(18) صالح (19) ثمود:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (18) صالح (19) ثمود
يرد الاسم «إرم» في التاريخ المدون، وفي جغرافية التوراة، بصورة عبرية آرامية هي «آرام» ليست هي إرم عاد التي في القرآن، وإنما المراد منها هو «سورية» بالمعنى العام، سميت بهذا الاسم نسبة إلى قوم من العرب وفدوا عليها حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد: جاءوها بلغتهم هم «الآرامية»، وخلعوا عليها اسمهم هم «الآراميين»، فصارت سورية «ارص آرام» أي أرض آرام. وقد مر بك أن «غرم» فسرت في القرآن بمعنى العالية أو المعلاة (إرم ذات العماد)، وهو نفسه معنى لفظ «آرام» في اللغتين العبرية والآرامية، فتقطع بأن «الآراميين» هم «الإرميون» أصحاب إرم التي في القرآن، سلالة من الناجين مع هود تفرقوا في البلاد في عصور سابقة على وجود الآراميين في سورية. دليلك في هذا من القرآن على لسان صالح عليه السلام يحذر قومه مصير أسلافهم قوم هود: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض} [الأعراف: 74]، ولم تخلف ثمود عادًا على نفس الأرض، فشتان ما بين الحجر في الشمال الغربي من شبه الجزيرة وبين «آرام نهريم» أي آرام ما بين النهرين، يعني «إرم العراق»، وإنما كان أصحاب الحجر فحسب «سلالة من الناجين مع هود» خرجوا بعد نكبة «إرم ذات العماد» من ناحية ما في جنوبي بابل إلى حضرموت واليمن يحملون معهم اسم مدينتهم «إرم» أو «آرام» التي صارت علمًا عليهم فسموا «الإرميين» أو «الآراميين»، ثم ارتحلت بطون منهم في زمن لاحق إلى الشمال، ثم استقرت فصائل منهم في منطقة الحجر على طريق القوافل إلى الشام، كانوا هم «ثمود» قوم صالح. وتلمح في قول صالح عليه السلام يعظ قومه: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا} [الأعراف: 74] أن ثمود أرادوا محاكاة «إرم ذات العماد» في العلو تحنانًا إلى موطنهم القديم، ولكنهم لم يذكروا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/242]
آلاء الله عليهم، بل ظلموا بها، فدمر الله عليهم «إرم الثانية» - إرم صالح – كما أهلك من قبل «عادا الأولى»، غرم هود. ومن هذا قوله عز وجل: {وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى} [النجم: 49 – 50] فتفهم أن ثمود هي «عاد الثانية».
لم يكن صالح عليه السلام من أنبياء التوراة، ومن ثم فاسمه كما علمت من منهجنا في هذا الكتاب، يجيء على أصله عربيًا، لا يحتاج إلى تفسير. ولا يترتب على عربية هذا الاسم أن صالحا عليه السلام كان عربيًا من بني إسماعيل، بل هو آرامي من قوم آراميين، سلالة من الناجين مع هود، واسمه – كاسم هود – مشتق من العربية الأولى التي تفرقت جذورها في الساميات جميعًا. دليلك في هذا أن صالحًا سبق إبراهيم – أبا إسماعيل وعم لوط – بقرون لا يعلم عدتها إلا الله. ودليلك فيه أيضًا أن «قرى صالح» أقرب إلى الشام من الحجاز، ناهيك باليمن.
على أن الجذر العربي «صلح» باق بذات حروفه ولفظه ومعناه في العبرية والآرامية، ومنه على زنة الفاعل في الآرامية بالذات – لغة قوم صالح كما مر بك - «صاليح» (مدا للام بالكسر لا بالياء كما تنطق في «ليه» العربية العامة أو في Late الإنجليزية) بمعنى «الذي صلح». فهو إذن في العربية والآرامية واحد، يعرب فقط بتقصير مدر «كسرة اللام»، فيؤول إلى «صالح» العربية بنفس معناها ونطقها في القرآن.
«صالح» إذن مفسر في القرآن بالتعريب وحده، بل هو أبين أمثلة القرآن في التفسير بالتعريب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/243]
وقد ذهب مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآيتين رقم 73 من سورة الأعراف ورقم 80 من سورة الحج) إلى أن صالحا وقومه كانوا قوما عربا، ولكنهم نسبوهم إلى العرب البائدة كعاد وطسم وجديس، وهذا يطابق ما قلناه نحن إن تمعنت، لأن سكان شبه الجزيرة جميعًا عرب بالمعنى العام، لا يقدح في هذا تفاوت لهجاتهم ومنطقهم مهما بعدت عن العربية التي نزل بها القرآن. وهذا يدلك أيضًا على علم العرب قبل القرآن بثمود، لا بوصفهم قوم صالح، وإنما بوصفهم قبيلة من قبائل العرب التي بادت، وهو علم شاركهم فيه أهل الكتاب معاصرو القرآن، وإن خلت أسفار التوراة من النص على قصة صالح مع قومه. بل قد ذكر مؤرخو اليونان قبل القرآن بقرون «ثمود» و«لحيان»، وقالوا إن منازلهم كانت من جنوب العقبة إلى نواحي شمال ينبع بالقرب من المويلح وأنه كانت منهم جموع منتشرة في داخل البلاد إلى نواحي خيبر وفدك. وليس هؤلاء بالطبع هم «ثمود صالح»، وإنما هم سلالة من الناجين مع صالح، خلفوهم وانتسبوا إليهم.
أما «ثمود» فهي عربية أيضًا بالمعنى الذي ذكرناه: ثمد الماء يعني قل، وثمده هو يعني استنفد معظمه، وثمد الناقة يعني اشتفها بالحلب، وثمده يعني استنفد ما عنده، والثمد يعني الماء القليل الذي ليس له مدد، أو هو المكان يجتمع فيه الماء، من ثمد المكان يعني هيأه كالحوض ليجتمع فيه الماء. وعلى هذا تكون «ثمود» على زنة فعول بمعنى فاعل، أو فعل بمعنى مفعول، على المعاني الذي ذكرت لك، فهم أصحاب الماء القليل، يستنبطونه من الأرض ويحوضونه، الحريصون عليه، يذودون عنه ويمنعونه، فهو حجر عليهم، حرام على غيرهم. ومن هنا جاءت تسميتهم «أصحاب الحجر» [الحجر: 80].
وقد جاءت «ثمود» مفسرة في القرآن بالتصوير في فتنة الناقة التي جعلها الله لهم آية {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر} [القمر: 27 – 28]، «تشتف» ماءهم كله
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/244]
يوما، وتفيضه عليهم في الغداة لبنا إذ لا ماء لهم، «فيشتفونها»، «تثمدهم» و«يثمدونها».
وقد وهم بعض مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 38 من سورة الفرقان) أن «أصحاب الرس» هم ثمود قوم صالح، أصحاب تلك «البئر الحجر» لأن «الرس» في العربية معناها «البئر». وقد وردت «الرس» في القرآن مرتين: {وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا} [الفرقان: 38]، {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود} [ق: 12]. ولا يصح قول المفسرين في هذا لأن القرآن يعطف بالواو أصحاب الرس على ثمود في الآية الأولى، ويعطف ثمود على أصحاب الرسل في الآية الثانية، لا يجتزئ من الواحدة بالأخرى كما قال «أصحاب الحجر» يعني قوم صالح، وكما قال «أصحاب الأيكة» يعني أهل مدين، قوم شعيب. أصحاب الرس إذن ليسوا قوم صالح، وإنما هم قوم آخرون أخبر القرآن بمهلكهم، ولم يسم نبيهم، في قرون قد خلت بين نوح وإبراهيم. بل وبعد إبراهيم، كما قال عز وجل: {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد} [الحج: 45]، وإن كان قد وجد من المفسرين (راجع تفسير القرطبي لهذه الآية من سورة الحج)، من جمع بين تلك البئر المعطلة وبين بئر ثمود. كل هذا يعارض ظاهر القرآن، فلا تلتفت إليه.
وقد بقى في العبرية والآرامية من «ثمد» العربية الجذر العبري – الآرامي «شمد» (بإبدال الثاء شينا)، بمعنى الاستئصال والإبادة، وهو من معنى الاستفادة والاشتفاف في ثمد العربية جد قريب. وتستخدم العبرية المعاصرة الفعل «شمد» بمعنى محدد هو «استصفاء» اليهودية، يعني تصفيتها سلما، بإجبار أهلها كرها على الخروج منها إلى «المسيحية» في عصور اضطهادهم في أوروبا، لا بمعنى إبادة أهلها وإهلاكهم، على أصل معنى «شمد» في عبرية التوراة، وربما قلت إن «ثمود» في القرآن جاءت تعريبًا لـ «شمود» العبري أو «شميد» الآرامي على المفعولية من الجذر العبري -
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/245]
الآرامي «شمد» فهو الهالك البائد بمعنى «شمد» في عبرية التوراة. ولا يصح هذا، فلا أحد يسمى نفسه الهالك البائد وقد تسمت به قبيلة من كبرى قبائل العرب خلفوا «ثمود» قوم صالح كم مر بك. وإنما الصحيح أن «ثمود» جاءت من العربية الأولى بمعنى قل ونضب واستنفد واشتف، قبل أن تتحور في عبرية التوراة إلى باد وهالك).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/242-246]