(51) لقمان:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: (
(51) لقمان
ورد اسم «لقمان» في القرآن مرتين اثنتين في سورة سميت باسمه. وليس له سَمِيٌ أو نظير في أعلام الكتاب المقدس بشطريه، وإنما انفرد القرآن بذكره على غير سابقة في التوراة والإنجيل.
ولقمان حكيم من الحكماء، ليس بنبي، بل صديق أو ولي، قال فيه عز وجل: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} [لقمان: 12]. وقد شرف لقمان أي شرف بذكر اسمه في القرآن في سورة سميت باسمه، ولم ينل هذا الشرف من دون الأنبياء إلا مريم أم عيسى. بل قد شرف لقمان الشرف كله بالنص على وصاياه لابنه وهو يعظه في قرآن متلو يتعبد الناس بتلاوته إلى يوم القيامة. ربما لم تأت في القرآن بذات اللفظ الذي نطق به لقمان، ولكن يكفيه أن الله عز وجل أجراها على لسانه نابضةً بلباب الحكمة: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، ظلم للفطرة، وظلم للنفس، وظلم للعقل، وظلم للحواس. وقوله: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16]، لا ملجأ منه إلا إليه سبحانه. وقوله: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان: 17 – 19]. هذه الوصايا القصار الثقال ليست هي لباب الحكمة فقط، وإنما هي جماع الإيمان والعمل الصالح، أثقلها في جنب الله عز وجل قولُ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأثقلها في حق العباد وفي حقك أنت أن تأمر في مجتمعك بالمعروف وتنهي عن المنكر، وهذا هو جماع القول في سياسة الدولة والمجتمع: تستقيم على ما أمرت به
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 214]
في كتاب ربك وسنة نبيك لا تحيد عنهما إلى غيرهما، فتكون كما أرادك الله أن تكون في قوله عز وجل للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]. أي جنديًا لله في أرضه، يطعم من رزقه، ويعمل في طاعته، ويأتمر بأمره، والله من فوقك رقيب حسيب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فإما رضوان الله أو سخطه، نعوذ بالله من سخطه. بهذه الوصايا القصار الثقال، أثبت القرآن للقمان لباب الحكمة، وسبحان العزيز الحكيم: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: 269].
وقد مر بك من قبل من قول الله عز وجل انحصار النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم من بعد نوح {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} [الحديد: 26]، فليس نبي من بعد إبراهيم، ولا كتاب، إلا في نسل إبراهيم، لتمنيه على الله عز وجل حين عقد له لواء الإمامة يوم البلاء المبين، أن يجعل إمامة الناس في ذريته من بعده، فاستجاب له عز وجل، واستثنى الظالمين: {وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124]، أي هذا لك على عهد لا يدخل فيه من ظلم وأفسد، لا ينالهم ولا يصل إليهم. وقد نال هذا الشرف أنبياء أئمة: إسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وجملة أنبياء بني إسرائيل، وختمت الإمامة بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين. وليس نبي قص القرآن عليك نبأه إلا هؤلاء فيمن جاء بعد إبراهيم. أما شعيب الذي جاء بعد إبراهيم بنص القرآن، وليس من أنبياء بني إسرائيل بالقطع، على ما مر بك في موضعه، الذي نرجح أنه حمو موسى كما يقول جمهور المفسرين، فالراجح أنه من بني إسحق غير يعقوب، أو من نسل بني إبراهيم غير إسماعيل وإسحق، فليس نبي من بني إسماعيل إلا خاتم النبيين.
ولكن القرآن لم يعد لقمان في عداد من تحدث عنهم من الأنبياء من ذرية إبراهيم، فتقول ربما كان نبيًا ما بين نوح وإبراهيم، أو ما بين آدم ونوح شأنه شأن إدريس – وقد قال يتقدم لقمان على عصر إبراهيم مفسرون – أو تقول كما نقول ويقول الجمهور إن لقمان حكيم ليس بنبي، فليس هو بالضرورة من بني إبراهيم أو بني إسرائيل، بل تقول مصيبًا غير مخطئ أنه لو كان من أهل الكتاب لما سكت عنه أهل الكتاب، وقد خلا الكتاب المقدس بشطريه من ذكر لقمان.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/215]
ولعلك تتفق معي أن اقتصار القرآن في الحديث عن لقمان على موعظة لقمان لابنه دليلٌ على أن لقمان لم يكن نبيًا في قومه، وإنما كان رجلاً فاضلاً في أهله وذويه، آتاه الله الحكمة ولم يؤته النبوة، بلغ من حكمته أن يسجلها له الله عز وجل في قرآن يتلى، فهو حكيم الحكماء. وليس كل حكيم بنبي، وإن كانت الحكمة من أشراط النبوة، فليس نبي إلا حكيم. وإذا كان عز وجل قد حصر النبوة والكتاب من بعد إ براهيم في ذرية إبراهيم، فالحكمة من فضل الله عز وجل يؤتيها من يشاء، ليست قصرًا على ذرية إبراهيم. من هنا يتسع لك باب البحث عمن كان لقمان، لا تحصره في أمة بعينها، ولا تشترط أن يكون اسمه على أصله عبريًا كالعبرانيين.
ولكنك تثبت للقمان ما أثبته له القرآن، أعني رتبة الصديق على ما تقدم ذكره في حواشي هذا الكتاب: قد خوطب لقمان على ملائكة الله عز وجل بقوله: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} [لقمان: 12] على الأمر منه عز وجل، والمخاطب على ملائكة الله عز وجل صديق وإن لم ينبأ، على القول الذي به نقول، شأن امرأة فرعون وامرأة عمران، وأم موسى وأم عيسى، رضي الله عنهم جميعًا ورضوا عنه.
ها قد اتسع أمامك باب البحث عمن كان لقمان. ولكن ماذا قالوا في لقمان؟
أما المستشرقون المنكرون على القرآن، فقد أسفوا أيما إسفاف في لقمان، لأنهم كما مر بك لا يتصورون أن يكون في القرآن شيء لم يتسقطه من أهل الكتاب أو أقاصيص أهل الكتاب. قالوا إن الاسم لقمان يجيء في العبرية من الجذر «لقم» يعني «بلع»، فهو سمي ملك أدوم في سفر التكوين «بالع بن بعور» (تكوين 36/ 32) – وأصله في العبرانية «بلع» على المصدرية واسم الفعل من الجذر العبري «بلع» بمعنى ابتلعه أو أتَى عليه وأفناه – فجاء به القرآن على «لقمان» أو هو «بلعام بن بعور» - على زنة «فعلام» من نفس الجذر العبري «بلع» - نبي من غير بني إسرائيل عاصر موسى عليه السلام (عدد 22/ 5). وقد تظن أن هذا جهد علمي يليق
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/216]
بمستشرقين علماء، والواقع أنهم اتكأوا فيه كدأبهم على أصحاب التفاسير والسير الذين ائتمنوا الرواة من أهل الكتاب، فقد قال ابن إسحق أن لقمان، هو بالع بن بعوراء (انظر تفسير القرطبي للآية 12 من سورة لقمان) وما كان لابن إسحق أن يعلم علم بالع هذا إلا من رواته من أهل الكتاب الذين فطنوا إلى هذا الجناس المعنوي بين بالع ولقمان. أما بالع ملك أدوم فلا تحدثك التوراة عنه بشيء، حكيمًا استطارت حكمته أو غير حكيم. وأما بلعام بن بعور الذي عاصر موسى عليه السلام فقد كان عند اليهود «نبيا لعانا» استأجره بالاق بن صفور ملك موآب ليلعن له بني إسرائيل حتى ينكسروا أمامه في حربه معهم، ولكن الله كان يحول لعنات بلعام فترتد على جيش الموآبيين وحلفائهم (راجع الإصحاح 22 من سفر العدد)، ولو كان مفسرو القرآن وأصحاب السير يقرءون في أسفار هذه التوراة فعلموا حقيقة «بلعام» لأحجموا عن مساواته بلقمان الذي في القرآن.
قال هؤلاء المستشرقون أيضا، إن موعظة لقمان لابنه شبيهة بما في أساطير السريان عن «أحيقار» (وهي «أخو الوقار» بمعنى ذي الوقار) الذي يعظ ابنه بما معناه: يا بني طأطئ رأسك وألن قولك وغض بصرك، فلو كان بيت يبنى بجهارة الصوت لبني الحمار بيتين في يوم وهذا ضعيف كما ترى، يدلك على مدى هزل هؤلاء المستشرقين، يأخذون وجه الشبه من نهيق الحمار في الموعظتين أما مطاطأة الرأس والإنة القول وغض البصر، فهذا من الشائع المأثور الذي لا تخلو منه موعظة مرب، وليس هذا هو لب مواعظ لقمان، وإنما أدناها. على أن لقمان يأخذ على الحمار نكر الصوت، أما «أحيقار» السرياني فيقول إن جهارة الصوت شأن صوت الحمار، لغو لا طائل من ورائه.
على أن سوء التشبيه بين «أحيقار» السرياني ولقمان الذي في القرآن يكفي بذاته للمباعدة بينه وبين مقولة هذا القائل فتستبعد «أحيقار» السرياني كما استبعدت من قبل «بلع»، «بلعام». وقد استبعدهم أيضًا Joseph Horovitz الذي ننقل عنه هذا الكلام.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/217]
قالوا أيضًا فيما يرويه عنهم هذا المستشرق إن الاسم اليوناني «الكميون»، وشبهه «الكمان (“Alkmaion, “Alkman”) فيه شيء من «لقمان» الذي في القرآن مشيرين إلى تردد هذا الاسم اليوناني «في دوائر واسعة بالمشرق». وليس على هذا دليل كما عقب هذا المستشرق نفسه فقال إنه إن كان لا بد من يونانية «لقمان» فهو يؤثر الاسم اليوناني «لقيان» “Lucian” المحفوظة أقوال له في مدونات سريانية، مشيرًا إلى يسر تصحيف «لقيان» بالياء إلى «لقمان» بالميم في رسم المصحف، وهي فرية مضحكة مبكية لا يخجل من اصطناعها أدعياء الاستشراق الذين لا يحيلون التصحيف على المصحف الإمام يسدون بها الثغرة في تهافت حجاجهم مع القرآن، وكأنهم يقيسون المصحف الإمام على «توراة الأنبياء والكتبة» التي تراوحت عليها أقلام النساخ، فيفتضحون بجهلهم القديم بتاريخ القرآن، وجمع القرآن، وتدوين القرآن. ولكن هذا المستشرق يعود أيضًا فيستدرك على نفسه وقد أعياه البحث عن «لقمان» عند أهل الكتاب وعند السريان وعند اليونان، فيقول إنه ليس على هذا كله دليل، والراجح عنده في النهاية أن لقمان اسم عربي أصيل عرفه العرب قبل القرآن، فقد ذكره من شعرائهم أمثال طرفة والأعشى وزهير وامرئ القيس والمخبل وأفنون، وغيرهم، فضلاً عن أساطير العرب في «لقمان بن عاد».
أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 12 من سورة لقمان) فقد تفاوتت أقوالُهم في لقمان. وقد مر بك ما حكاه القرطبي عن ابن إسحق في «بالع»، «بلعام»، ولكن ابن غسحق رحمه الله تكتم مصادره فلم ينص على «بلع»، «بلعام»، وإنما قال في المرتين «لقمان بن باعوراء»، وباعوراء – التي هي «بعور» في التوراة – تكشف مصادر ابن إسحق بجلاء. وقال السهيلي كان لقمان نوبيًا من أهل إيلة (وما أبعد البون ما بين أرض النوبة وأرض فلسطين!)، وقيل أيضًا عن سعيد بن المسيب إن لقمان أسود من سودا ن مصر ذو مشافر (يعني عظيم الشفتين) وعظم الشفتين في هذه الرواية وأمثالها محاولة لتفسير معنى «لقمان» بأنه عظيم اللقمة، تلقامة تلقام (وهو فهم غير دقيق لأصل معنى الجذر العربي «لقم» كما سوف ترى). وقال وهب ومقاتل والزمخشري كان لقمان ابن أخت أيوب أو ابن خالته (وهي محاولة لتأصيل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/218]
عروبة لقمان على عروبة أيوب في قول بعض المفسرين وهذا غير صحيح بناء على ما قلناه في تحليل اسم «أيوب» وإنه من بني إسرائيل على الصحيح) وقيل كان لقمان من أولاد آزر أبي إبراهيم، عمر ألف سنة فأدرك داود. وروى عن ابن عباس أن لقمان كان رجلاً حكيمًا بحكمة الله تعالى قاضيًا في بني إسرائيل أسود مشقق الرجلين ذا مشافر يعني عظيم الشفتين كما مر بك. فتعجب كيف يكون قاضيًا في بني إسرائيل نوبي أو من سودان مصر.
ربما تجد في هذا الإصرار على سواد بشرة لقمان دليلاً على أنه ليس من بني إسرائيل – ولكن سواد بشرته ليس مانعًا من أن يكون لقمان عربيًا من العرب، وعربية لقمان أليق بعربية اسمه. أما القول بأنه مصري أو من سودان مصر، أو من أهل النوبة، فليس ما يمنع من هذا بالطبع، فقد سكت القرآن والحديث الصحيح عن نسب لقمان في أمة بعينها. ولكن القول مرسل ليس عليه دليل. ولا يصح أني كون الاسم «لقمان» عَلَمًا أعجميًا من المصرية القديمة بالذات، لأن المصرية القديمة تفتقد حرف «اللام» - الحرف الباديء في «لقمان» - وتضع في موضعه حرف «النون»، وأحيانًا قليلة حرف «الراء» ومن أمثلة ذلك في جذور المصرية القديمة المشتركة مع الساميات: اللام النافية ولام الملك ولام الاتجاه، المعبر عنها في المصرية القديمة بالحرف «نـ» ولفظه «لب» العربية العبرية الآرامية بمعنى القلب والفؤاد المعبر عنها في المصرية القديمة باللفظ «رب» وغيره كثير.
وإذا كان «لقمان» قد أعيا المستشرقين والمفسرين البحث عمن يكون، وليس في القرآن والحديث الصحيح ما يدل عليه، فليس شخص لقمان هو الذي يعنينا بالدرجة الأولى في مباحث هذا الكتاب الذي نكتب، وإنما الذي نهتم له فحسب هو معنى هذا الاسم «لقمان» وتفسيره من القرآن بالقرآن، مقصدنا الأول في هذا الكتاب. والقرآن كما سوف ترى يفسر هذا الاسم على أصل عربي، فتقطع بعربية الاسم والشخص، وسبحان العليم الخبير.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/219]
ليس معنى الجذر العربي «لقم» هو «البلع» كما يبدو لك للوهلة الأولى، وكما استشعر المفسرون الذين وصفوه بعظم الشفتين مجانسة على ما فهموه من معنى «لقمان». وقد ظنوه كما ترى زنة مبالغة من «لقم» فهو صنو «تلقام»، «تلقامة» يعني «عظيم اللقمة»، وهذا يحتاج إلى سعة الفم وغلظ الشفتين. وقد جرهم هذا الفهم على ما أرجحه أنا إلى التورط دون دليل في القول بسواده ونوبيته أو سودانيته، يعنون «زنجيته»، لشيوع غلظ الشفتين فيهم.
ولكن معنى «لقم» الرئيسي على أصله ليس كذلك، وإنما هو بمعنى سده فأحكم سداده حتى غص به. تقول من هذا: لقم الطريق، يعني سد فم الطريق على من يريد الخروج منه. وأيضًا: ألقمه حجرًا، يعني أسكته وأفحمه، والحجر هنا للتقوية، لأن «ألقمه» بذاتها كافية. وليست «لقم» بذاتها يعني «بلع» كما ظن ذلك المستشرق وأضرابه، وإنما اللقم هو الأخذ بجمع الفم، أعني ملء الفم، ويجيء البلع بعد ذلك. واللقمة على ما يسد الفم سدًا، أي التي تملؤه. ولا تزال «اللقمة» لقمة ما بقيت بالفم لا تجاوزه إلى «البلعوم». والتقم الطفل ثدي أمه، من هذا، فهو لا يبتلعه، ولكنه يأخذه بجماع فيه.ومن هذا أيضًا قوله عز وجل في يونس: {فالتقمه الحوت وهو مليم} [الصافات: 142]، ليس معناها ابتلعه، كما تجد في بعض المعاجم ومنها «المعجم الوسيط» الصادر عن مجمع اللغة العربية بمصر، وإنما معناها أن الحوت أخذ يونس بملء فيه، أي كان يونس للحوت لقمة امتلأ منها فوه، ثم جاء الابتلاع بع ذلك فصار في بطن الحوت، فهو مكظوم: {ولا تكن كصحاب الحوت إذ نادى وهو مكظوم} [القلم: 48]، أي مضيق عليه مكتوم. حدث هذا في بضع ثوان، ريما استجمع الحوت عضلات بلعومه لابتلاع يونس بعد التقامه، فلا ابتلاع إلا بعد التقام. ولكنه التصوير الفني المعجز الذي عهدته في القرآن، لا يريد أن تفوتك اللحظة الهائلة: لحظة التقام الحوت يونس.
والعامية المصرية تبدل من قاف «لقم» في معنى الكظة والاكتظاظ، كافًا، تقول منه بالعامية المصرية «اتلكمت»، «ملكوم» وأصلها الفصيح «ملقوم» والمعنى «كظظت» فأنا «مكظوظ»، لا «ابتلعت» ولا «مبلوع». كما تجد نظير هذا في تلك الحلواء الشامية، «اللكوم» («الملبن» في مصر)، وأصلها الفصيح «اللقوم» من اللقم، فهي «اللاقمة»، سداد الفم، وربما سداد النفس أيضًا من شدة حلوها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/220]
أما العبرية والآرامية فقد أميت فيهما الجذر العربي «لقم» وإن بقيت أثارة منه بالمعنى الذي ذكرناه، السد والانسداد، في عبرية التوراة، وهي لفظة «لقوم» (سفر يشوع 19/ 33) اسم موضع لسبط نفتالي، يفسر علماء التوراة معناها من الجذر العربي «لقم» بمعنى سداد الطريق، فيقولون أن لقوم = الحصن، الحائل المانع.
أما «الحكيم» في العربية فهي بمعنيين: الذي يحكم هوى نفسه أي الذي يعقل نفسه عن الهوى، والآخر هو الحكيم قائل الحكمة، يحكم قوله فيسد على سامعه منافذ القول، لا مقولة بعده لقائل، الذي أسكت خصمه وأترج عليه، يعني سد فمه، أي ألقمه، ويقول العرب كظ فلان خصمه يعني ألجمه حتى لا يجد مخرجًا، وكظه بمعنى ألقمه.
وأصل معنى الجذر العربي: «حكم» هو المنع والصرف، ومنه «الحكمة» بفتحتين، تلك الحديدة في فم الفرس التي تلجمه بها فتحكمه عن السير على هواه، وأحكم الفرس يعني جعل للجامه حكمة. وأصل الحكم والحكمة من هذا. وكل معاني الحكم والحكمة متفرعة على هذا الأصل، مجازًا وتوسعًا، فتجيء الحكمة بمعنى العلم والفقه، لأن العلم شرط في الحكمة، لا حكيم إلا عالم قد أحكمه العلم عن اللغو، ويقال من الصمت حكمة، والمراد صمت العالم، لا صمت الجاهل، ويقال أحكمه بمعنى أتقنه، والأصل ضبطه، وهكذا.
والاسم «لقمان» في القرآن من هذا: إنه الحكيم قائل الحكمة، اللاقم سامعه، أوتي الحكمة، يعني فصل الخطاب، لا يملك سامعه على قوله تعقيبًا، فقد «ألقمه».
وليست «لقمان» - وهي عربية كما ترى – ممنوعة من الصرف في القرآن للعجمة وإنما منعت من الصرف للعلمية المزيدة بالألف والنون، شأنها شأن «عثمان» التي لا يختلف على منعها من الصرف أحد.
وإذا كانت العرب عصر تصنيف تفاسير القرآن لم تعرف في «لقمان» معنى الحكيم قائل الحكمة، فهذا كما تعلم من أساطير العرب في «لقمان بن عاد» لأن لقمان عند العرب قديم – بل متطاول القدم – فهو من العربية الأولى، عربية عاد قوم هود.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/221]
قال عز وجل يفسر «لقمان» بالمرادف المطابق اللصيق: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر الله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد} [لقمان: 12].
فسر القرآن إذن «لقمان» بمعنى الحكيم قائل الحكمة. وقد غلب لفظ الحكيم على لقمان، حتى ليكاد يغني ذكر أحدهما عن الآخر، فهو علم عليها وهي عليم عليه.
وأصل معنى الشكر في اللغة الامتلاء من رى أو سمن، ثم استعير للامتلاء من النعمة. ثم استعير من بعد لظهورها، وأيضًا إظهارها بعرفانها والثناء عليها. وهذا المعنى الأخير هو وحده المشهور المعروف المستعمل في العربية المعاصرة.
والشكور من الإنسان والحيوان والنبت، هو الذي تبدو عليه آثار النعمة لا يكتمها، وإنما يبديها ويحدث بها. وفي الآية التي تلوت توًا جناس معنوي خفي بديع: أي لقمت يا لقمان الحكمة حتى ملئت منها، فعظ بها. فكانت عظات لقمان لابنه في القرآن لباب الحكمة. وسبحان العزيز الوهاب، يؤتي الحكمة من يشاء، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
والحمد لله رب العالمين).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 214-222]