل من هذا أيضًا على أن اسم «جهنم»، علمًا على النار التي يعذب بها العصاة والكفرة كان معلومًا لإبليس لحظة أن «فسق عن أمر ربه»، لأن الله عز
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/158]
وجل توعده بها هو ومن اتبعه، والوعيد لا يكون إلا بموجود معلوم، فدل هذا على أن جهنم أسبق وجودًا من آدم، لأن إبليس علم أمرها قبل أن يتابى على السجود، أي قبل النفخ في آدم.
بل الجنة أيضًا، أعني «الفردوس»، «عدن»، أسبق وجودًا من آدم، لأن الحكم باللعن تضمن طردَ إبليس منها لحظة تأبى على السجود: {قال فاهبط منها * فما يكون لك أن تتكبر فيها * فاخرج إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13]، وقوله عز وجل عقيب هذا مباشرة لآدم: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} [الأعراف: 19]. وهي نفسها الجنة التي أهبط منها آدم وزوجه بإتيان ما نُهيا عنه، استجابة لوسوسة إبليس. وهي نفسها أيضًا الجنة التي وعد بها المتقون يوم توفى كل نفس ما كسبت. وما «عدن» إلا نعت لتلك الجنة على الإضافة: لا «عدن» في كل القرآن إلا ولفظ الجنة مضاف إليها، منعوت بها. أما «الفردوس» التي وردت مرتين فقط في كل القرآن، فهي كما قال صلى الله عليه وسلم «أوسط الجنة». وسيأتي بيان هذا في موضعه.
ومن المفسرين من غلبت عليه إسرائيلياته فظن أن «إبليس» لم يكن من الجن، وإنما كان من الملائكة، بل كان رفيع الرتبة فيهم، فكان قائد جند الملائكة الذين حاربوا الجن حين أفسد الجن في الأرض قبل خلق آدم، فدخله من ذلك خيلاء وعجب أهلكاه حين أمر بالسجود لمن ظن أنه خير منه. ومنهم من قال بل كان إبليس من الجن الذين حاربهم الملائكة فاسروه صغيرًا وربى فيهم، حتى أسجد الله الملائكة لآدم فشمله الأمر بالسجود. وهي تعلات لتبرير وجود إبليس في الملأ الأعلى يوم أمر الملائكة بالسجود لآدم ودخوله من ثم في جملة المأمورين بالسجود لآدم، أو لتبرير الاستثناء في قوله عز وجل: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس ...} [ص: 73 – 74]. وهي في رأينا تعلات افتعلوها لحل إشكالٍ ما كان لهم أن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/159]
يفتعلوه، فقد نص القرآن على أن إبليس كان من الجن: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50]. ولم يخبر القرآن ولا الحديث الصحيح بأن صنف الجن كانوا قبل زلة إبليس ممنوعين من دخول الجنة. أما القول بأن إبليس كان من الملائكة المأمورين بالسجود بدليل استثنائه بالحرف «إلا»، فليس بشيء. لأن «إلا» هاهنا يتعين فهمها بمعنى «لكن» - وهذا من فصيح العربية – أي سجد الملائكة، لكن إبليس لم يسجد. يتعين هذا لأن النص القرآني المحكم، أي الذي لا يحتمل إلا معنى واحد فقط، يحكم النص القرآني الذي يحتمل معنيين فأكثر، وليس لعبارة «كان من الجن» إلا هذا المعنى القاطع.
أما دخول إبليس في جملة المأمورين بالسجود لآدم، رغم اتجاه الأمر بالسجود للملائكة وحدهم وليس إبليس منهم، فلك أن تفسره على أحد قولين:
الأول – الذي نرجحه – أن الأمر للملائكة بالسجود يتجه إلى كل من شهده حتى النبت والشجر، فهو سجود الطاعة والإذعان لله عز وجل، لا لآدم، وإن كان مناسبة لتشريفه، وإشعارًا بما سيكون من شأنه. فلا يجوز لكائن من كان أن يحضر سجدة لله عز وجل في غير الصلاة ولا يسجد. ولا يجوز لكائن من كان أن يشهد الملائكة سجدًا ولا يخر على جبهته. وما يكون لك أن تتخيل الملائكة سجدا خشعا وإبليس منتصب في مكانه لا يخنع. وما كانت هذه لتفوت إبليس لولا أن الحقد أطغى قلبه، وأعمى بصيرته. لم تكن هذه السجدة امتحانًا للملائكة، فقد علم عز وجل أنهم لا يعصون له أمرًا، ولكنها كانت امتحانًا لإبليس، فكشف اللعين عن مكنونة نفسه. فأثم بها في حق الله. لا في حق آدم، وأصر عليها فلم يعتذر منها ولم يتب، بل استدرك على مولاه: {قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون} [الحجر: 33]، أي ليس لك أن تأمرني بهذا، فأنا أرفع منه، يحيل على خالقه عز وجل أن يحكم في ملكه كيفما شاء، ويؤصل حجته بما يفندها، فيقول: {خلقتني من نار وخلقته من طين} [ص: 76] مقرًا بأن الله خالقه، فكيف يعصيه؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/160]
أما على القول الثاني فهو أن إبليس أمر بالسجود لآدم أمرًا مباشرًا لحظة إسجاد الملائكة لآدم، ولم ينص القرآن عليه اكتفاءً بدلالة ما تلاه من قوله عز وجل: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟} [الأعراف: 12].
كيفما كان الأمر، فإبليس ليس بالقطع من الملائكة رضوان الله عليهم، فهم {لا يسبقونه بالقول * وهم بأمره يعملون}[الأنبياء: 27]. ولم يسو القرآن بين الجن والملائكة، بل هو يضع الجن والإنس في زمرة واحدة، هي زمرة المبتلين بالطاعة والمعصية، من كليهم مؤمن وكافر، ومنهم الفاسق والبار، فريق في الجنة وفريق في السعير، مصداق هذا قوله عز وجل على لسان نفر من الجن: {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} [الجن: 14 – 15]، ومنه أيضًا سورة الرحمن التي تخاطب الإنس والجن على سوءا، وفيها: {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} [الرحمن: 56]، أي أبكار لأصحاب الجنة من الإنس لم يطمثهن إنس فيمن طمثوا من نساء الإنس، وأبكار لأصحاب الجنة من الجن لم يطمثهن جان فيمن طمثوا من نساء الجن.
وهذا يفسر لك بأجلى بيان قوله عز وجل: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50]، التي تفهم على التفسير كما تفهم على الخبر، أي أنه لو لم يكن من الجن لما فسق عن أمر ربه، ولكنه كان في زمرة المبتلين بالطاعة والمعصية، فغلبته شقوته، وأهلكته كبرياؤه، ولا يظلم ربك أحدا.
ولكن إبليس – وقد خرب آخرته بيديه – استمهل الله عز وجل ألا يزج به من فوره فيدار العذاب ريثما ينتقم لنفسه من آدم وبنيه إلى قيام الساعة، متبجحا على الله عز وجل بأن نسب إليه غوايته بآدم: {قال فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم * وعن أيمانهم وعن شمائلهم * ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 16 – 17]. لم يطلب التوبة والمغفرة، بل آثر أن يزداد رجسًا إلى رجسه. لم يقل فأنظرني إلى يوم يبعثون
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/161]
أندم وأتب، بل قال فلأضلنهم كما ضللت، ولأغوينهم كما غويت، فنكون في النار سواء: لا أهلك أنا وينجو آدم وبنوه. ولو تاب إبليس لتاب الله عليه، ولكنه الحسد الأسود، والحقد المهلك.
وليست زلة إبليس بالتي تعدل زلة آدم، لأن إبليس زين المعصية لآدم، فكان لإبليس كفل منها، وشرك فيها. أما إبليس فزل بنفسه، أزلته كبرياؤه، فقصد المعصية قصدًا، واستكبر بها استكبارًا.
كانت زلة آدم زلة الغافل الناسي: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى}[طه: 115]. وكانت زلة إبليس على علم، ولا أفدح من سقطة عالم.
على أن الدرس المستفاد من الزلتين واحد: إنه درس الطاعة، أمرك مولاك فأطعه، لا تتمحك بطلب العلة، وكأنك مفوض في الطاعة والمعصية، أو كأن الطاعة والمعصية رهن باستحسانك.
ولا شك أن إبليس كان قبل أن «يبلس» في عداد الجن المؤمن، يعمل في طاعة الله عز وجل، بل سكن الجنة، وجاور الملائكة رضوان الله عليهم، بدليل طرده منها فور عصيانه: {قال فاهبط منها * فما يكون لك أن تتكبر فيها * فاخرج إنك من الصاغرين} [الأعراف: 13] خرج منها الرجيم {مذءوما مدحورا} [الأعراف: 18] لإصراره على المعصية، كما خرج منها أيضًا آدم وزوجه حين استجابا لإغواء إبليس. ولكن آدم وزوجه اعترفا بذنبهما وسألا الله الرحمة والمغفرة: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23]. طلبا التوبة فلقنهما الله عز وجل ما يسألان به التوبة: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه * إنه هو التواب الرحيم} [البقرة: 37]. ولم يسألها إبليس، لأنه شغل بعداوته لآدم عما سواها، وإن كان فيها هلاكه هو ذات نفسه. وهذا هو الضلال المبين.
أخرج الله آدم وزوجه من الجنة تائبين، قد أخذ عليهما العهد أن يخلصا له الدين. وما الدنيا بكل ما عليها إلا تمحيص من الله عز وجل لعباده أيهم باق على
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/162]
هذا العهد، مخلص له الدين. وما كان آدم الذي شهد وعاين بالذي ينخدع مرة أخرى بإبليس، فيعصى الله في الأرض بعد زلته في الجنة، ولكن الاختبار لبنيه.
ولأن نسل آدم لم يشهد ولم يعاين: لم يشهد إسجاد الله الملائكة لآدم، ولم يشهد عصيان إبليس، ولم يشهد زلة آدم، ولم يسمع إبليس يستعلن له بالعداوة إلى يوم الدين، فما كان من العدل أن يُتركوا في جهالتهم، يصول فيهم إبليس ويجول. بل شاء الله عز وجل – عدلاً منه ورحمة – أن يودع فيهم دين الحق فطرة، فأشهدهم قبل الاختبار على أنفسهم: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، ووصى بها آدم حين مهبطه من الجنة، وقد أهبط معه إبليس عدوًا: {قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 123 – 124]، فكان آدم عليه السلام أول الرسل والأنبياء، يقص ما كان: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27]، وتتابعت الرسل تترى، كي لا تكون للناس على الله حجة من بعد الرسل، ومن ضل من بعد فإنما يضل عليها، وما ربك بظلام للعبيد.
ويرى المفسرون بحق أن إبليس لم يسم «إبليس» إلا بعد أن أبلس، لأن هذا الاسم – إن اشتققته من العربية – فيه مذمة، والمذمة تكون بعد اجتراح الذنب لا قبله. وهي تكون مساوية للذنب، دالة عليه، أو صفة لصاحبه بما آل إليه. ويروي المفسرون أن إبليس قبل أن يبلس كان اسمه «عزازيل» ثم أبلس بعد، ولم يتعرض المفسرون لمعنى «عزازيل» هذه، لأنهم لا يعرفون العبرية التي يسهل اشتقاق هذا الاسم منها، فتفهم أن الرواية من أقاصيص أهل الكتاب، تصح أو لا تصح، فالله عز وجل أعلم بغيبه. ونحن في هذا الكتاب لا يعنينا في المقام الأول اسم إبليس قبل أن يُبْلِس، لأننا لا نتعرض إلا للأعلام المنصوص عليها في القرآن، لا المروية في غيره.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/163]
ولكن الطريف أن «عزازيل» هذه اسم عبراني مركب (عزاز + إيل) يفسره علماء العبرية بمعنى «الذي أعزه الله»، فهو «العزيز بالله». وهو علم وقعت التسمية به في العبرية، ومثله عزيئيل» (عُزّي + إيل)، أي: «عزة الله» وكأن اللعين حين أقسم بعزة الله: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين} [ص: 82]، كان يورى باسمه هو، يقسم بنفسه، لا بعزة الله عز وجل. والله بغيبه أعلم.
والذي يجب التنصيص عليه في هذا السياق، هو النعي على أهل التفسير والسير، وأيضًا على أهل الفن والفكر والأدب، الذين تناقلوا ما دسه إبليس على أوليائه من أساطير وتهاويل لا يخلو منها «أدب الخرافة» في كل الشعوب، تتحدث عن «أمجاد» إبليس قبل أن يُبلس، تريد تفخيمه وتعظيمه وغرس المهابة منه في صدور الناس، حتى خصوه بأضوأ كوكب في السماء الدنيا، كوكب الصبح! أي كوكب «الهرة»، وجعله بعضهم ندًا لله، وجعله بعضهم شهيد البطولة في محنة السجود لآدم، وأول من قال «لا». ليس التنكر للخالق عز وجل بطولة، لا صحيحة ولا زائفة، وإنما هو وضاعة. هذا كله فسوق وصغار: لا يجوز لمؤمن تجميل ما قبحه الله، ولا يجوز لمؤمن إعلاء ما وضعه الله أسفل سافلين. لا يجز لمؤمن تمجيد ما رذله الله، ولا يجوز لمؤمن تعظيم من لعنه الله، ناهيك بموالاة عدو الله. بل لا يجز لعاقل موالاة من أقسم ليجرنه وراءه إلى قاع جهنم.
أيما كان الأمر، وأيما كان حال إبليس قبل أن يبلس، فقد ضرب لك الله بإبليس المثل: لا يتعظمن أحد على الله، ولا يستكبرن أحد على طاعة الله، ولا يستنكفن أحد من الخضوع لله. قد هلك بها إبليس أول هالك، فحذار أن تزل به، فتشركه المصير الذي اختار لنفسه.
لا يترحمن أحد على إبليس، وقد أقسم لا يرحمك. ولا يتباكين أحد على إبليس، فلم تدمع لإبليس عين: كان إبليس عدو نفسه، قبل أن يكون عدوك.
أما الملائكة رضوان الله عليهم، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، فقد سمى القرآن منهم خمسة: جبريل – ميكال – مالك – هاروت – ماروت.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/164]
والملائكة من غيب الله عز وجل. وغيب الله عز وجل حضور غير مشهور، إلا من ارتضى من نبي أو رسول. إنهم جند الله عز وجل، العاملون بأمره، المتنزلون برسالاته، الساعون في قضائه. منهم حملة عرش ذي الجلال، ومنهم الحفظة الكتبة، ومنهم السفرة الكرام البررة. أثنى الله عليهم في القرآن الثناء الحسن، ونعتهم بكل جميل: امتدحهم بالإخبات والطاعة: {لا يسقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27] وضرب بهم المثل في القدر والقدرة: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [الأنعام: 50] وأنعم عليهم بالقرب: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172]، وخصهم بالجوار منه عز وجل: {إن الذين عند ربك} [الأعراف: 206]، وشرفهم بالمعية: {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22] وبسط لهم في الخلق: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء} [فاطر: 1].
وهم رضي الله عنهم رُتَبٌ ومَراتب، كما تجد في قوله عز وجل: {والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17]، أعلاهم الروح الأمين، وأدناهم إليك رفيق عمرك، الحافظ الكاتب: {إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4]. وهما اثنان: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ منق ول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 16 – 18]، لا يتركانك حتى يسلماك إلى ما قدمت لنفسك: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} [ق: 21]. كلهم من أمر الله، وبأمر الله، وفي أمر الله، محمود بالطاعة فيما أمر، سواء ملائكة الرحمة وملائكة العذاب: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]، يمتدحهم بالغلظة والشدة في طاعته عز وجل، صدوعا بأمره، وتحقيقًا لوعيده. ومنهم أيضًا رضي الله عنهم الذين يصلون عليك: {هو الذي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/165]
يصلي عليكم وملائكته} [الأحزاب: 43]، ويستغفرون لكل من آمن: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم} [غافر: 7-9]. والملائكة الذين يستغفرون للذين آمنوا في هذه الدنيا، يتلقونهم في الجنة بالسلام، وقد استجاب الله دعاء الملائكة فيهم: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23 – 24]. والسلام الذي هو تحية الملائكة رضوان الله عليهم لأهل الجنة، نشيد في الجنة دائم: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما}[الواقعة: 25-26].
ولأن الملائكة رضوان الله عليهم أقرب الخلق من الله عز وجل، فهم أعبد الخلق لله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19-20]، لا يملون ولا يسأمون: {فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} [فصلت: 38]. ولأنهم رضي الله عنهم أعرف الخلق بالله عز وجل، فهم أخشاهم له: {ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} [الرعد: 13]، {وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28]. وهم على مكانتهم رضي الله عنهم ورضوا عنه لا يتجاوزون أقدارهم، فلا يسبقونه عز وجل بالقول، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26].
عصم الله الملائكة من أن يفتتنوا بأنفسهم، ولكن من الناس من افتتنوا بهم فعبدوهم، بل اتخذ بعضهم من الملائكة أصنامًا إناثًا آلهة، من مثل العزى واللات
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/166]
ومناة، وقد رد الملائكة على أولئك الذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40-41].
هذا قول الملائكة رضوان الله عليهم فيمن عبدوهم من أهل الجاهلية الأولى، وهو قولهم فيمن يعبدون إلى اليوم «روح القدس» جبريل عليه السلام: {كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} [مريم: 82].
ومن الملائكة أيضًا من جعله الله فتنة وابتلاء. ذكر الله من هؤلاء في القرآن اثنين: هاروت وماروت.
وشبيه بفتنة هاروت وماروت في بابل، فتنة السامري الذي صنع لبني إسرائيل في التيه «عجلاً جسدًا له خوار». صنعه من ذهب القوم. أوقد عليه ثم ألقى فيه «قبضة من اثر الرسول» أي من جبريل الروح الأمين، فصارت به صورة من حياة، هي ذلك الخوار: {قال فما خطبك يا سامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي} [طه: 95- 96]. ضل السامري بما انكشف له، فأضل بني إسرائيل معه على علم: {فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى} [طه: 88]، أي ذهب موسى لموعدة ربه في جانب الطور الأيمن، ناسيًا أن «العجل» الذي خلفه وراءه هو إلهه!.
وشبيه بهذا أيضًا محنة داود عليه السلام، حين افتتن بامرأة صاحب جنده، فضمها إلى نعاجه، ولديه من قبل تسع وتسعون، فتسور عليه الملائكة المحراب، يضربون له المثل ويذكرونه: {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/167]
ليبغي بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} [ص: 21 – 25]. فهم داود عليه السلام أنه مدعو إلى الحكم في قضيته هو نفسه. أفتأخذه العزة بالإثم؟ كلا، بل تاب وأناب: أدان نفسه قبل أن تدان. وكانت فتنة الملائكة لداود تذكرة: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} [ص: 26].
والذي يجب التنبيه إليه أن الفتنة من الله عز وجل هي على أصل معناها في اللغة: تمحيص واختبار. ليست هي الغواية والإضلال، بل هذان هما عاقبة الفتنة حين يسوء المآل. إنها امتحان فرض عليك، وموقف زج بك فيه: تخرج منه إما إلى الهدى وإما إلى الضلال. وطوق النجاة ذكر الله عز وجل. إن ذكرته ذكرك فنجاك. وإن عميت فقد اخترت لنفسك.
وليست الفتنة بالملائكة كغواية إبليس. فتنة الملائكة تمكين وتعليم. ثم تنبيه وتحذير، كما تجد في قوله عز وجل على لسان هاروت وماروت: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة: 102]. أما غواية إبليس فإملاء واستدراج إلى الزيغ والضلال. إنه يعمي عليك أمره. لا يقول لك أنا إبليس، جئت أضلك وأغويك! ولكنه يأتيك في ثوب الوسواس الخناس، يخامر عقلك، ويحدثك بلسانك، فتظنه حديث النفس. وربما ضبطته وهو يفسد قراءتك ويقطع عليك صلاتك. وهو حين يحدثك يجمل لك السيئة ويحسن القبيح، وربما أطراك فأرداك. وهو يقعد بك عن النهوض في طاعات الله عز وجل، ويهيجك إلى الفحشاء والمنكر والبغي. وهو لا يكتفي منك بمعصية الله خالقك، وإنما لا يزال بك حتى يوئسك من رحمته، فتمعن ولا تبالي، وتصر على ما أنت فيه، قد أخذتك العزة بالإثم، فيعي البصر والبصيرة، ولا يفلتك حتى تنطق بكلمة الكفر، فيهوي بك معه في قاع جهنم، وكأن الله لم يحذرك وينذرك.
وقد تتساءل: أو لم يكف بني آدم الغواية بإبليس، حتى يفتنهم الله بالملائكة؟ لا عليك. هذا من تلبيس إبليس: الله عز وجل لا يفتنك بالملائكة فحسب، وإنما هو
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/168]
يفتنك بهذه الدنيا جميعًا خيرها وشرها: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35]، لأن هذه الدنيا بكل ما عليها هي دارُ الفتنة، أي دارُ التمحيص والابتلاء، على أصل معنى الفتنة في اللغة كما مر بك. وإبليس يريد منك أن تنسى هذا، فتضيع فرصتك، وتسقط في الامتحان. يريد منك أن تنسى الغاية الوحيدة في وجودك في هذه الدنيا، فتجعل الدنيا غايتك، وتظن أنه ليس بعد هذا الحياة حياة: {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} [الأنعام: 29]. والله عز وجل لا يفتنك ليرديك، وإنما هو يفتنك ليكشف لك عن معدنك، ويشهدك على نفسك، وهو بها أعلم: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة} [الأنفال: 42]. فكن منه عز وجل على ذكر لا يغيب، فلا تضل ولا تنسى. وذكر الله عز وجل أكبر من العبادات كلها، وهو أكبر منها لأنه الغاية من ورائها جميعًا: الصلاة تُريك نفسك في صورة العبد خمسَ مرات في اليوم والليلة، فتذكرك بمن أنت. والزكاة تدلك على أنك عامل في أرض الله بأمر الله، تؤدي خراجها في سبيله عز وجل وفق ما أمرك. والصوم يذكرك بأنك طاعم من رزق الله، إن شاء أطعمك، وإن شاء حرمك، والحج لمن استطاع إليه سبيلا يذكرك بالمنتهى، في يوم مجموع له الناس، وقد تقطعت بهم الأسباب إلا من وجهه عز وجل، كلهم ضارع إليه، يستغفره ويسأله ويستعينه. إن أحسنت الذكر أحسنت العمل. لا سبيل إلى هذا إلا بذاك: العبادات غايتها الذكر، والذكر غايته العمل، أي أن تعمل في هذه الدنيا بما ذكرت به في كتاب ربك وسنة نبيك، منهاجًا وتطبيقًا. هذه هي غايتك العظمى لا غاية بعدها، لأنها وحدها مدخلك إلى الجنة التي أهبط منها أبواك من قبل بإغواء إبليس وتريد رغم أنفه أن تعود إليها.
أكرم العباد على الله أعبدهم. وأعبد العبد أعمله بما أمر: قد أصاب من قال «العمل عبادة» إن أراد هذا المعنى وحده، لا من أضله إبليس فقطع ما بين العبادة والعمل.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/169]
ولا يكتمل الحديث عن الملائكة رضوان الله عليهم إلا بالحديث عن «الروح» وقد ورد لفظ «الروح» بفتح الراء في القرآن ثلاث مرات، وورد لفظ «الروح» بضم الراء في القرآن عشرين مرة. وليست هذه كتلك، وإن اشتق اللفظان كلاهما من مادة لغوي واحدة، تدور معانيها على الحركة والخفة والانتشار.
أما «الروح» مفتوح الراء، فمن الراحة والترويح، أي الفرج وذهاب الهم والغم، وقد وردت في القرآن مرتين مضافة إلى الله عز وجل في قول يعقوب لبنيه: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87]، وفسرت في الموضعين بمعنى «فرج الله»، وقيل بل «رحمة الله»، وليس للرحمة هنا مكان من أصل معنى اللفظ في اللغة، ولكنه تفسير بمجمل المعنى المستفاد من السياق العام للآية، وقد درج على هذا كثير من المفسرين، فأقحموا على معاني المادة اللغوية في المعجم العربي «مجازات» لا داعي لها: لا شك أن فرج الله رحمة منه عز وجل، ولكنك هنا تفسر الشيء لا بماهيته وإنما بالدافع إليه. وهذا لا يصح في اللغة، إلا أن يقال لك إنه تأويل ارتآه بعض المفسرين لا أصل له من ذات مادة اللفظ، أرادوا به تقريب المعنى للقارئ، وغيره كثير. أما المرة الثالثة التي وردت فيها كلمة «الروح» مفتوحة الراء، فهي في سورة الواقعة: {فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم} [الواقعة: 88 – 89]، وهي على أصلها بمعنى الراحة والاسترواح، وإن تأولها بعض المفسرين على معنى النعمة والنعيم.
وليست كذلك «الروح» مضمومة الراء، وهي التي تعنينا هنا. «الروح» بضم الراء معناها النفس، أو ما تكون به حياة النفس. والنفس من النفس. هكذا هي في كل اللغات (قارن Psyche اليونانية وأيضًا Spiritus و Anima اللاتينيتين وما اشتق منهما في اللغات الأوروبية الحديثة)، لأن الرُّوح من «الرِيح» أي الهواء إذا تحرك.
أما لماذا جاءت «النفس» من النفس، واشتقت «الروح» من الريح، فلأن الناس منذ أن وجدوا أدركوا أن النفس والتنفس هما علامة بدء الحياة في الحي يوم ولد، وأن انقطاعهما علامة موته حين يموت. فاستنبطوا من هذا أن الحياة هي تلك النسمة التي بها قوام الجسد، إن دخلته حيًا، وإن فارقته عاد كأن لم يكن. ولكنها
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/170]
خفيت ودقت كما تخفي النسمة وتدق، يحس أثرها، ولا يرى شخصها. وهي تدخل أنف المولود رغم أنفه لحظة يولد، وتخرج منه رغم أنفه حين يموت، لا يملك استبقاءها، ولا يملك استرجاعها. فمن أين جاءت، وإلى أين تذهب؟ أما الجسد الذي خلفته وراءها فقد عرفوه: رأوه يفسد بذهابها، ثم ينحل ترابًا وكأنه من التراب جبل. أما هي، فإلى أين صعدت؟ أمن العلاء جاءت وإلى العلاء تؤوب؟ فمم هي؟ بل ما هي؟ قد كانت في الجسم هي صاحبة الأمر والفعل، وفارقته فلا حس ثم ولا كيان ولا شأن. أتكون هي عين وجوده؟ أتكون هي هو؟ بل هي ذاته، اتخذته رداء تلبست به زمنا، ثم انسلت منه.
وللروح في القرآن معنى آخر. فأنت تعلم مثلاً أن الملك المتنزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97]، كما تقرأ في مصحفك قوله تبارك وتعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102]، فتستدل من هذا على أن «روح القدس» هو جبريل بلا خلاف. وتقرأ في مصحفك أيضًا قوله عز وجل: {نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 193] فتعلم أن جبريل هو «الروح الأمين»، أي أنه روح أو هو الروح. وهو أيضًا رسول الله إلى مريم: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [مريم: 17ي، النافخ في التي تبتلت لله عز وجل: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} [التحريم: 12]. وهو أيضًا روح القدس الذي أيد الله به عيسى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 253]. كرم الله جبريل عليه السلام بالإضافة إليه جل وعلا، كما رأيت في قوله عز وجل {فأرسلنا إليها روحنا}، وكرمه أيضًا بإفراده بالذكر مع الملائكة: {تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4]، {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} [النبأ: 38]، {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4]. ولا يصح أن تقول في جبريل عليه السلام – بَلْهَ في كائن من كان – إنه «روح الله»، لأن في هذا شبهة الإلحاق بالذات، وذات الله عز وجل أعظم وأجل من أن يخوض فيها بالقول ذو علم، وإنما تقولها كما قال القرآن مضافة إلى ضمير منه عز وجل، على التبعية والملك، أو تقول كما قال القرآن «روح من أمره» أو «روح منه».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/171]
ليست الروح إذن – في كل القرآن – هي تلك الذات المتلبسة بالجسد، فهو لا يستعمل في معنى تلك الذات إلا لفظ «النفس»، كما تجد في قوله عز وجل: {ونفس وما سواها} [الشمس: 7]، {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} [الانفطار: 19]، {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42]، {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم} [الأنعام: 93]، {وإذا النفوس زوجت}[التكوير: 7]، {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخل في عبادي وادخلي جنتي} [الفجر: 27 – 30]، فتقطع بأن النفس غير الجسد بدليل خطابها على حدة بعد خروجها منه، وتوقن أنها باقية بعد فنائه، لأنها تؤمر بالدخول فيه يوم النشور.
وليست الروح أيضًا هي القرآن، كما فسر بعض المفسرين قوله عز وجل: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52] لأن الروح هاهنا هو جبريل، وأوحينا إليك يعني أرسلنا إليك، تنسيقا على قوله عز وجل في الآية السابقة مباشرة: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه من يشاء إنه علي حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ...}، والرسول هنا هو الملك بلا خلاف. ولكن هؤلاء المفسرين يتوسعون كما مر بك، فيأخذ عنهم أصحاب المعاجم، ويقحمون على المعجم العربي أن «الروح» مضموم الراء من معانيه «القرآن»، كما أقحموا عليه من قبل أن «الروح» مفتوح الراء من بعض معانيه «الرحمة».
أما قوله عز وجل: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171] فتفهم منه أن عيسى عليه السلام كلمة من الله عز وجل، أي كان بكلمة منه: قال له كُنْ فكان، شأن الخلق أجمع. وأنه عليه السلام روح منه أي نفخة منه عز وجل، كنفخته في آدم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/172]
أبى البشر، لا أب لآدم ولا أم، والنفخة في اللغة والنفثة والنفس أيضًا واحد، ومن هنا جاءت تسمية النفس روحا، لأنها كانت به.
أفكان النافخ جبريل عليه السلام بأمر منه عز وجل؟ قد تستظهر هذا من قوله تبارك وتعالى على لسان جبريل: {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} [مريم: 19]، واسند فعل «النفخ» إلى الله عز وجل: «فنفخنا فيه من روحنا»، لأنه تبارك وتعالى هو الآمر به، لا حول ولا فعل إلا بأمره، أي هي نفخة من الملك بأمر من مالك الملك.
وتستطيع أن تنسق على هذا قوله عز وجل: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 72 – 72]، فتفهم أن جبريل روح من الله عز وجل، وأن النفخة في آدم كانت به. كما كانت في عيسى عليه السلام، شأن الخلق أجمع. وربما قلت إن جبريل عليه السلام هو الملك الموكل بنفث الحياة في الأحياء بأمر الله عز وجل، كما قيل إن ميكال عليه السلام هو الملك الموكل بقبضها. هذا يفسر لك فتنة النصارى بجبريل عليه السلام، الذي أيد الله به عيسى حين صنع من الطين كهيئة الطير ونفخ فيه فصار طيرًا بإذن الله، كما أيده في إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الميت. ويروى بعض المفسرين أن جبريل عليه السلام ما وطئ ترابا إلا صارت فيه نسمة من حياة. وهذا يفسر لك فتنة «السامري» بجبريل: بصر بما كان من أثره، فقبض قبضة منه، ونبذها في مصهر الذهب الذي صنع منه العجل، صنمًا ليس له من الحياة نصيب إلا هذا الخوار الذي كان فيه من أثر جبريل.
وإذا كان القرآن قد خص جبريل عليه السلام تنصيصًا باسم هو «روح القدس»، «الروح الأمين»، وبعبارة «روحنا» في قوله عز ولج «فأرسلنا إليها روحنا»، والمعنى بها جبريل بلا خلاف فلك أن تقول إن «الروح» مضمومة الراء في القرآن معناها الملك، أو ملك رفيع الرتبة في ملائكة الله عز وجل، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، لا تستطيع أن تخص بها جبريل وحده، فالله بغيبه أعلم. وربما جاز لك أن تقول إن «الروح» مضمومة الراء في القرآن هي تسمية على المصدر من «راح» بمعنى «ذهب»، أي الذاهب في أمر الله، فهي بمعنى الرسول، تماما كما تعني لفظة «المَلَك».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/173]
ولكنك لا تخوض في غيب الله، فأنت مكفوف عن استقصاء ماهية «الروح» بمقتضى قوله عز وجل: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85]. وسواء أكانت الروح المعنية هنا هي جبريل كما قال بعض المفسرين، أو هي النفس المتلبسة بالجسد كما قال أكثرهم، فأنت منهي عن الخوض في هذا أو ذاك، محجوب عنك في هذه الدنيا حقيقة هذا أو ذاك. ومن إعجاز الله في خلقه – إن كانت «النفس» هي المعنية في الآية – أن السائل يتساءل عن نفسه، لا يدري ما هي، وهي ذاته، فما بالك بالخائضين في ذات الله عز وجل؟
نقول لهذا السائل وأمثاله من الخائضين في «عالم الروح»: لن تعلم النفس حقيقة ما هي، حتى تغادر هذا الجسد، في يوم جد قريب، طال الأجل أم قصر. فسح الله لك في عمرك بالخير، فلا تتعجل.
وقد جعل الله الإيمان بالملائكة رضوان الله عليهم فرعًا من الإيمان به عز وجل: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177]، وجعلهم شهوده: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون} [النساء: 166]، وجعل الكُفْرَ بهم فرعًا من الكفر به عز وجل: {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا}[النساء: 136]، وجعل عداوتهم من عداوته سبحانه: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} [البقرة: 98].
حسبك هذا في الملائكة رضوان الله عليهم، فليس بعده مزيد يقال.
كان هذا أيها القارئ العزيز تمهيدًا لا بد منه للتعرف على أعلام هذا الفصل، التي نتناول إن شاء الله تسير معناها من القرآن بالقرآن، وهي: جبريل – ميكال – مالك – هاروت – ماروت – الفردوس – عدن – جهنم – إبليس – آدم، نضيف إليها من علم الذات نبي الله «إدريس» على افتراض تقدمه في الترتيب التاريخي على نبي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/174]
الله نوح عليه السلام. كما نضيف من علم الموضع «بابل»، التي وقعت بها الفتنة بهاروت وماروت، ومجموع هذا وذاك اثنا عشر اسما علمًا.
ولأن الله عز وجل قدم جبريل، فنحن نبدأ به، متوكلين على الله عز وجل، نستلهمه الصواب، ونعوذ به من الجهل والجهالة، ونسأله الصفح والمغفرة إن نسينا أو أخطأنا).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/157-175]