دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #37  
قديم 5 جمادى الأولى 1443هـ/9-12-2021م, 03:55 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,756
افتراضي

(59) الصابئون:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (59) الصابئون
وردت لفظة «الصابئين» في القرآن ثلاث مرات، هي بترتيب ورودها في المصحف:
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم ع ند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62].
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [المائدة: 69].
{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17].
والقرآن في الآيتين الوليين، التي في «البقرة» والتي في «المائدة» يخاطب أربع فرق: المسلمين – اليهود – النصارى – الصابئين، فقد علمت أن الذين هادوا هم اليهود، أما «الذين آمنوا» فهي اصطلاح قرآني يراد به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم الذين آمنوا به وبالنور الذي أنزل معه، أي هذا القرآن، فهم أهل القرآن، فهي على الصفة، لا على المدح، في هذا السياق بالذات وفي أمثاله في القرآن، يعني أنهم المسلمون، لا أكثر ولا أقل، برهم وفاجرهم. لذلك اشترط القرآن في الآيتين على أهل الفرق الأربع جميعًا – ومنهم المسلمون – لنيل الأجر والدخول في رضوان الله – شرطين: الإيمان بالله واليوم الآخر، ثم عمل الصالحات، شرطان متلازمان، لا يغني أحدهما عن الآخر، ولا يقبل شطر دون شطر، فليس الإيمان بالذي يكتن في السرائر، وإنما هو الذي تصدقه الجوارح من قول وعمل. لا إيمان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/331]
بغير عمل على مقتضى هذا الإيمان، ولا عمل يصح إن لم ترد به وجه الله عز وجل واليوم الآخر. لم يستثن القرآن من هذين الشرطين أنبياء الله ورسله، وهم المؤمنون سريرة ضربة لازب، فخاطبهم بقوله عز جل: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51].
وليس معنى هذا أن القرآن يُقِرُّ أهل الكتاب والصائبين على ملتهم وقت نزوله أو أنه يسلم لمعاصريه من أهل الكتاب والصابئين وتابعي هؤلاء وهؤلاء إلى يوم القيامة بصواب ما هم عليه، أو أنه يترك لهم الخيرة من أمرهم إن شاءوا دخلوا في الإسلام وإن شاءوا بقوا على ملتهم، والكل ناجٍ، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا!
هذه سفسطات وأغاليط لا تنفع المحتج بها من غير أهل القرآن يوم يقوم الحساب لأنه يومئذ يحتج بآية أو آيتين من القرآن الذي أنكره هو من قبل وجحده، ومات وبعث على إنكاره وجحوده، شأنه شأن من يتقدم إلى مصرف بحوالة ينكر هو توقيع صاحبها، فلا يصرف له شيء، إن لم يضبط بتهمة التدليس. الذي يصدق بخبر القرآن في آية أو آيتين فقد لزمه القرآن كله، والذي يكفر بحرف واحد من القرآن فقد كفر به كله، فلا أحد يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، كالذي نعاه القرآن على بني إسرائيل: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: 85]. وإذا كان هذا كذلك، وهو كذلك بالفعل، أفليس في القرآن: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85]؟ وأليس يأمر الله في القرآن الخلق أجمع باتباع خاتم النبيين: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158]؟ فما جزاء من يفرق بين الإيمان بالله وبين تصديق رسوله؟ استمع إلى قوله عز وجل: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/332]
ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} [النساء: 150 – 151]. قد قالها خاتم النبيين: «وأيم الله لو سمع بي موسى بن عمران لما وسعه إلا اتباعي» وقال أيضًا، وهي الحاسمة القاطعة: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار».
وقد علمت أن القرآن اشترط على هذه الفرق الأربع جميعًا لاستحقاق ثواب الله ورضوانه، الإيمان بالله واليوم الآخر وإتيان الصالحات. ومر بك أنه لا يصح إيمان بغير عمل، ولا يصح عمل بغير إيمان. ومن ثم تقطع بأن أهل هذه الملل الثلاث، اليهود والنصارى والصابئين – من سمع منهم بخبر القرآن ولم يأبه به – قد افتقدوا بعد القرآن شرطي الإيمان والعمل الصالح، فلا إيمان بالله عز جل لمكذب برسول الله، ولا يصح عمل بغير هذا الإيمان.
فمن المخاطب إذن من أهل هذه الفرق الثلاث بهاتين الآيتين التي في سورة البقرة والتي في سورة المائدة؟ إنهم اليهود والنصارى والصابئون الذين لم يصل إلى أسماعهم نبأ البلاغ الخاتم: الذين تقدموه ولم يهل بعد زمانه، أو الذين أعقبوه فحيل بينهم وبينه أو تقطعت بهم الأسباب، فلا إلزام بغير تكليف، ولا تكليف بغير بلاغ.
على أن هذا أيضًا لا يُعفى أهل هذه الملل الثلاث، الذين حيل بين أسماعهم وبين نبأ القرآن، من واجب تصحيح إيمانهم بالله واليوم الآخر بتنقيته مما لم تجئهم به رسلهم، لا يقال ثالث ثلاثة وعندهم في الإنجيل أن الله واحد وليس آخر سواه، ولا يقال نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة وعندهم في التوراة في الوعيد ما ترتعد له الفرائص وتشيب الرؤوس.
أما الآية الثالثة – التي في سورة الحج – فهي تختلف عن الأوليين بأنها تضيف إلى الفرق الأربع، المسلمين واليهود والنصارى والصابئين، فرقتين أخريين، هما المجوس والذين أشركوا.
وقد ترتب مباشرة على دخول المجوس والذين أشركوا في هذه الآية، ارتفاع الوعد بثواب الله ورضوانه لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، ليحل محله
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/333]
الوعيد بيوم الفصل: {إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17]، يوم يجيء كل أناس بإمامهم، أي يشهد عليم رسولهم وكتابهم فيحاجون بوحي الله عليهم، الذي حفظوه، والذي أضاعوا منه أو أنسوه. ولم يفت القرآن المعجز – وقد دخل المجوسي والمشرك – أن يدحض دعوى المحتج بالمشعوذ والعراف والكاهن. فقال عز من قائل: {إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 17].
أما لماذا ارتفع بدخول المجوسي والمشرك في الآية الوعد بثواب الله ورضوانه لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا، فلأنه لا رجاء عند الله عز وجل لمشرك، والمجوسي أيضًا كذلك لأنه «ثَنَوِيٌّ» كما سوف ترى في موضعه، يتقرب بالعبادة لإلهين، إله الخير وإله الشر، الضار والنافع، يضرب هذا بذاك.
وربما قيل لك أن النصراني أيضًا مشرك، لأنه يعدد آلهته، فيقول ثلاثة. وهذا صحيح في ظاهره، غير صحيح في جوهره، لأن المشرك يعبد آلهة متفرقة، متضادة الإرادة، متعاكسة الفعل، يغيظ هذا بذاك، ويستعين على هذا بذاك، ويسترضي هذا بقربان لذاك. أما «الثالوث» عند النصراني فهو وحيد الإرادة، وحيد الفعل، المسيح عنده يصنع مشيئة «أبيه» الذي في السموات، والروح القدس جبريل لا يتكلم من عنده وإنما يتكلم بما يسمعُ من الآب، والصلاة عند النصراني صلاة للآب، لا لعيسى ولا لجبريل: «أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء فكذلك على الأرض»، والتقرب بالابن تقرب إلى الآب، و«موهبة» الروح القدس نعمةٌ من الآب، وخلق السموات والأرض وما بينهما خلق الآب، ولاملكوت ملكوت الآب، فهل بقى لعيسى وجبريل شيء أم هما ذات الآب؟ بل قل هل بقى من عيسى وجبريل شيء وقد فنيا أخيرًا في ذات الآب الذي انبثقا منه ليعودا إليه؟ هذا اللاهوت أخطأ الطريق إلى تبجيل عيسى وتعظيم جبريل، فوقع في المحال على الله عز وجل، والمحال على عيسى وجبريل، وما ذاك إلا لأنه تصدى لما لا يحسنه، فليس هو بالواقف عند وحي الله على عيسى شأن المؤمن المذعن، وليس هو أيضًا بالمتفلسف الجيد الذي يحكم مقولته فلا يقع في المحالات. هذا اللاهوت خائض في ذات الله عز وجل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، بل الأدلة من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/334]
وحي الله عز وجل كلها ضده، ولكن ليس ثم إن تمعنت، جحود لذات الله أو إنكار، فالله الذي يعبده النصراني هو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباب والنبيين من قبل ومن بعد، ولكن اللاهوت وقع في الإثم الغليظ فأضاف إليه عيسى وجبريل، ظانًا أنه يكرم بها عيسى وجبريل، فأضاع عيسى وجبريل. هذه الأغلوطة التي وقع فيها هذا اللاهوت اعتاصت عليه هو نفسه قبل أن تعتاص على من زينها لهم، فما برح يرقع قولاً بقول: إنه يريد التوحيد، لا يملك القول بغيره، فالله واحد وليس آخر سواه، ولو قال غير هذا لذبح القائل قبل أن يقوم من مقامه، ولكنه يريد أيضًا تأليه عيسى وجبريل، شأن الرومان في تأليه عظمائهم وملوكهم بعد رحيلهم، وكأنه مضطر إلى هذا لا يستطيع منه فكاكا، فلا تدري ما الذي اضطره إليه. إنها معضلة بلا شك، فماذا فعل اللاهوت مجمعًا بعد مجمع؟ أدمج عيسى وجبريل في ذات الله عز وجل فلم يعد لهما خارج ذات الله وجود، فاحتفظ بمقولة التوحيد في وجه المنكرين عليه، أو هكذا ظن، ثم أخرج من ذات الله عز وجل عيسى وجبريل يعملان الأعمال في زي نبي وملك. أفليس الأنبياء رسل الله؟ وأليس الملائكة جند الله؟ فما حاجة الله إلى التزيي بزي عيسى وجبريل؟ أسئلة لا تجد لها جوابًا عند النصراني المؤمن الذي لا التواء فيه، بل هو يحترز كل الاحتراز من مناقشتها بعقله الذي لا يحتمل كل هذا الخلط والتخليط: إنه فحسب يعبد الآب الذي في السموات، ويحب المسيح، ويعظم الروح القدس، على القرب من الله عز وجل قربًا يعلو على فهم البشر، ويترك التفصيل والتقعيد لأصحاب هذا اللاهوت. وقد علم القرآن هذا قبل أن يعلمه غيره فقال في خطاب أهل الكتاب مريدًا النصارى بالتحديد: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171]، خاطب النصارى بيا أهل الكتاب، يذكرهم بكتاب موسى الذي يتعبدون به، وفيه الله واحد وليس آخر سواه، فكيف تقولون ثلاثة وإلهكم هو إله موسى؟ ويذكرهم أيضًا بأن قائل هذه المقولة كافر، وتوعد المصر عليها بالعذاب الأليم يوم يأتي كل أناس بإمامهم: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/335]
مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم} [المائدة: 72: 73]. وينبههم أيضًا إلى أن هذا التوحيد المثلث غير مقبول، عبث عابث لا طائل من ورائه إلا الوقوع في الشرك الغليظ، يضاهئون به قول قوم قد كفروا من قبل، فضلوا وأضلوا. أما الذين تولوا كبره من قبل، ففي النار هم فيها خالدون.
هنا تجد في الله رجاء للنصراني المؤمن الذي لا التواء فيه – لا لأصحاب هذا اللاهوت – إن هو نزه ذات الله عز وجل عما لا يليق بجلاله، وأصم أذنيه وقلبه عن سفسطة أصحاب اللاهوت، والله يهدي من يشاء بقرآن وبغير قرآن، وهو أعلم بالمهتدين.
والذي تستنبطه من هذه الآيات الثلاث، فتقطع به جازمًا آمنًا مطمئنًا، هو أن دخول الصابئين في معيه اليهود والنصارى في الآيتين الأوليين التي في سورة البقرة والتي في سورة المائدة – الداخلين في الوعد بثواب الله ورضوانه لمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا – يفيد أن الصابئين هم من اليهود والنصارى قريب، إن لم يكونوا بعض هؤلاء وهؤلاء «صبؤوا» عليهم. أعني أنهم يعبدون ذات الإله الذي عبده إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط والنبيون من قبل ومن بعد، الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، الله الذي لا إله غيره. وإلا لما جاز دخولهم مع اليهود والنصارى في جملة المؤمنين بالله واليوم الآخر، وثبوت الوعد للصابئين – من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا – بثواب الله ورضوانه، لم يرتفع في الآية الثالثة، التي في سورة الحج، إلا بدخول المجوس والذين أشركوا.
وتلاحظ أيضًا من النسق القرآن في الآيات الثلاث جميعًا، توسط الصابئين بين اليهود والنصارى في الآيتين الثانية والثالثة، التي في المائدة والتي في الحج،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/336]
حيث قال عز وجل {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} [المائدة: 69]، {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17]، بينما هم يجيئون بعد اليهود والنصارى مباشرة في الآية الأولى، التي في سورة البقرة: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين} [البقرة: 62]، فتستخلص من توسط الصابئين بين اليهود والنصارى في الآيتين الثانية والثالثة أن «الصابئين» فرقة من اليهود، سبقوا النصارى في الصبوء (أي الخروج) على توراة موسى القاطعة بتوحيد الله عز وجل لا ولي من دونه، لا «ابن» ولا «روح قدس»، وتستخلص من مجيئهم بعد اليهود والنصارى في الآية الأولى أن الصابئين أخلاط من هؤلاء وهؤلاء، أي من الصابئين من قد كانوا من قبل نصارى، أو أن عقائد الصابئة تجمع نتفًا من عقائد اليهود ونتفًا من عقائد النصارى.
وربما استوقفك ما استوقف النحاة من قبل، أعني تعليل ارتفاع لفظ «الصابئون» في الآية 69 من سورة المائدة «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون»، وهو في موضع نصب، عطفا بالواو على اسم «إن» الذي انتصف به «الذين آمنوا»، وقد علمت أن القرآن لا يخالف «ظاهر» النحو إلا لعلة. يعني أن ارتفاع لفظ «الصابئون» على خلاف ظاهر النحو، مقصود. وقد علمت أن الآية التي في المائدة، التي ارتفع فيها لفظ «الصابئون» على خلاف ظاهر النحو، هي آخر الآيات الثلاث نزولاً، لأن سورة «المائدة» من أواخر القرآن نزولاً، نزلت قطعًا بعد «البقرة» وبعد «الحج». والرأي الذي به أقول هو أن ارتفاع لفظ «الصابئون» في الآية التي في «المائدة» جاء ليلفت النظر إلى واقع تاريخي مقطوع به وهو أن «الصابئين» هم بعض الذين هادوا، سبق وجودهم نشأة النصرانية، أعني أنهم فرقة من الذين هادوا، لا فرقة من الذين قالوا إنا نصارى، وإن دخلت في عقائدهم من بعد عقائد نصرانية، أو دخل في زمرتهم من بعد نصارى «صبؤوا» على نصرانيتهم. ومن هنا تعلل ارتفاع لفظ «الصابئون» وهو في موضع نصب، بأنه ارتفاع على «القطع»، يعني على الاستدراك، كما لو قيل «إن الذين آمنوا والذين هادوا – والصابئون منهم – والنصارى، إلخ». والارتفاع على القطع هو التعليل الوحيد المقبول عند النحاة لتفسير مجيء الاسم مرفوعًا وهو معطوفٌ على غير مرفوع. «الصابئون» إذن تجيء في الآية التي في سورة المائدة رفعًا على الابتداء
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/337]
بعد القطع، فلا يجوز تفسير الآية إلا به. وهذا عندي من دقيق القرآن في تحديد هوية «الصابئين» كما سترى.
يجيء الجذر العبراني «صبا» (ويهمز قبل ضمائر الرفع كما في «صبئو»، «يصبئو» وأمثالهما) في أصله بمعنى «احتشد». بينما يجيء كفؤه العربي (صبأ، يصبأ، صبوءا) بمعنى برز وانتقل وخرج، وأيضًا هجم (وهذا الأخير باق في معاني «صبا» العبري). وغير بعيد عن هذا صبا / يصبو، صبوا، صبى / يصبي / صباء، العربيان بمعنى مال إليه وحن واشتاق، وتقول من «صبأ» العربي أيضًا «صبأت النجوم» يعني طلعت.
ومن «صبا» العبري بمعنى احتشد وهجم، يجيء الاسم «صبا» (ويجمع عبريا على «صبؤوت») بمعنى الجيش والجند. وكثيرًا ما تلتقي في الترجمة العربية للعهد القديم بعبارة «رب الجنود» التي أصلها العبراني «إلوهي هصبؤوت»، مرادًا منها الله عز وجل، فلا تفهم على التحقيق – مسلمًا كنت أو أهل كتاب – المعنى المقصود من تلك «الجنود».
والذي يقرب لك المعنى – إن كنت من أهل القرآن – قوله عز وجل: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [المدثر: 31]، يعني «ملائكة» الله عز وجل، وهم جنده تبارك وتعالى.
استعارت العبرية إذن لفظ «الجند» لمعنى «الملائكة»، تضع هذا في موضع ذاك. وفي العبرية كذلك «صبؤوت هشمايم» يعني «جند السماء» يعني الملائكة أيضًا.
وكما استعارت العبرية لفظ الجند لمعنى الملائكة، استعارته أيضًا لمعنى «الأجرام السماوية»، أي الشمس والقمر والنجوم. هذا الخلط بين «ملائكة» السماء ونجومها يدلك بمحض اللغة على اختلاط عقيدة اليهود بديانة البابليين عبدة الكواكب، الذين «يشخصون» أجرام السماء يجعلون منها آلهة، مثل «مردوخ» (المريخ على الراجح كما
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/338]
مر بك)، رقباء وحفظة، أو عتاة مردة، أو يجعلون منها في أقل القليل كائنات عاقلة مريدة، مؤثرة فعالة. من هذا في تراث أهل الكتاب تسميتهم إبليس «كوكب الصبح» Lucifer يعني «كوكب الزهرة»، وإبليس في عقائد أهل الكتاب كان رئيس الملائكة قبل سقطته في عداوة آدم. ويكفيك هذا مثلاً على توحيدهم بين الملائكة والكواكب. وهذا عندي هو أصل الاعتقاد بالتنجيم وبتأثير النجوم عمومًا ما دامت كائنات مشخصة مريدة فعالة، تضر وتنفع، لا ما يقال لك اليوم بتأثيرها جذبًا أو إشعاعًا في محاولة مغلوطة لتأصيل عقائد باطلة.
ومما يدلك على عقائد البابليين عصر إبراهيم عليه السلام – وقد علمت أنه نشأ ببلدة «أور الكلدانيين» بنواحي بابل جنوبي العراق – ما يحكيه القرآن عن إبراهيم قبل أن يهديه الله إليه: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما افلت قال يا قومي إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [الأنعام: 76 – 79]، وقوله «يا قوم إني بريء مما تشركون» يعني أن شركهم كان عبادة الكواكب. والذي ينبغي التنبيه إليه أن «الكواكب» في عربية القرآن – لا في عربية المعاجم العربية الحديثة – تشمل أجرام السماء جميعًا، نجمًا وغير نجم، المضيء بذاته والمستضيء بغيره، كما تستظهر من قوله عز وجل: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} [الصافات: 6]. ومجيء الكوكب بصورة الجمع في هذه الآية يمنع من فهمها بمعنى القمر وحده وما في حكمه، أعني الأجرام السماوية «الترابية» التي تضيء ليلاً بانعكاس ضوء الشمس عليها، وإنما الكواكب هنا تعني هذا وذاك، فتدخل فيها النجوم النيرات خاصة.
وقد كان لعقائد البابليين تأثير بالغ القوة في ديانات الشرق الأدنى القديم، لا عبرة بالذي «يحكم» في بابل، الآراميين أو الأشوريين أو الفرس، وقد اتسع نطاق هذا التأثير في العصر «الهليني» بعد غزوة الإسكندر المقدوني، فتسللت عقائد البابليين إلى أوروبا ذاتها، حيث اختلط الحابل بالنابل، واستطاع هذا الفكر البابلي أن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/339]
يغزو العقيدة المسيحية في قرونها الثلاثة الأولى. وتكونت من مرقعات هذا الفكر البابلي ملل ونحل، اشهرهم «الغنوصيون» (من gnosis اليونانية ومعناها «المعرفة») يعني معرفة الحكمة، وهي معرفة «لدنية» كما يقول المتصوفة، تهبط على أصحابها من «فوق» فيوضا. والغنوصية بلا شك ترجمة يونانية لمذهب «المندعيين» Mandaeanism أي المعرفيين، وهي من الآرامية «يداع» يعني «عرف» (والمصدر «ميدع»، «مندع»، فهو «مندعيا» أي «المعرفي»)، وقد مر بك غلبة الآرامية على أقطار الشرق الأدنى كله منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وقد عانت المسيحية كثيرًا من هؤلاء الغنوصيين في بواكير نشأتها، فدانت بالغنوصية أو اتهمت بها طوائف مسيحية عديدة، طاردها المسيحيون من بعد بسيف قيصر بيزنطة الذي آل إليه منذ القرن الرابع سلطان المسيحية وصولجانها، وكان طبيعيًا أن تلجأ فلولها إلى تخوم نفوذ بيزنطة، حيث «الفرس» أعداء القيصر، فيتجمعون في جنوبي العراق حيث كانت «بابل».
هذه الفرقة المسيحية «المندعية» أي المعرفية (أعني الغنوصية إن آثرت اللفظ اليوناني الشائع في كتب الفلسفة)، تسميها الكنيسة باسم «مسيحيي القديس يوحنا»، ليس هو بالطبع يوحنا الحواري أو يوحنا صاحب الإنجيل الرابع، وإنما هو يوحنا بن زكريا، يعني بقية من تلاميذ يحيى عليه السلام.
ولا شك أن هذه الملل والنحل التي أضافت إلى وحي الله عز وجل ما لم ينزل به سلطانًا، خلطت سيئًا بصالح، تأخذ نتفا من هنا ونتفا من هناك، فأضاعت الأصل وجاءت بمسخ مشوه. مثلما فعلت تلك الفلسفات المتهافتة التي نشأت في مدرسة الإسكندرية فجمعت بين أساطير اليونان واباطيل البابليين، تحاول صهرها في بوتقة فكر أرسطو وأفلاطون فتكون النتيجة المحتومة فكرًا شائها غير متماسك، تلخصه لك فلسفة أفلوطين الأسيوطي الإسكندري.
وتستطيع أن تقول أن عقيدة نيقية التي استمدت من عقائد المصريين في أسطورة إيزيس، لم تبرأ رغم نضالها الضخم ضد «هرطقات الغنوصيين». من تأثير بابلي قديم، يؤله النجوم، أو الملائكة، أي الوجهين شئت في فهم «صبا» العبرية – الآرامية، عندما ارتأت، بعد رفع المسيح بثلاثة قرون ونصف قرن، تأليه جبريل «النجم – الملك».
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/340]
أما تلك الفرقة «الغنوصية» المنسوبة إلى يحيى بن زكريا، فقد وفدت في بابل على سلالة من بني إسرائيل تسموا بالصابئة من قبل، وسرعان ما اختلط هذا بذاك.
فقد مر بك أن نبوخذ نصر ملك بابل اجتاح أورشليم وهدم هيكل سليمان أوائل القرن السادس قبل الميلاد (586 ق.م) وجعل أهلها أثلاثًا: ثلث في القتلى، وثلث استبقاه في أورشليم، وثلث أخذه سبيًا رجع به إلى بابل. فكان أول جلاءات بني إسرائيل. قضاء قضاه الله في بني إسرائيل جزاءً وفاقًا، مصداقًا لقوله عز وجل: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} [الإسراء: 4 – 5]، أي كان هذا عقابًا على ظلمهم وإفسادهم. وكم بغى اليهود وأفسدوا من بعد سليمان على نحو ما تقرأ في كتبهم (العهد القديم: الملوك الثاني – أخبار الأيام الثاني): نبذوا عهد الله وراء ظهورهم، فاستحلوا ما حرم الله، واستعان بعضهم على بعض بعبدة النجوم والأوثان، وسجدوا لغير الله، وطاردوا أنبياء الله، بل وقتلوا أنبياء الله. كان منهم زكريا بن برخيا، الذي ذبحوه بين يدي المذبح في الهيكل، فكانت النازلة الكبرى في دينهم هدم هذا الهيكل على رؤوسهم، واقتلاعهم من أورشليم، وسبيهم في بابل، وبقي منهم من استبقاه البابليون في أورشليم يلطم على أطلالها وينوح، أو يطلب التقية فيتقرب إلى الغزاة بالمودة، وزاغ منهم من زاغ فشاركوا الغزاة عبادتهم وأضاعوا كتاب الله.
أما سبى بابل، أساري نبوخذ نصر، فقد كان منهم من نجع فيه تأديب الله عز وجل فعكف على توراته، يستمسك بالعروة الوثقى، مؤمنًا بعدل الله عز وجل فيما أجراه على قومه، الذي جره بنو إسرائيل على أنفسهم بنبذهم هذه التوراة، لا مهرب من الله إلا إليه. وكان منهم أيضًا – كما تتوقع – الفريق الآخر، الذي يلتمس الرفعة بالذلة، فيرتضي الدنية في دينه، لينال الحظوة، فلاينوا واستلانوا، وكان لهم ما تمنوا، بل كان منهم من تسلل إلى بلاط الملك فكان بعض خدامه وحجابه وأعوانه، على ما رأيت في قصة «مردخاي» الذي دفع بابنة أخيه «إستير» إلى أحضان الملك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/341]
غير مبال متعللاً بأنه يستنقذ بها شعب بني إسرائيل في بابل من مكيدة كادها لهم عند الملك كبير بلاطه، فصارت بها «إستير» بطلة من أبطال اليهود، ليس هذا فحسب، بل سجل لها العهد القديم هذه البطولة في سفر باسمها في «الكتاب المقدس». والذي يجب التنبيه إليه أن هذا الاسم «مردخاي» معناه بالبابلية الآرامية «المريخي» عابد كوكب المريخ، وهذا يدلك على أن سبى بابل كان منه فريق استهوته عبادة البابليين، عبدة الكواكب، لا يأنف من الاعتزاء باسمه إلى بعض آلهتهم.
وليس معنى هذا الذي قلناه، أن هذا الفريق المنافق من سبى بابل ارتد عن توراة موسى إلى عبادة البابليين، وإنما معناه أنهم مزجوا بتوراة موسى شيئًا من عقائد البابليين، عبادة الكواكب، أو تعظيم الكواكب، أو في أقل القليل الاعتقاد بتأثيرها وأنها فعالة.
وقد مر بك أن الملك أذن من بعد لعزرا الكاتب بالعودة بهذا السبى إلى أورشليم لإعادة بناء الهيكل الذي هدمه من قبل نبوخذ نصر. وقد عاد عزرا بلفيف فقط من هذا السبى ولم يعد بهم جميعًا، لقول الملك في رسالته إلى عزرا: «كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين أن يرجع معك إلى أورشليم فليرجع» (عزرا 7/13). وقد حرص عزرا في سفره على تعيين العائدين معه إلى أورشليم بأسمائهم وأنسابهم. ولم يسم بالطبع الذين لم «يريدوا» الرجوع معه، الذين آثروا مصالحهم في بابل على الرجوع إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل.
بقيت إذن باقية من هذا السبى في بابل. وكان لا بد مما ليس منه بد. فقد تسللت إلى عقيدة التوراة القاطعة بتوحيد الله عز وجل لا ولي من دونه، التي يدين بها هؤلاء الذين آثروا بابل على أورشليم، تأثيرات بابلية تعظم النجوم – أو الملائكة إن شئت – فجمعوا بين توحيد الله عز وجل وبين الاعتقاد بتأثير النجوم.
والذي يجب أن تعلمه أن البقية الباقية من «الصابئين» في العالم لا تزال تعيش إلى الآن في جنوبي العراق، حيث كانت «بابل».
إنهم إذن سلالة من «الذين هادوا» صبؤوا عليهم. والصابئ في العربية يعني الخارج على ملة آبائه، الذي انتقل من عبادة قومه إلى عبادة لم يعرفوها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/342]
ولا ينفع تحيد الواحد الأحد من عبد معه غيره، مهما عظم جرمه، أو مهما بلغ قربه من الله عز وجل، فكل ما عدا الله خلق من خلقه، لا معبود سواه، ولا توسل إليه إلا به، ولا ولي من دونه.
أما اسمهم بلغتهم، فهو «صبائيين» آراميًا، «صبائيم» عبريًا، نسبة إلى «صبا» العبري – الآرامي يعني «النجم – الملك»، والنسبة إليه في الآرامية «صبائي» والجمع «صبائيين»، وفي العبرية «صبائي» والجمع «صبائيم».
إنهم «النجوميون» أو «الملائكيون»، عباد الكواكب أو عباد الملائكة.
وإلى هذا الخلط في مجاز العبرية – الآرامية بين الملائكة والنجوم في مادة «صبا» العبرية – الآرامية، يرجع فيما أرى تفاوت مفسري القرآن في عبادة الصابئين، فريق يقول عباد الكواكب وفريق يقول عباد الملائكة، لتفاوت من ترجم معنى «صبا» العبري – الآرامي لمفسري القرآن من رواتهم الآخذين من أفواه الصابئة هؤلاء أنفسهم.
اختلف مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 62 من سورة البقرة) في عبادة الصابئين فقالت طائفة إنهم فرقة من أهل الكتاب (وهو الصحيح كما مر بك)، وقالت طائفة هم قوم يشبه دينهم دين النصارى (وهذا يؤكد لك اختلاط الصابئة بمسيحي القديس يوحنا الغنوصيين أو المندعيين المعرفيين) قبلتهم مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح (وقد علمت أن العهد القديم ينسب نوحًا إلى بابل)، وقيل دينهم يتركب من اليهودية والمجوسية لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم (وهذا يدلك على تأثر بعض الصابئة بدين سادتهم الفرس قبل الإسلام)، وقيل بل قوم يعبدون الملائكة يصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور ويصلون الخمس (وليس بعد هذا تخليط ولكن الراوي ينقل بلا شك عن صابئة يتملقونه في أرض الإسلام).
وانتهى القرطبي رحمه الله إلى أن خلاصة القول فيهم عند أشياخه هو أن الصابئين موحدون يعتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة، وهذا كفرهم.
هذا الخلط في أقوال رواة مفسري القرآن بين عبادة الصابئين النجوم وبين عبادتهم الملائكة، ناشيء بلا شك عن ازدواج معنى «صبا» العبري – الآرامي لدى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/343]
أصحاب الملة الذين نقل عنهم الرواة تفسير عبادتهم، طائفة تقول للراوي النجوم وطائفة تقول الملائكة، وهم في حقيقة الأمر يعنون شيئًا واحدًا، لأن الملك عندهم نجم والنجم ملك.
قد جمع الصابئون إذن بين عبادة إله موسى وبين عبادة تلك النجوم التي في بابل، جند السماء، أو «صبؤوت هشمايم» في العهد القديم، وقد زين لهم التخفيف من غلظة عباد النجوم التي نعاها آباؤهم على بابل فألبسوا تلك النجوم ثياب الملائكة وفي وهمهم من مجاز عبرية العهد القديم أن النجم والملك واحد: «صبا»، «صبؤوت».
وقد كفر الملائكة في القرآن من عبدوهم وتبرءوا منهم: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40 – 41].
وها هنا يلتقي الصابئة بالنصارى الذين جمعوا إلى عبادة الله عز وجل عبادة روح القدس جبريل صلوات الله عليه وعلى ملائكة الله أجمعين.
أما «الصابئون» التي في القرآن فهي عربية بلا شك، زنة جمع الفاعل من الجذر العربي صبأ / يصبأ / صبوءا، يعني انتقل، أي انتقل من عبادة آبائه إلى عبادة لم يعرفها آباؤهم. وقد قيلت لمحمد صلى الله عليه وسلم وصحابته على الاستنكار من مشركي قريش، فقيل صبا محمد، وصبأ عمر، إلخ. يعني خرج خاتم النبيين وأتباعه على عبادة قومهم مشركي قريش. وقائلها يقولها على الذم ولا يقولها قط على المدح، صح قول القائل أو لم يصح. وهو لم يصح بالطبع في خاتم النبيين المبعوث لهداية الخلق، ولكنه يصح في الصابئين، صابئة بابل، الذين صبؤوا بعبادة النجوم أو الملائكة على توراة موسى.
وقد تقول فلماذا يفرد القرآن «الصابئين» بهذا الاسم، وقد صبأ من قبل ومن بعد كل خارج على دين القيمة، الذين تبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم؟
مر بك أن العرب تقول من «صبأ» العربي: صبأت النجوم، يعني طلعت، من صبأ بمعنى برز، كماي قولون صبأ ناب الصبي يعني انشقت عنه لثته، فالصابئ بمعنى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/344]
البارز البازغ. وعباد النجوم لا يعظمونها وهي في محاقها، وإنما يعظمونها وهي صوابئ، على ما مر بك من قول إبراهيم عليه السلام في القرآن: {فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي} [الأنعام: 77].
على أن «النجم» في العربية تسمية بالمصدر من الجذر العربي «نجم» بمعنى ظهر وبزغ، فهو الذي «نجم» يعني الذي بزغ وصبأ، فالناجم والصابئ واحد حين تعني بها نجوم السماء، ولكن العربية اشتقت اسم النجوم من مادة «نجم، واشتقته العبرية – الآرامية من مادة «صبا».
من هنا تستطيع أن تقول إن «الصابئين» هم الذين يعظمون نجوم السماء وهي صوابئ: يصبؤون إليها كلما صبأت.
احتفظ القرآن بلفظ «صبائيين» الآرامي أو «صبائيم» العبري على ما أسمى به الصابئون أنفسهم، فجاء به على التعريب المفسر: إنهم الصابئة، أصحاب النجوم الصوابئ.
وفي هذا التعريب المفسر أيضًا إضافة ومزيد بيان: ليسوا هم عباد النجوم بإطلاق شأن البابليين مخترعي هذه العبادة، ولكنهم الذين «صبؤوا» بعبادتهم على توراة موسى.
وسبحان العليم الخبير).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 331-345]


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:34 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir