(53) يحيى:
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (53) يحيى
اخترنا عنوانًا لهذا الفصل كما رأيت: «المصدق والبشير»، وهما أبرز أعلام هذا الفصل، وأيضًا أبرز أعلام المسيحية أجمع الذين نختتم بهم هذا الكتاب.
أما «المصدق» فهو يحيى عليه السلام، المصدق بعيسى الذي هو كلمة من الله، لقوله عز وجل في يحيى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} [آل عمران: 39].
وأما «البشير» فهو المسيح ابن مريم، عيسى صلوات الله عليه، المبشر بخاتم النبيين، لقوله عز وجل: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [الصف: 6].
وفي الأناجيل التي بين يديك أن مريم عليها السلام حملت بعيسى عقيب حمل خالتها المعجز بيحيى، فكان يحيى وعيسى ابني خؤولة متعاصرين، بعث يحيى أولاً ثم أعقبه عيسى، فشهد كل منهما للآخر بالنبوة، يعني كان يحيى مصدقًا بعيسى على نحو ما تقرأ في القرآن. ولكنك لا تقرأ في الأناجيل التي بين يديك بشارة من المسيح باسم خاتم النبيين صريحًا، محمدًا أو أحمد، وإنما تقرأ في الأصول اليونانية لتلك الأناجيل أن المسيح بشر بإنجيل الله (مرقس 1/ 14) Kerusson to euaggelion tou theou (لا بملكوت الله كما تقول الترجمة العربية في نفس الموضع كما مر بك). وأنت تعلم بالطبع أن eudaggelion اليونانية (المحلاة في النص اليوناني بالبادئة eu- ومعناها الخيرة) تفيد معنى «الرسول»، فتفهم كمسلم – على ما يأتي في موضعه – أن «إنجيل الله» الذي بشر به عيسى في هذا
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/233]
النص اليوناني euaggelion tou theou هو «رسول الله» الخيرة، أي صفوة الرسل وإمامهم، محمد بن عبد الله، الذي ختمت به النبوة والرسالة، صلوات الله وسلامه على جميع رسله وأنبيائه، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ولكن الذي نتوقف عنده في هذا السياق هو إعجاز النبوءة التي تضمنتها البشرى بيحيى عليه السلام ولم يولد بعد عيسى ولم يحمل به: إنها بشارة صريحة لزكريا بمولد عيسى عليه السلام، أسبق من بشرى جبريل لمريم بمولده، وأيضًا إنباء بأن محور رسالة يحيى هو التصديق بعيسى، كالذي كان، وسبحان علام الغيوب. ولا تفوتك تلك الصياغة المعجزة التي في قوله عز وجل «مصدقا بكلمة من الله»، فهو كلمة منه سبحانه، لا كلمة الله، ولا «الكلمة» على التعريف الذي يفيد الحصر، كما يخطيء فيها كثيرون، مسلمون وغير مسلمين، عرب وغير عرب، والفرق كما ترى بين المعنين جدٌّ كبير.
تجيء «يحيى» عربيًا على مضارع المفرد المذكر الغائب من الجذر العربي «حيا» فمعنى الاسم «يحيى» الذي في القرآن هو إذن – عربيًا - «الذي يحيي».
وللجذر «حيا» العربي (ويرسم أيضًا «حيى/ يحيى» كما يرسم «حيا/ يحيا») معنيان: المعنى الأول من الحياة نقيض الموت، تقول: لن أنسى لك هذا الصنيع ما حييت! يعني ما دمت حيًا لم أمت. والمعنى الثاني للجذر العربي «حيا» من الحياء بالهمزة، أي الاحتشام. تقول بهذا المعنى الثاني: حييت منه، تريد استحيت وخجلت. وأصله – أي الحياء – من الانقباض والانزواء، ومنه قيل للأفعى حية، لأنها تنقبض حين تستدير على نفسها كهيئة القرص.
والراجح عندي أن حيا حياءً لا حياة، مبدل من الجذر العربي الآخر «حوى» بالواو، الذي يقال منه: تحوت الحية، أي تجمعت واستدارت، فهي في الأصل «حوية» أبدلت «حية».
والذي يعنينا الآن هو: إذا كان الاسم «يحيى» في القرآن من الجذر «حيا» فبأي المعنيين هو، أبمعنى الحياء أم بمعنى الحياة؟
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/234]
نص القرآن على أن الاسم «يحيى» من الحياء، لا من الحياة، بقوله عز وجل {إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا} [آل عمران: 39]، فهو عليه السلام الحيي بمعنى الحصور، أي الحيي الذي يحيا حياءَ.
ولفظة الحصور في اللغة لها وجهان: الذي يكف نفسه عن شهوة النساء مع وجود القدرة، والثاني هو المكفوف عن النساء بآفة تقطع فيه هذه الشهوة. ويحيى بالمعنى الأول، لا بالمعنى الثاني، لأنه الذي يحيا، والذي يحيا إنما يحيى حياءً لا عجزًا، والعنين المجبوب لا يجد الشهوة أصلاً حتى يحيا ويعف. وما كان لنبي أن تكون به آفة، فما بالك بآفة يسميه الله بها فضلاً وتشريفًا، على ما مر بك من أن الله عز وجل هو الذي سمى، على غير سابقة سمعت في أعلام العبرانيين: {يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} [مريم: 7]. بل قد تقدمت على صفة «الحصور» في يحيى صفة «السيد»، في قوله عز وجل {وسيدا وحصورا} [آل عمران: 39]، وما كانت الناس لتسود عنينا أو مجبوبًا، حاشا لأنبياء الله أن تكون. والذي قلناه الآن بمنطق اللغة فحسب، أي أن الذي يحيا إنما يحيى حياء، كاف بذاته لقطع دابر إسفاف الرواة – الذي حكاه عنهم القرطبي رحمه الله في تفسيره الآية 39 من سورة آل عمران – ولا عليك من إسفاف الرواة.
بل كان يحيى صنو عيسى عليهما السلام: كلاهما بعث في ريعان الشباب ورئيه وحسيناه. ولم يلبثا في قومهما إلا قليلاً حتى قبضهما الله إليه، لا زوج ولا أبناء، فقد شغلا بصر الرسالة عن هذا وذاك. وربما قلت عن الله شاء برحمته ألا تكون لأيهما ذرية يفتتن بها الناس، أو كي لا يقال إن اللاهوت في المسيح على قول من قال يمنع من إتيان النساء، فقال له قد كان يحيى أيضًا على هذا المثال، أي كان يحيى وعيسى كلاهما حصورًا، لا يحيى وحده، وهذا مقطوع به عند المسيحيين جميعًا بلا خلاف، ودعك من تخرص المُجان بأقاصيص يحيى وسالومي، وخوضهم في المسيح والمجدلية، فهذا من عورات هذه الحضارة، التي تطاولت فاستباحت باسم «حرية القول» الاجتراء على مقام النبوة والنبيين.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/235]
هذا هو اسم «يحيى» عليه السلام في القرآن، عربي ليس فيه شبهة عجمة، جاء بصورة مضارع المفرد الغائب المراد منه اسم الفاعل كما جاءت يثرب ويزيد، فهو الحيي حياء. وقد عجب علماء المسيحية لمجيء القرآن بهذا الاسم، وهو عندهم «يوحنا» كما مر بك. ولكن «يوحنا» هذه نفسها أيضًا منكره عند آل زكريا أبي يحيى، الذين راجعوه في تسميته بالاسم يوحنا لأنه عندهم اسمٌ لم يتسم به من قبل أحد في عشيرتهم كما يروى لوقا في إنجيله، وقد مر بك. وقد عجبت أنت أيضًا لإنكارهم هذا الاسم «يوحنا»، رغم فشوه في أعلام العبرانيين بصورة أخرى هي «يوحنان». وعلماء المسيحية يقولون لك أن «يوحنا» هي نفسها «يوحنان»، دليلك في هذا أنهم في ترجماتهم الأناجيل إلى العبرية لا يقولون قط «يوحنا»، وإنما يقولونها على أصلها العبري «يوحنان». وهم أيضًا يفسرون معنى «يوحنا» بنفس معنى «يوحنان»، البادئة المشتركة فيهما «يو» مختصر «يهوا» اسم الله في العبرية، أما «حنان» و«حنا» فهما كلتاهما مصدر من الجذر العبري – الآرامي «حنن» (نفس الجذر العربي «حن») والمعنى أنه «حنان من الله»، تمامًا كالعلم العبري الآخر «حنانيا»، أي هو يو + حنان، قدم فيه اسم الله عز وجل على التعظيم.
ترى أكان عجب آل زكريا لهذا الاسم «يوحنا» لأنهم لم يدركوا أن «حنا» معناها «حنان»؟ كيف، وعندهم «حنا» بمعنى «حنان» (وترسم أيضًا في الترجمات العربية «حنة») اسم خالة يحيى أم مريم عليها السلام؟
لا منطق في هذا القول بالطبع. وإنما كان عجب آل زكريا من هذا الاسم «يوحنا» حين أملته عليهم اليصابات أم يحيى، أنهم سمعوه منها بنطق مغاير لم يطرق آذانهم من قبل: سمعوه «يوحنى» بالكسر في الياء على الإمالة، لا بالفتح، تماما كما أثبتها بالكسر في الياء كتبة الأناجيل في الأصل اليوناني Ioannes يُوَنّس، لا Ioannas يُوَنِّس (السين في الحالتين هي سين الرفع اليونانية). ولا يصح لك العدول عن هذا النطق الإنجيلي الأصلي في لغته الأصلية، فهو العمدة في هذا الباب – أعني الأسماء الأعلام بالذات، فهم رواة المسيحية الأوائل، سمعوا أو عاينوا، بل قد كان منهم – لا سيما متى الحواري ومرقس تلميذ بطرس رئيس الحواريين – من عاصروا يحيى عليه السلام وسمعوا منه ونادوه. نعم، قد ذهبت حاء «يوحنى» في الرسم اليوناني، لأن اليونان لا يستطيعون الحاء، ولكن ما العلة في عدولهم عن المد بالألف إلى الإمالة
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/236]
بالكسر، وقد قالوا في يونس Ionas ولم يقولوا Iones؟ لا علة بالطبع إلا أنهم سمعوه هكذا: يوحنى لا يوحنا.
أما الذي نتوقف عنده لنسبح معًا العليم الخبير القائل بكل اللغات، فهو أن «يوحنى» هذه (التي تستطيع أن ترسمها أيضًا «يحنى») بالكسر على الإمالة في آخره لا بالفتح، تفيد في العبرية – الآرامية معنى «الله أحصر» فهو الحصور التي في القرآن.
في عبرية التوراة، وفي العبرية المعاصرة، وفي الآرامية أيضًا، الجذر «حنا» غير مشدد النون، تقول منه عبريًا وآراميًا على سبيل المثال: «حنا على عير» («عير» يعني المدينة)، أي ضرب عليها الحصار. فهو بمعنى حصره وصراه وضيق عليه.
والمشدد من هذا (أي زنة فعل العربي) هو «حنى» بكسر الحاء في العبرة وبفتحها في اللهجة الآرامية التي غلبت على ألسنة الناس في ربوع فلسطين منذ ما قبل عصر المسيح بثلاثة قرون على الأقل. والمعنى هو «شدد الحصر عليه».
على هذا يكون معنى «يو + حنى» (بإضافة «يو» مختصر اسم الله عز وجل في العبرية) هو «الله أحصر» بمعنى «الذي أحصره الله»، فهو الحصور التي في القرآن.
والذي يدلك على أن «يوحنا» لا تصح عبريًا بمعنى «يوحنان» الاسم العلم الفاشي في أعلام العبرانيين، أن علماء العبرية المسيحيين لم يستجيزوا «يوحنا» في موضع «يوحنان» عندما ترجموا الأناجيل اليونانية الأصل إلى العبرية، بل رفعوا «يوحنا» ووضعوا في موضعه «يوحنان». أعني أنهم فهموا «يوحنا» بمعنى «يوحنان» فترجموا «يوحنا» إلى «يوحنان» عبريًا بعبري، فهم قد قرءوها في النص اليوناني «يوحنى»، فاستشكل عليهم المعنى كما استشكل من قبل على آل زكريا يوم أملته عليهم اليصابات على الحرف الذي سمعه زكريا من الملائكة في المحراب، فقربوه إلى
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/237]
«يوحنا» وترجموا «يوحنا» إلى يوحنان، العَلَمِ العبرانِّي المألوف لهم، تمامًا كما فعل السريان في أناجيلهم التي ترجموها كما تعلم عن اليونانية مباشرة، ولكن المنطق السرياني يستسيغ «يوحنا» لختامها بألف المد، التي تبدو كأنها أداة التعريف الآرامية كما مر بك، فأخذوها على أنها تَرخيم «يوُ + حَنانَ + أ»، تؤول إلى «يوحننا» فإلى «يوحنا».
ولعلك تجد معنى الحصور الذي أحصره الله في قول المسيح عليه السلام: «فقال لهم ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطى لهم. لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم. ويوجد خصيان خصاهم الناس. ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل» (متى 19/ 11 – 12) وهذا من معنى «يوحنى» أي يحيى علي السلام جد قريب، ولكن لم يلتفت إليه في تفسير معنى هذا الاسم أحد.
ولكن القرآن المعجز الذي علم هذا كله من قبل، جاء بالاسم «يحيى» على الترجمة لمعنى الحصور الذي في «يوحنى» التي في الأناجيل اليونانية. ولم يفته أيضًا معنى الاسم الشارع عند معاصريه: يوحنا = يوحنان = حنان من الله. فقال عز وجل: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا} [مريم: 12 – 13] وقد فاتت على مفسري القرآن «حنانًا من لدنا» هذه التي هي طبق الأصل من «يوحنان» المبدلة من «يوحنا»، فقد روى القرطبي في تفسيره للآية 13 من سورة مريم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: «لا أدري ما الحنان»، يعني لا يدري موضعها ووجه دخولها في الآية، أما أنت فلا أحسب أنها تفوتك الآن، بل ولا أظنها تفوتك أيضًا عبارة «وكان تقيا» في الآية، وهي من معنى يحيى الحي الحصور قريب، وسبحان العليم الحكيم.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 2/ 233-238]