دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #32  
قديم 1 جمادى الأولى 1443هـ/5-12-2021م, 12:15 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,756
افتراضي

(54) عمران:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (54) عمران
«عمران» المعنى في القرآن هو والد مريم أم عيسى، يعني جد المسيح صلوات الله عليه. ولكن الأناجيل التي بين يديك لا تنص على اسم أبي مريم. والمشهور أنه مات قبل مولدها عليها السلام، فلم يشهد ولادتها ولم يسمها بل سمتها والدتها كما تقرأ في القرآن، ولكن الله عز وجل {كفلها زكريا} [آل عمران: 36 – 37]، وزكريا هو أبو يحيى، زوج اليصابات، خالة مريم.
ولأن الأناجيل لم تحفظ لك اسم أبي مريم، لا تقول عمران، ولا تقول أيضًا باسم له غير عمران، فقد عجب أدعياء الاستشراق المنكرون الوحي على القرآن لقوله: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]. فمن أين جاء القرآن باسم أبي مريم ولم تسمه الأناجيل؟ لا بد قد شبه له ولبس عليه! لأن القرآن عند هؤلاء الأدعياء ليس متهمًا بالنقل عن أهل الكتاب فحسب ولكنه أيضًا – كبرت كلمة تخرج من أفواههم – متهم على الأخص بالخط والتخليط: قد علم محمد صلى الله عليه وسلم باسم عمران أبي موسى وهرون في التوراة (واسمه عمرام في النص العبراني) فأسقط اسم عمران أبي موسى على أبي مريم، التي خلط من قبل بينها وبين «مريام» ابنة عمران، أخت موسى وهرون، فقال على لسان قوم مريم أم عيسى عليهما السلام: {يا أخت هرون} [مريم: 28] يحسبها أختًا لموسى وهرون ابني عمران (عمرام في النص العبراني) وبين موسى وعيسى ثلاثة عشر قرنًا على الأقل. ولا يليق هذا بمستشرقين «علماء» يظن بهم العلم وتفترض فيهم نزاهة البحث فيتتلمذ عليهم الناس، ناهيك بمن اتخذوهم أئمة مطلع القرن العشرين في مصر بالذات.
فقد مر بك من قول لوقا في إنجيله، صف اليصابات زوج زكريا أبي يحيى: «وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات» (لوقا 1/ 5)، ولم يقل أحد بالطبع أن اليصابات زوج زكريا أبي يحيى – التي يفصل بين حملها بيحيى وبين حمل مريم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/239]
بعيسى ستة أشهر فقط كما سطر لوقا في إنجيليه (لوقا 1/ 26 – 36) – كانت ابنة لهرون أخي موسى ابني عمران، لقول لوقا إن اليصابات كانت من «بنات هارون»، وإنما فهم أهل الإنجيل على الفور من عبارة لوقا «بنات هرون» هذا الذي استغلظ على أدعياء العلم فهمه من عبارة القرآن «أخت هرون»، فهم يقرءون في سفر الخروج بالعهد القديم أن الكهانة جعلت ميراثًا في سبط هرون أخي موسى، حتى صارت الهارونية علمًا على السالكين في سلك هرون أصحاب الكهنة والسدانة.
ولا تستطيع أن تقول أن أدعياء الاستشراق المنكرين على القرآن قوله «أخت هرون» جهلوا هذا، فهم إما يهود وإما نصارى وإما ملحدون ولدوا في إحدى هاتين الملتين، وإنما تقول جازمًا مصيبًا غير مخطئ، أنهم دلسوا عليك، فدلسوا على أنفسهم. وتلك من العالم بالذات زلة لا تغتفر، لأنها تمنعك من التتلمذ عليه وأخذ العلم عنه.
وقد كان أدعياء الاستشراق هؤلاء كلهم هذا العالم المدلس، كلما خاضوا في القرآن بقول أو أرادوا سوءًا بأهله. وكانوا يظنون أن عبثهم هذا بمنجاة أن يفتضح، فقد جمعوا بين ضغنهم القديم على القرآن وبين الاستهانة بأهله، لا يرونهم أهلاً لحجاجهم أو تحقيق مقولتهم، ولكن الله عز وجل يقيض لهذا القرآن إلى يوم القيامة من أهله في كل قرن من يذب عنه، له الفضل والمن، والحمد لله وحده.
وقد كان عُذر التلاميذ الذي افتتنوا بهؤلاء «الأساتذة» مطلع هذا القرن هو ضخامة الجهد الذي بذله هؤلاء المستشرقون في أبحاثهم، إن أنكرت بعضه فلا تملك إلا أن تجل بعضه، فأصابت التلاميذ الفسولة، وقعدت بهم همتهم عن تتبع مقولة المستشرقين في مصادرهم. فلما شب التلاميذ عن الطوق، واستقلوا بأبحاثهم، كان الوقت قد فات، فقد ترسخت مقولة الاستشراق وتحصنت بما يشبه القداسة. وربما عز على الأشياخ في مجتمعك من بعد أن يراجعوا أنفسهم فيما نقلوه من قبل عن هؤلاء المستشرقين وكتبوه، بل وطنطنوا به في صدر الشباب وزهوه، وشرته. بل لا تزال في مجتمعك بذرة من هؤلاء التلاميذ، ورثوا تعظيم الاستشراق، يحاجون عنه في الغث والسمين ويلتمسون لأهله العلة، ويدفعون عنهم ظن السوء والتهمة. وربما عز على هؤلاء ما نقوله الآن، وأبوا عليك اتهام المستشرقين المنكرين على القرآن قوله في مريم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/240 ]
أم عيسى «أخت هرون»، بالتدليس. ولكنك ما أن تعفى من تهمة التدليس هذا المستشرق وأضرابه الذين أنكروا على مريم أم عيسى «أخوة هرون»، حتى تضطر اضطرارًا إلى اتهامه هو وإخوته بالجهل الفاضح، لأنه لم يفهم معنى «أخوة هرون» عند أهل التوراة الذين ينقل القرآن مقولتهم لمريم عليها السلام أم المسيح صلوات الله عليه. والجهل أهون من تعمد التدليس، ولكن الجهل من عالم أو مدعي علم يصرفك عن التتلمذ عليه، أو الاعتداد بمقولته، إلا أن تراجعه فيها، فترده إلى جادة الصواب إن أخطأ وتقبل منه إن أصاب. ولكنك لا تأخذ من هذا العالم أو مدعي العلم شيئًا قط يقوله في القرآن، الذي يحاج القرآن بالتوراة والإنجيل، ولا يعلم علم ما في التوراة والإنجيل.
بل لا يعلم هذا المدعي العلم علم ما في القرآن الذي تصدى لحجاجه، وإنما هم يأخذون منه نتفًا من هنا أو هناك كيفما اتفق، ولو قرءوا القرآن كما تجب قراءة القرآن لخجلوا من أنفسهم كيف ادعوا عليه الجهل ببعد ما بين موسى وعيسى عليهما السلام حتى يخلط ما بين مريم ابنة عمران أم عيسى وبين «مريام» ابنة عمران أخت موسى وهرون، وهو يعلم أن رسول المسيحية جاء بالإنجيل بعد ما جاء موسى بالتوراة، فكيف يتعاصران. بل كيف يتعاصران وبينهما جم غفير من الرسل: {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] وقوله عز وجل في عيسى آخر رسل الله إلى بني إسرائيل: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم} [الحديد: 26 – 27] أي قفينا بعيسى ابن مريم ختامًا لجميع أنبياء بني إسرائيل، فكيف يكون موسى هو خاله؟
الذي يبلغ من فقهه بديانة اليهود أن يعلم معنى «أخت هرون» ومدلولها في مصطلحات اليهود ومواضعاتهم، لا تستكثر على واسع علمه أن يعلمك من قد كان أبو مريم أم عيسى عليهما السلام، عمران غير المذكور بالاسم في الأناجيل. قد قالها القرآن «عمران» ولم يقلها غيره، عالم الغيب والشهادة، أبصر به وأسمع.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/241]
ليس أمام المنكرين أبوة عمران لمريم عليها السلام أم المسيح صلوات الله عليه، إلا أن يأخذوا من القرآن اسم أبي مريم، فلا مصدر أمامهم في هذا غير القرآن، والقرآن لو علموا مصدر أي مصر. أو يأتوا لعمران جد عيسى عليه السلام باسم آخر، حررًا موثقًا، وإلا فليصمتوا هم والمنكرون أخوة هرون على مريم بعد نشر هذا الكتاب، صمتًا طويلاً.
من بين ما يستوقفك في القرآن – والذي يستوقفك في القرآن كثير – أنه لا يجيء قط باسم نبي من الأنبياء على النسب لأبيه، كأن يقول مثلاً: موسى بن عمران، وإنما يقول موسى فقط، أو هودًا فحسب، لا ينسب هذا أو ذاك، لأن النبي أشهر من أن يعرف بأبيه، ولأن القرآن لا يهتم أصلاً للنسب، خلافًا لما تقرأ في العهد القديم، إلا أن تعلم من القرآن اسم الأب في سياق حديث الابن فيه نبي صنو أبيه، كما في داود وسليمان، وكما في إبراهيم وبنيه، إلا أن يريد القرآن الإدلال بعلمه وإعجازه، فيسمي لك «آزر» أبا إبراهيم: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} [الأنعام: 74]، وما كان أغناه عن «آزر» هذه، ولو أسقطها من سياق الآية لجاز، ولما اختل وزن أو نظم، ولكنه أراد منها إعلام أهل الكتاب ما لم يعلموه، أو يفسر لهم بها معنى «تاريح» اسم أبي إبراهيم في سفر التكوين. ومن هذا أيضًا قوله: {ومريم ابنة عمران}[التحريم: 12]، لا يريد منها إلا الإدلال بعلمه وإعجازه، يسمى لهم بها أبا مريم – جد عيسى عليه السلام – غير المذكور بالاسم في الأناجيل. أما المسيح عليه السلام فهو استثناء وحيد من كل هذا الذي قلناه: قلما يجيء به القرآن إلا منسوبًا إلى والدته «أمة الرب» مريم الصديقة «أخت هرون»، الهارونية، أي السالكة في سبط هرون، الكهنة سدنة هيكل الرب، فلا ينفك القرآن يقول: عيسى ابن مريم، حتى في خطاب الله عز وجل إياه: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم} [المائدة: 116]. وما ذاك إلا على التشريف لمريم عليها السلام، التي صدقت بكلمات ربها يوم نفخ فيها جبريل، وإذكارًا بإعجاز مولى عيسى: أنه ابن مريم فحسب، لا أب له سواها ولا أم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/242]
والذي أريد أن أصل بك إليه هو أن القرآن لا يدلك على اسم أبي موسى وهرون، المدعو «عمرام» في النص العبراني لأسفار التوراة، فلا تقطع من القرآن بلفظ هذا الاسم لو عربه القرآن، أيجيء على أصله العبري في التوراة «عمرام»، أم يصير إلى «عمران» فيكون سميا لجد عيسى عليه السلام في القرآن؟ لا سبيل إلى هذا بالطبع من القرآن لأنه لم يسم أبا موسى وهرون.
ولكنك لا تتلبث طويلاً عند هذا، فقد قرأت من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم تسمية أبي موسى وهرون: «وأيم الله لو سمع بي موسى بن عمران لما وسعه إلا اتباعي!» فتوقن أن الاسمين واحد، عمران التي في هذا الحديث، ومرام التي في التوراة.
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك بالفعل، فهل جاءت «عمران» على ألسنة العرب تعريبًا للاسم العبراني «عمرام»، أعني أن «عمرام» هي الأصل الذي جاءت منه عمران، أم العكس، أي أن «عمران» هي الأصل الذي تحور على ألسنة العبرانيين إلى عمرام؟
إذا كانت عمران هي الأصل فهذا يعني أن عمران التي في القرآن عربية، تفسر بالعربية وحدها. أما إذا كانت عمرام اسم أبي موسى في التوراة هي الأصل فهذا يعني أحد أمرين: إما أن عمران التي في القرآن عربية أيضًا يترجم بها القرآن عمرام التي في التوراة ومن ثم تفسر أيضًا بالعربية وحدها، وإما أن عمران التي في القرآن ليست عربية وإنما هي تعريب لفظي لصنوها في التوراة «عمرام» فلا يتسنى تفسير عمران التي في القرآن إلا بفهم صنوها العبري «عمرام».
ولأن عمران جد عيسى عليه السلام في القرآن رجل من بني إسرائيل، بل هو من سبط لاوي بالذات، سبط موسى وهرون ابني عمرام الذي في التوراة، فأنت تقطع بأن اسمه كان يلفظ بين أهله وعشيرته عمرام، لا عمران التي جاءت في القرآن إما على الترجمة وإما على التعريب. لهذا يتعين استقصاء وجوه معنى عمران العربية قبل الانتقال إلى فهم معنى عمرام، اسم أبي موسى وهرون، عند علماء العبرية وعلماء التوراة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/243]
وردت «عمران» في القرآن ثلاث مرات فحسب، كلها في جد عيسى عليه السلام، لا في أبي موسى وهرون. وهي في المرات الثلاث لم تأت قط منفردة وإنما على الإضافة فحسب: «آل عمران»، «امرأة عمران»، «ابنة عمران». تجد هذا في قوله عز وجل: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم}[آل عمران: 33 – 34]، سميع لدعوة إبراهيم في إمامة الناس من بعده، عليمٌ بالصالح من ذرية إبراهيم لهذه الإمامة. وقوله عز وجل: {إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} [آل عمران: 35]، أي نذرت ما في بطني لخدمة الرب، خالصًا لهذه العبادة، فتقبل مني النذر الذي تعلم إخلاصي فيه، فأنت السميع لما أعلنت، العليم بما أسررت. وقوله عز وجل يزكي مريم عليها السلام مع امرأة فرعون مثلاً للذين آمنوا: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12].
ولقد قال مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 33 من سورة آل عمران9، إن «عِمْران» عربية، مُنِعَت من الصرف فقط لزيادتها بالألف والنون، فهي من الجذر العربي «عَمَرَ» الذي تعددت أعلام العرب منه: عمرو (وأصلها «عَمْر» زيدت بالواو في الرسم لا في اللفظ فارقًا بينها وبين «عمر»)، عمر (وهي زنة مبالغة من «عامر»)، عامر، عمارة، عمير، وأيضًا «عمران» هذه نفسها التي سمعت في أعلام العرب قبل القرآن. وفي العربية أيضًا الاسم العلم «عمار» (ومنه عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين).
ولكن مفسري القرآن – ترتيبًا على عربية «عمران» - لا يفسرون لك معنى هذا الاسم العلم في العربية، شأنهم في كل علم عربي ورد في القرآن، لأنهم يفترضون فيك العلم بمعناه، تستخلصه من كافة معاني مادة ع/ م/ ر العربية، تنتقي منها الوجه الذي تشاء في تفسير الاسم «عمران» جد عيسى صلوات الله عليه. ربما قلت إنه من «العُمْر» بمعنى مدة الحياة، وربما قلت إنه من العُمران ضد الخراب، أو من المأهول نقيض القفر، إلى آخر ما تعلم من وجوه معاني هذه المادة العربية «عمر». ولكنك وقد علمت أن عمران التي في القرآن هي كفء عمرام التي في التوراة – لا تستطيع أن
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/244]
تأخذ من «عَمَر» العربية في تفسير عمران التي في القرآن إلا بمعنى واحد فقط، هو المعنى الذي يشترك فيه هذا الجذر العربي مع صنوه من نفس مادته في العبرية أي الجذر العبراني «عَمَرْ»، وإلا امتنع عليك مقابلة عمران بعمرام.
هذا المعنى الوحيدُ الذي يلتقي فيه «عَمَرَ» العربي صنوه العبراني «عَمَرْ» هو معنى واحد، لسبب بسيط وهو أن «عَمَرْ» العبراني ليس له إلا معنى واحد، وهو «السدانة» والسادن هو خادمك الذي يلازمك، استيعرت لخدمة المسجد أو المعبد خاصة.
أما أن «عَمَرَ» العربية تجيء بهذا المعنى، فحسبك قول الله عز وجل في نعيه على مشركي قريش اعتدادهم – على كفرهم – بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين} [التوبة: 19]، بعد أن مهد لها بقوله عز وجل: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التوبة: 17 – 18]. أي لا تصح عمارة المسجد إلا لمؤمن بالله واليوم الآخر، متعبد فيه بما تعبده به الله، لا يخشى غيره، لا لمشرك مكذب باليوم الآخر، يشهد على نفسه بالكفر إذ يتعبد في الكعبة وما حولها لغير الله عز وجل وهو يدعى سدانة بيته. وقد تفاوت قول المفسرين الذي حكاه القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآيات الثلاث حول معنى عمارة المسجد: اقتربوا ولم يستوفوا. لم يفتخر كفار قريش بأنهم يؤمون المسجد الحرام للعبادة فيه كما تفهم أنت اليوم من «عمار المساجد» الملازمين الصلاة فيها. وليست العمارة هي إعمار المسجد أي كونه عامرًا بهم. وليست هي فحسب معاهدة المسجد والقيام بمصالحه، أو تعهده بالتنظيف والإصلاح والصيانة. هذا كلام مطول يجمعه قولك: «السدانة»، وهي بالذات التي تباهي بها كفارُ قريش. والسادنُ كما مر بك هو
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/245]
في الأصل خادمك الذي يلازمك، أو هو حاجبك الآذن كما في معجمك العربي. والمعنى الباقي في «عَمَرْ» العبراني هو هذا نفسه: «عُمير» العبري (بالإمالة في الياء) يعني «الخادم»، جاءت منه عبرية التوراة بالاسم العلم «عُمْرى»، ملك من ملوك بني إسرائيل، واصله «عُمْريًّا» يعني «خادم الله»، أي خادم بيته، فهو السادن. وعمير العبري هي اسم الفاعل عبريًا من «عَمَرْ» العبري، فهي مكافئ «عامر» العربي. ولئن كانت عبرية التوراة (والعبرية المعاصرة أيضًا) قد أماتتا «عَمَرْ» العبري في ثلاثيه المجرد، فقد استبقتاه كلتاهما في صيغة «هتفعل» (نظيرة تفعله واستفعله العربية) فتقولان «هتعمر» تعنيان تعبده وتخدمه وتمهنه، فتقطع بأن «عَمَرْ» العبري كان معناه في ثلاثيه الممات: خدم وعبد، وأن الاسم منه هو الخادم العابد. لا معنى له غير هذا من مختلف معاني «عَمَرَ» العربي.
«عَمْرام» العبرية، اسم أبي موسى وهرون في التوراة من هذا لا من غيره – مع الاعتذار الواجب لعلماء العبرية وعلماء التوراة الذين ليسوا على هذا الرأي.
عَمْرام العبرية على القول الذي به نقول هي نفسها عمران العربية جذرًا ومعنى: السادن، خادم المسجد أو المعبد.
وربما قلت: فكيف يجيء معنى السدانة والخدامة من الجذر العربي «عَمَر» وهو في أصل معناه البقاء والحياة؟ وأقول لك إن العكس هو الصحيح: الأصل البعيد وراء كل معاني الجذر العربي «عَمَر» هو الملازمة، التي تفسر كل ما تفرع عنه من معان: المكث الذي جاء منه العُمر بمعنى مدة الحياة، والسكنى التي تجيءُ منها عمارة المكان، والتعهد الذي تجيء منه عمارة المال وتعميره، والقبوع الذي يجيء منه اسم لباس الرأس مثل «العمارة» بمعنى «العمامة»، إلى آخر ما تعلم.
أما الذي قد لا تعلمه لندرته فهو أنه من مادة «عَمَر» العربية هذه تجيء في العربية لفظة «العَمْر» بمعنى الدين والملة، ومن هذه يجيء الاسم «عمار» بمعنى الكثير الصلاة والصوم، يعني الملازم العبادة، فيكون العامر بمعنى العابد.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/246]
ومن هذه الملازمة استبقت العبرية «عُومِر» العبرانية بمعنى الحُزمة والربطة كما استبقت أيضًا الفعل المضعف العبري «عِمِّر» بمعنى حَزَم.
أما علماء العبرية وعلماء التوراة فهم يقولون أن «عَمْرام» ليست لفظة وحيدة الجذر، لا من «عَمَرْ» ولا من غيره، وإنما هي اسم مزجي مركب من شقين: عَمْ + رام، «عَمْ» بمعنى الشعب أو الأمة، «رام» بمعنى علا أو تعالى (فعل ماض) أو هي اسم الفاعل منه أي عَلِيٌّ أو مُتعالٍ.
من هنا فهم فريقٌ منهم هذا الاسم على معنى الفاعل وفعله، فقالوا إن معناه هو «الشعب علا» أو «تعالى الشعب».
أما الفريق الآخر فقد فهم الاسم على معنى المضاف والمضاف إليه فقال بل هو «شعب العلي»، يريد «شعب الله».
وكلا الوجهين كما ترى مفتعل. لأنهما كليهما لا يصلحان اسمًا لرجل، إذ ما معنى أن تسمى ابنًا ولد لك «شعب الله» أو «تعالى الشعب»؟
أهي النبوءة بأنه سيخرج من صلب عمرام الرجل الذي سيتعالى به الشعب، موسى الذي سيقود خروج بني إسرائيل من مصر ويصنع منهم «شعب الله»، أو هي محاولة تعظيم موسى عن طريق التفخيم في اسم أبيه؟
الملاحظة الأولى على هذا أن الاسم العلم عمرام لم يقع في أعلام العبرانيين قبل أبي موسى، وإن فشا من بعده في أعلام إسرائيل نسبة إليه. وقد تزوج عمرام أبو موسى من «أم موسى» أيام محنة بني إسرائيل في مصر. وحتى إن سلمت بأن مولد عمرام وتسميته كانا سابقين على هذه المحنة، أي سبقا بسنوات انقلاب فرعون مصر عليهم، فلا يذهبن بك الظن إلى أن قوم موسى كانوا قبل هذا الانقلاب مباشرة – وهم
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/247]
ضيوف إن لم تقل دخلاء على أهل مصر – يستطيعون مباهاة المصريين بقولهم «تعالى الشعب» أو «الشعب علا» في وصف أنفسهم، فضلاً عن أن يتسموا بها في أبنائهم، آمنين ألا ينكر المصريون عليهم، أو في أقل القليل أن يتخذ المصريون من اسم هذا المولود الذي سيتعالى الشعب به مزحة يتندرون بها، فلم تكن العبرانية بعد قرون من مقام بني إسرائيل في مصر طلاسم مطلسمة في آذان المصريين، وحتى إن بقيت طلاسم مطلسمة في آذانهم، فما كانوا ليعدموا من يفسر لهم معنى هذا الاسم من بين خلطائهم العبرانيين المتقربين إليهم بالمودة على حساب بني قومهم.
والملاحظة الثانية هي أن فكرة «شعب الله» لم تنبت في أدمغة بني إسرائيل إلا من بعد موسى، فكيف ينحت منها اسم أبيه؟
والملاحظة الثالثة هي أن اختلاف علماء العبرية وعلماء التوراة حول معنى هذا الاسم عمرام، وانقسامهم في تفسيره بين «تعالى الشعب»، «شعب الله» يدلانك على أنه ليس له أي تفسير معروف في مأثورات بني إسرائيل، على نحو ما مر بك من شغف كتبة التوراة بتفسير الأسماء الأعلام أو مناسبة التسمية، مثلما فسروا اسم موسى بن عمران، ولو كان للاسم عمرام تفسيرٌ مأثور، معلوم، مستقر عليه، لما انقسم في تفسيره علماء العبرية وعلماء التوراة، ولكنها اجتهادات لهم، كل يدلي بدلوه، لا تلزمك.
ولم لا يقال إن «عمْ + رام» (مكسور العين في «عم» يعني «مع») يراد بها «مع العلي»، أي «مع الله» لا «شعب الله»، يعني السالك مع الله (هوليخ عم رام عبريًا) اختصرت إلى «عم + رام»، كما قالوا «عمانوئيل» أي الله معنا، ثم تحورت كسرة العين إلى الفتح؟
تستطيع أن تقول هذا وأمثاله فلا تنتهي، ولكنك تتوقف عند عمرام بمعنى عمران، الملازم العبادة، أو السادن خادم المعبد، تستخلص معناه مباشرة من الجذر «عَمَر» دون حاجة إلى افتراض «مزجيات» لا داعي لها. وقد مر بك من قبل انه حين يستعصى فهم لفظ في الساميات فلا بد من التماسه في أمها، أي في العربية، وقد عرف العرب «عمران» قبل الإسلام بقرون وتسموا به، لم ينقلوه عن العبرية المختلف فيها على معناه. دليلك في هذا أني هود مكة ويثرب قالوا في اسم أبي موسى وهرون
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/248]
«عمران» يعنون «عمرام» الذي في التوراة، عالمين أن اللفظين واحد. ودليلك فيه أيضًا ورود هذا الاسم بالنون لا بالميم في كتابات Lucian وهو من أعلام القرن الثاني للميلاد، ووروده بالنون أيضًا في نقش حوراني باليونانية Emranes «عمرانس» (السين للرفع)، فتقطع بعربية «عمران» كما قطع بها المستشرق الذي ننقل عنه هذا الكلام.
ولكن هذا المستشرق لا يريد الإقرار بأن «عمران» العربية هي الأصل وراء عمرام التي في التوراة، وأن بني إسرائيل في مصر استعاروا «عمران» من جيرانهم الساميين فآلت على لسانهم إلى «عمرام» مع وحدة الجذر والمعنى. وإنما هو يقول ما تفهم منه أن القرآن شاكل عمران العرب يعلى عمرام العبري يظنهما واحدًا، لأن هذا المستشرق وأضرابه لا يحققون معاني الأسماء الأعلام، وإنما يهتمون فحسب للتقارب اللفظي، يظنون أن القرآن كدأبهم هم يأخذ نتفًا من هنا ونتفًا من هناك دون تثبت، وفاتهم كما مر بك أن اليهود في مكة ويثرب قالوا هم أنفسهم «موسى بن عمران» ولم يقولوا «موسى بن عمرام».
على أن هذا المستشرق وإخوته يقعون رغم أنفهم، أو قل بتعسفهم النعي على القرآن، فيما ينقض دعواهم: إذا كانت عمران عندهم عربية الأصل من الجذر «عمى» (ولا يصح اشتقاق في عمران إلا من عمر) فليس هي إذن «عَمْ + رام» العبرية المفترض معناها «تعالى الشعب»، أو «شعب الله»، ومن ثم فليس الاسمان واحدًا، ولا وجه بالتالي للقول بأن القرآن يخلط بين عمران جد عيسى وبين عمرام أبي موسى وهرون.
ولئن كانت «عمران» عربية، لا تدخل في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، فقد أدخلناها في مباحث الكتاب للرد على المستشرقين المنكرين الوحي على القرآن، من جهة، ومن جهة أخرى لأن القرآن الذي فسر الاسم عمران على المشاكلة مع عمرام الذي في التوراة لم يكتف بذلك، وإنما فسر معنى هذا الاسم أبين تفسير بالمرادف، بل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/249]
قد جانس عليه في تفسير معنى الاسم «مريم»، فهو العامر العابد، وهي أمة الرب، وسبحان العليم الخبير القائل بكل اللغات.
قال عز وجل: {إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم} [آل عمران: 35]، والمنذور لله عز وجل محررًا، هي نفسها «عمران»، الملازم العبادة، الملازم بيت الرب، وكأنها رضي الله عنهما أرادت عمران آخر سميًا لزوجها عمران، وكأنها لو وضعته ذكرًا لأسمته عمران على اسم أبيه. ولكنها رزقت بالأنثى، مريم عليها السلام، فأسمتها بالمؤنث منه: مريم، يعني أمة الرب.
وقال عز وجل أيضًا: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12]، يعني كانت ابنة عمران صنو أبيها، اسمًا على مسمى، وهل القانت إلا العامر العابد عمران، وهل أمة الرب من هذا ببعيد؟
وربما قلت: وما وجه الإعجاز والقرآن عربي وعمران عربية، فهو يفسر عمران على أصل معناها في لغته؟ وهذا صحيح.
ولكن الإعجاز الذي أريد أن أدلك عليه هو أن القرآن الذي علم معنى «عمران» من العربية، يجانس عمران العربية هذه على «مريم»، أمة الرب، ومريم اسم آرامي بحت كما سوف ترى. فأي إعجاز وأي علم!)
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 239-250]


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:32 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir