مقدمة الجزء الثاني
بقلم: المؤلف
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( في 18 يناير سنة 1944 أصدرت «دار الهلال» الجزء الأول من كتابي «من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن»، وها هي اليوم تصدر الجزء الثاني المتمم لهذا الكتاب.
ورغم الجهد الضخم الذي بذلته «دار الهلال» في إخراج هذا الكتاب في الثوب اللائق بموضوعه، فقد وقعت في طباعة الجزء الأول هنات لا يخلو من مثلها اليوم كتاب. وترد في نهاية هذا الجزء الثاني قائمة بأهم تلك الأخطاء مع تصويباتها.
ولا يفوتني التنويه بأنني كنت قد فرغت من كتابة هذا البحث منذ نحو ثلاث سنوات، وبالتحديد في 12 أبريل سنة 1991، على أساس أن يصدر كله في مجلد واحد، ولكن كبر حجم الكتاب الذي تجاوز سبعمائة صفحة، وموضوعه المتخصص، كانا وراء تأخري في نشره بسبب تخوف الناشرين الذين عرضته عليهم من نشر كتاب كهذا لمؤلف غير معروف. ولكن «دار الهلال»، الرائدة في هذا المجال، قبلت مشكورة بركوب المخاطرة عندما عرضت عليها مسودة الكتاب في ديسمبر سنة 1993، إلا أنها اشترطت إصداره في جزأين تيسيرًا على القارئ.
وقد ترتب على قسمة الكتاب جزأين أن فات قراء الجزء الأول الاطلاع على قائمة المراجع في ذيل الكتاب، كما فاتهم أيضًا الاطلاع على الفصل الأخير «في ختام البحث» الذي يشرح قصة هذا البحث، وكيفية إعداده، ونتائجه، كما يشرح الأساس الذي استندت إليه في انتقاء مراجعه. ولو أتيح الكتاب كله دفعة واحدة للقارئ لرد جزؤه الثاني – الذي بين يديك – على كثير من النقدات التي تفضل بها الدكتور الطناحي في تقديمه للجزء الأول، وشاطره إياها الدكتور محمد رجب البيومي في مقاله بعدد المصور 3618 بتاريخ 11 فبراير سنة 1994.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/3]
والذي ينبغي التنبيه إليه أن موضوع هذا الكتاب هو تفسير العلم الأعجمي في القرآن بالقرآن نفسه، ومن ثم فهو يدور على محورين اثنين فقط: (1) تأصيل معنى العلم الأعجمي في لغة صاحبه، وهذا يحتاج فحسب إلى مباحث لغوية متخصصة في مصادرها «الأعجمية»، لا شأن لها بالمصادر العربية القديمة والحديثة التي تناولت تفسير هذا الاسم الأعجمي أو ذاك ولم توفق لسبب بسيط هو عدم معرفة أصحابها بتلك اللغات الأعجمية التي أشتق منها العلم الأعجمي في القرآن، ومن ثم فلا فائدة من استئناس المؤلف بها. (2) استخلاص اللفظ القرآني أو العبارة القرآنية المفسرين لمعنى الاسم الأعجمي العلم على منهج المؤلف في هذا الكتاب، لا حاجة بالمؤلف إلى كتب التفسير وكتب الحديث، وإنما كان استصحاب المؤلف لتفسير «القرطبي» على سبيل التمثيل فحسب لما قاله علماء التفسير في معاني الأعلام الأعجمية في القرآن وكلها حين تتصدى لتفسير الأسماء الأعجمية تفسر الأعجمي بالعربي. وتفسير القرطبي أكثر من كاف لأغراض هذا التمثيل.
قال الدكتور الطناحي أيضًا أنني لم أستأنس بالمؤرخين العرب الذين كتبوا في الترتيب التاريخي للأنبياء والمدد التي بينهم. والواقع أن هؤلاء المؤرخين حين كتبوا فيما لم ينص عليه القرآن والحديث الصحيح إنما كانوا يستمدون رأسًا من مرويات أهل الكتاب، لا مصدر لهم غيرهم. والذي فعله المؤلف أوثق وأحصف، لأنه فيما لم ينص عليه القرآن والحديث الصحيح يرجع رأسًا إلى «العهد القديم»، مصدر كل مرويات أهل الكتاب، لا إلى مستنسخات من أقاصيص أهل الكتاب، ومنهم الذين وصفهم الحق سبحانه بأنهم «لا يعلمون الكتاب إلا أماني». على أن المؤلف لم يأخذ كل نصوص العهد القديم بالتسليم بل رد كثيرًا منها من مثل المدة التي بين آدم ونوح عليهما السلام، والتي بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، على نحو ما أورده في التقديم لمبحث نوح.
أما أن المؤلف عم القول بأن «المصادر الأولى» - أي العربية – تهيبت تكذيب التوراة فيما نصت عليه من أن الذبيح هو اسحق لا إسماعيل، وأن الحافظ ابن كثير على سبيل المثال انتصر للرأي القائل بأن الذبيح هو إسماعيل لا اسحق، فليس هذا بصحيح، لأن المؤلف قال بالنص (صفحة 286 سطر 1 من الجزء الأول): «أن جمهرة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/4]
من المفسرين قالوا أن الذبيح هو اسحق ... ولم يقل كل المفسرين. وبعد أن ذكر المؤلف أسانيده في تأييد القول بأن الذبيح هو إسماعيل لا اسحق، عقب في آخر الصفحة 287 من الجزء الأول بقوله: وقد نبه على هذا كله أو معظمه أجلاء المفسرين الذين قطعوا بأن الذبيح هو إسماعيل. أما استشهاد ابن قيم الجوزية بنص القرآن على اجتماع يعقوب في البشارة باسحق تنبيهًا على استحالة تصديق إبراهيم الرؤيا بذبح اسحق صبيًا لم يولد له بعد يعقوب، فهذا يصلح يج دال خصومه من المفسرين القائلين بأن الذبيح هو اسحق، ولا يصلح في مواجهة أصحاب التوراة. أما المؤلف فقد استشهد من التوراة على التوراة التي جاء فيها أن الله بشر إبراهيم قبل سنة من مولد اسحق بابن يولد له منجاب كثير النسل، إثباتًا لتناقض الكاتب مع نفسه. حيث لا ذكر في التوراة لاجتماع يعقوب مع اسحق في البشرى باسحق.
أما القول في استدلالي بحديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من قوله للنسوة اللاتي تبعن الجنازة: ارجعن مأزورات غير مأزورات، لأن «مأزورات» في هذه العبارة جاءت على الازدواج الصوتي فحسب، وليست من المطرد المنقاس، ومن ثم فهو لا يصلح للتنظير بأن «آزر» و«وزر» سيان في مبحث «آزر»، فالحق أنني لم أستدل بهذا الحديث ولم أنظر به، وإنما أوردته على سبيل الاستئناس فحسب. أما الذي استدللت به فهو أن «الأزر» من معانيه «الظهر»، وأن «الآزر» - اسم أبي إبراهيم –في صلح بمعنى المأزور المحمول على أزره أي على ظهره، وقلت بالنص «وإن لم يسمع من العرب».
قال الدكتور الطناحي أيضًا أن المؤلف يعمم القول بخطأ المفسرين واللغويين في فهم عبارة القرآن «إن إبراهيم كان أمة» [النحل: 120] بمعنى الرجل الجامع لخصال الخير «لا بمعنى القدوة أو الإمام كما فسرها المؤلف». والحق أنني بعضت ولم أعمم، بل قلت بالنص في حاشية الصفحة 274: قالت بعض التفاسير كما قالت بعض المعاجم. إلخ.
أما أني خالفت قواعد النحو بقولي أن الاسم العلم لا يوصف إلا على البدل أو الخبر ولا يوصف على النعت لأن النعت يخصص والاسم العلم متخصص بذات علميته، فهذا الفعل جديد لم يقل من قبل، وكان حقه أن يقال: الفيصل الحاسم بين البدل والنعت أنك في البدل تستطيع تقديم البدل على المبدل منه في مثل «زيد التاجر»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/5]
و«التاجر زيد» دون إخلال بالمعنى من أي وجه، ولكنك لا تستطيع تقديم النعت على المنعوت في مثل «النجار الأمين» و«الأمين النجار»، وإنما يصح ذلك فقط في الاسم العلم.
وأما استيحاش الدكتور الطناحي لعبارة «موسيقى القرآن» التي استخدمها المؤلف ضمن «أوشاب» أي «شوائب» شابت اسلوبه «العذب المصفى» فعزائي هو قول الدكتور الطناحي أن هذه الأوشاب باتت كالعدوى المهلكة التي تتسلل إلى «الأساليب الشريفة». مصداق ذلك أن الدكتور البيومي الذي أيد الدكتور الطناحي في «نقداته الصائبة» استخدم هو نفسه عبارة «موسيقى القرآن» في مقاله عن الكتاب بمجلة المصور غير مبال، على أن الموسيقى التي أعنيها ليست هي الطبل والزمر والضرب بالدف وعزف القيان، وإنما هي النغم والجرس والنم والاتساق جميعًا، لا يصلح في موضعها «النظم والاتساق» فقط كما اقترح الدكتور الطناحي: موسيقى القرآن تتحرى الحرف قبل اللفظ، تلفظ الحوشي وتتحرى الجمال، وما ذكره المؤلف في الفصل الأول من الكتاب عن خصائص لغة القرآن كاف في تبيان معنى «الموسيقى» الذي أراده المؤلف، ففي الموسيقى ما يقرع السمع عنيفًا، وفيها أيضًا الدمث اللين، وما بين بين، ولكل مقام في القرآن مقال. وأما أن الموسيقى لفظ أعجمي، فقد أفاض المؤلف في كتابه في قواعد الاستعارة من اللغات الأعجمية وأنها مقبولة مشكورة حين الحاجة إليها وتعذر الإتيان بلفظ من العربية مساو تمامًا للفظ الأعجمي المستعار في معناه، بل لم يتحرج القرآن نفسه من هذه الاستعارة على نحو ما ضربناه من أمثلة من القرآن.
أما الدكتور البيومي في مقاله بمجلة المصور، فقد زاد من عنده ثلاث «نقدات» أولها أنني حين عرضت في الجزء الأول لفتنة داود بامرأة ضابطه كنت أنقل عن إسرائيليات فندها الزمخشري في تفسيره، وأنني لو اطلعت على هذا التفسير لنزهت داود عليه السلام عن ذلك. والواقع أنني اطلعت على ما قاله الزمخشري، ولا أوافق عليه لأنه مفتعل مصنوع لا سند له، وإنما تعلق الزمخشري بمقولة عصمة الأنبياء فأجهد نفسه في تأويل الآيات 21 – 26 من سورة ص على نحو يتصادم مع منطوق الآيات، فقال إنما عوتب داود لأنه انشغل بالعبادة عن مجلس القضاء لا من أجل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/6]
افتتانه بامرأة، وهذا يدفعه قول الحق سبحانه: {وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} [ص: 24]. ولست من القائلين بأن عصمة الأنبياء مطلقة، وإنما هي فحسب في البلاغ عن الله عز وجل. ولم يستمد المؤلف مقولته من إسرائيليات دون تمحيص كما قال الدكتور البيومي في مقاله، وإنما يستمد من النص القرآني ذاته. ولو صبر الدكتور البيومي لقرأ في الجزء الثاني في مبحث «سليمان» ما يثلج صدره في هذه القضية، التي محصناها تمحيصًا.
تابع الدكتور بيومي أيضًا الدكتور الطناحي في قوله أنني لم أستفد من المصادر العربية، فقال على سبيل المثال أنني لم أستفد من «مفردات» الراغب الأصفهاني، لأنه في حديثه عن الأعلام الأعجمية يصلح أن يكون عمادًا للمؤلف في كثير من اتجاهاته ولو رجع إليه لوجد فيه العضد والمعين. وقد سبق أن ذكرت أن تلك المصادر جميعًا لا فائدة منها في تأصيل مباحث هذا الكتاب القائم ابتداء على تأصيل معاني الأعلام الأعجمية في القرآن استنادًا إلى لغة صاحب الاسم العلم، لا إلى أقوال المفسرين وعلماء العربية الذين لا يملكون أدوات هذا التأصيل لعدم معرفتهم بتلك اللغات الأعجمية. أما ما قاله الراغب الأصفهاني بشأن الاسم «آدم» - وهو اسم عربي يخرج عن مقاصد الكتاب كما ذكرت – فلا فائدة فيما زاده على ما جاء في القرطبي، أعني تفسيره الاسم على معنى الخلق من عناصر وقوى متفرقة، أو لما طيب به من الروح المنفوخ فيه، لأن الاسم «آدم» مفسر في القرآن في منهجنا في هذا الكتاب بأنه من التراب والأديم، على نحو ما ذكره القرطبي وغيره، وهذا كاف.
قال الدكتور البيومي في ثالثة «نقداته» أنه لا يتفق مع المؤلف في قوله أن أهل مدين هم أصحاب الأيكة ورتب الدكتور البيومي اعتراضه في الاحتجاج لمن قالوا أن مدين غير أصحاب الأيكة على أن القرآن قال {وإلى مدين أخاهم شعيبا} بينما قال في أصحاب الأيكة {كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون} ولم يقل (أخوهم شعيب)، فهو إذن ليس أخاهم، وإنما غريب عنهم. وليس بلازم. ليس بالدليل المرجح إن لم يكن ملزمًا كما قال الدكتور البيومي. على أن المؤلف لم يبن مقولته في التوحيد بين مدين وأصحاب الأيكة إلا على نقطتين اثنتين: وحدة الرسول، أي شعيب، وثانيًا وهو الأهم، أن شعيبًا يأخذ على هؤلاء ما يأخذ على أولئك،
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/7]
خسرانهم الكيل والميزان وبخسهم الناس أشياءهم وعثوهم في الأرض مفسدين (الآيات 177 – 189 من سورة الشعراء). ومع وضوح حجة المؤلف فقد قال بالنص في ختام كلامه: نقول هذا ولا نخوض في غيب الله، فالله عز وجل بغيبه أعلم (الصفحة 251 من الجزء الأول).
على أنني مهما قلت لا أستطيع أن أفي الأستاذين الدكتور الطناحي والدكتور البيومي حقهما من الشكر على إشادتهما الكريمة بالكتاب وكاتبه، فلا يسعني إلا أن أقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وكل أمي أن يقابل الجزء الثاني من الكتاب – وهو بين يديك – بما قوبل به الجزء الأول من حفاوة وتكريم.
والحمد لله رب العالمين
المؤلف
محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 3-8]