دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م, 10:23 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,754
افتراضي

(2) الحياة السياسية لحضارة الفرس والروم قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثرها على اللغات
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (2)
بدء نزول القرآن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ليلة القدر من رمضان عام 13 قبل الهجرة (609م) مطلع القرن السابع للميلاد، قبيل انقضاء ستة قرون على رفع المسيح عليه السلام، ليس بينهما نبي.
كانت حضاراتُ العالم القديم كلها آنذاك قد تهاوت، وآذنت الدنيا بميلاد جديد.
وهي قد تهاوت لأن العمالقة أكل بعضهم بعضًا، وكانت ساحة الصراع هي هذا الشرق الأدنى القديم.
لم يكن الصراع يدور على فكر أو على خطة لحياة، فقد تداخلت الأفكار والمذاهب، وتشاكلت الضلالات هنا وهناك، وإنما كان الصراع يدور على الأسلاب والغنائم، وكان الأسلاب والغنائم هم أهل هذا الشرق الأدنى القديم.
لم يكن لدى الغزاة شيء يفتحون به على أهل الأقطار المغلوبة، ولم يبق لدى المغلوبين شيءٌ يقدمونه للغزاة.
ولكن الصراع بين العمالقة الآريين الثلاثة، الفرس والإغريق والرومان، أو اختصارًا بين الفرس والروم، لا ينفك يدور، لا تضع الحرب أوزارها إلا لالتقاط الأنفاس بضع سنين. وهي حرب عبث، سواءٌ على التاريخ قامت أم لم تقم، فالغالب اليوم مغلوب غدًا، لا يعنيك أي الفريقين أدال من الآخر، ولمن كانت الدائرة في الحرب اليوم، فالدائرة على الجميع: إنهم يخربون بيوتهم بأيديهم ويأتون على ما بقى من أطلال حضارتهم. لا تهتم، فعلى الأنقاض سيبنى صرح جديد. تجد إشارة إلى هذا في قوله عز وجل: {الم * غلبت الروم في أدنى الأرض *وهم من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 50]
بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين * لله الأمر من قبل ومن بعد * ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله * ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده * ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 1 – 6].
احتدم الصراع بين الفرس والروم على ما بقي من أطلاق الشرق الأدنى القديم قرونا، بين كر وفر، حتى أجهز عليهم المسلمون في أواسط القرن السابع. ومن قبل، أثخن الروم - إغريقا ورومان – بعضهم في بعض، وأتى القوطُ والجرمان على القياصرة في روما، فارتحلوا شرقًا إلى بيزنطة، قبل قرنين اثنين من ظهور الإسلام.
اختلط الحابل بالنابل في هذه المنطقة من العالم التي شهدت مولد حضارات البشر، ولم يعد هناك فكر جامع، تستند إليه حضارة جامعة، جديرة بالبقاء. لم تعد ثم – رغم ما قد تسمعه من شهيق وزفير – إلا حضارة ماتت أو أوشكت أن تموت. ولم يعد ثم – رغم ما قد تسمعه بين الفينة والفينة من هدير وزئير – إلا أسد هرم، تسلخ جلده، وتثرمت أسنانه، وعشى بصره، يرجو رحمة ربه في ضربة إجهاز تريحه من عذابه.
وكان أن أتى أمر الله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 51]
أما اللغة – موضوعنا في هذا الجزء من الكتاب – فأنت تعرف بالطبع العلاقة بين موات الحضارة ومَوات اللغة، فما بادت حضارة قوم إلا بادت لغتهم، أو ذابت في لغة السادة لتعيش بعضا من حياة، أو تحورت إلى رطانة شائهة هجينة، لا تكاد تُبِين.
متى لم يعد للحضارة فكر تعبر عنه وتعيش عليه، ومثل تدعو إليها وتجاهد من أجلها، فقد خرست الحضارة ولم يعد لديها ما تقول.
إلى هذا آلت اللغات في هذه المنطقة من العالم: تهاوت الحضارة فتهاوت اللغة، ولم يكن في أي من تلك اللغات جميعا كتاب في عظمة القرآن، يعصمها أن تزول.
في مطلع القرن السابع للميلاد كانت اليونانية الفصحى التي تغنى بها من قبل شعراء الإلياذة وكتب بها أمثال أفلاطون وسوفوكل، وخطب بها أمثال بريكليس وديموستين، قد آذنت من قبل بالأفول حوالي مطلع القرن الثالث، ولم يأت القرن السابع إلا وقد آلت إلى يونانية دارجة هجينة، لا على ألسنة العامة فحسب وإنما أيضًا في الفن والفكر والأدب.
أما اللاتينية الفصحى، التي كُتِبَت بها مدونات الفقه الروماني، ونظمت بها إنيادة فرجيل، وخطب بها أمثال شيشرون وقيصر، فقد حذت حذو أختها اليونانية، بنفس الترتيب الزمني أو تكاد، فلم يأت القرن السابع إلا وقد تحورت إلى لاتينية دارجة هجينة، بل قال إلى لاتينيات دارجة هجينة، يلدن من بعد لغات أوربية تقرأ لها الآن، لم يكتمل لها نموها إلا في نحو تسعمائة سنة من نزول القرآن.
لم يبق من اليونانية واللاتينية مطلع القرن السابع للميلاد إلا أثارةٌ من أطلال مجد قديم، تليق بحضارة ذوت، ولا تتسع لحضارة باذخة توشك أن تولد، لتعيش.
تلك الحضارة الباذخة الوليدة كان القرآن شهادة ميلادها، وهو إلى الآن عمود حياتها، وما أوشكت أن تتصدع في مراحل من عمرها إلا لأن أصحاب القرآن أنسوه.
فالحذر الحذر ممن يرفضونه اليوم دستور حياة.
بل في المسلمين اليوم من يعاجزون القرآن، ويختصمونه، ويجادلون فيه، ويحرضون عليه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 52]
بل فيهم – لُعنوا بما قالوا – من يشاقون الله ويسبون رسوله.
بل فيهم – ويا للعار من لا تحمر له أنف، وإنما يسخر قلمه للدفاع عن هؤلاء وهؤلاء بدعوى حرية الرأي والفكر.
ولو شاء الله لمسخهم على مكانتهم.
كفاهم نقمة – بحربهم القرآن – أنهم حرموه.
وكفاهم ذلة أن طمس الله على عقولهم وبصائرهم فلا يرون ما آلوا إليه بذنبهم: رد الله وجوههم في أقفيتهم، وجعل منهم الببغاء والقردة.
ولكن هذا حديث آخر، نتصدى له في كتاب آخر، ليس موضعه هذا الكتاب.
أما في الشرق الأدنى القديم ما بين مصر وفارس، مهبط الرسالات، وموئل الحضارات التي سبقت الفرس والروم، فقد اختلط الحابل بالنابل:
في مصر، تصدعت – بانهيار دولة الرعامسة حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد – حضارة شامخة زهت نحو ألفي سنة (3200 ق م – 1200 ق م)، وآذنت بأفول لا رجعة منه: تعاور مصر الغزاة من شرق وغرب، ومن شمال وجنوب، نهبا للرائح والغادي، جائزة لمن غلب، إلا هبات هنا أو هناك، وجذوة خامدة تريد أن تتوهج وسرعان ما تنطفئ، حتى غدت مصر ولاية فارسية منذ 525 ق م على يدي قمبيز وخلفائه، ثم إقطاعة يونانية لخلفاء الاسكندر (333 ق م) ثم ولاية رومانية (30 م) لقياصرة في روما، ارتحلت تبعيتها معهم إلى بيزنطة (395م)، ولم يبق من المصريين إلا الحجر، وإلا مياه النيل تجري تهمهم بما كان:
{كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان: 25 – 29].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 53]
ترى هل بقيت للمصريين في مطلع القرن السابع للميلاد أثارة من لغة حضارتهم الأولى التي دَرَسَت؟ هل بقى لديهم شيء من تلك اللغة الفصحى التي ترنم بها اخناتون من قبل، ابتهالات وتسابيح؟ هل بقى لديهم شيء من تلك اللغة الفصحى التي حاور بها فرعون موسى وهارون؟ وهي لم تكن لغة أهل البلاط فحسب، وإنما كانت هي نفسها اللغة التي قرع بها السحرة أسماع فرعون وملئه، يستعلنون بإيمانهم على رغمه، فيودعون الدنيا ويستقبلون الآخرة بخطبة بليغة تقشعر لها الجلود وتخشع الأسماع والأبصار؟
أنت بالطبع تعرف الجواب: باندثار الحضارة تندثر اللغة، لم يبق من المصريين في مطلع القرن السابع من يتكلم المصرية الفصحى، ناهيك بمن يفك رموزها، فضلاً عن أن يكتب بها، وإنما آلت المصرية الفصحى إلى قبطية دارجة هجينة، تكتب كلها أو تكاد بأحرف يونانية ابتدع رسومها الفينيقيون من قبل، وتنضح برطانة تعرف فيها آثار ألسنة الغزاة، الإغريق فالرومان، ومسحة من آرامية فارسية انتقلت إليها مع جيوش قمبيز.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 54]
أما فارس، التي بلغت أقصى اتساعها على عهد الأخمينيين (القرن السادس ق م) – القرن الرابع ق م)، فشملت إمبراطوريتهم منذ القرن الخامس قبل الميلاد الشرق الأدنى القديم كله من فارس إلى مصر، ومن بابل وما بين النهرين إلى سواحل البحر الأبيض في سورية وفلسطين، واكتسحوا اليونان في آسيا الصغرى وألزموهم البحر الأبيض في سورية وفلسطين، واكتسحوا اليونان في آسيا الصغرى وألزموهم عقر دارهم في شبه جزيرتهم ... فارس هذه، ماذا بقى منها؟
كر عليهم الإسكندر فقوض ملكهم من تخوم الهند إلى مصر (333 ق م)، وورث إمبراطوريتهم الشاسعة جميعها، ليتوزعها خلفاؤه من بعده، وليبدأ في الشرق الأدنى كله العصر «الهليني» أو «المتهلين»، أي المصطبغ بالصبغة اليونانية فكرًا ولغة وحضارة، وهو تعبير غير دقيق، وربما كان مضللاً أحيانًا، لأنه يغلب العنصر اليوناني الوافد إلى حضارات الشرق الأدنى القديم، ويُغفل مردود هذه الحضارات نفسها على أرض اليونان الأم، حتى باتت اليونان نفسها بعد الإسكندر «هلينية» فكرًا وحضارة.
لم تكن جحافل الإسكندر يونانية خالصة، وإنما كانت تستمد في سيرها المدد من أهل الأقطار المفتوحة، حتى انتهت «غارة» الإسكندر. واستقر الغزاة بعد الفتح في مواقعهم، يموج بعضهم في بعض، تتمازج الدماء، وتختلف الألسنة، وتتلاقح الثقافات والفلسفات والعقائد.
ولك أن تتصور تأثير هذا كله على اللغة الفارسية في موطنها الأصلي كما رأيت من قبل تأثيره على لغة شعراء الإلياذة وأفلاطون وسوفوكل: جمدت الفارسية القديمة على الألسنة ولم يعد يستدل عليها إلا من نقوش كتبت ما بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد، وحلت محلها الفارسية «الفهلوية» التي كتبت بها نصوص «زرادشت» في القرن الثالث الميلادي، وىلت إلى «الأفستية» (أي لغة النص الأصلي) فعاشت في المعابد والأذكار، وبقيت منها فارسية تزهو حينا وتتحامل على نفسها حينا، تنوء بأوزار ما تهجنت به، حتى أجهز عليها الفتح الإسلامي في القرن السابع، فصارت همهمة يغمغم بها أمثال البرامكة في بلاط الرشيد. ولكن تلك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 55]
الهمهمة التي طالت، قضت على ما بقي من أصالة اللغة، فلم يستعد الفرس سلطانهم في أواخر الدولة العباسية إلا وقد آلت الفارسية إلى رطانة ثلثها على الأقل عربي، هي تلك الفارسية الحديثة التي تقرأ لها الآن.
لم يبق من الحديث عن لغات الشرق الأدنى القديم إلا الآرامية والعبرية ومنهما كانت غالبية العلم الأعجمي الذي نتناوله في هذا الكتاب.
ولكن الحديث عن الآرامية والعبرية يقتضي الحديث أولاً عن اللغات المسماة بالسامية – وأمها جميعا «العربية» - تقريرًا لأصالة العربية عليهما قبل نزول القرآن، وهذا ما ننتقل إليه الآن).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 50-56]


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م, 10:30 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,754
افتراضي

(3) بيان الفوارق الأساسية التي تفصل ما بين العربية وبين العبرية والآرامية
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (3)
تستطيع أن تصنف لغات البشر إلى سلالات عرقية، أو جغرافية – تاريخية، تنسبها إلى موطن أقدم من يُظن أنهم تكلموا بها قبل أن ينساحوا في الأرض، فتنشعب ألسنتهم لهجات فلغات، فتقول مثلاً اللغات الآرية، ومنها السنسكريتية في الهند، والفارسية في إيران، واليونانية واللاتينية والجرمانية في أوروبا، وما تفرع عن هذه وتلك من لغات تقرأ لها الآن. أو تقول مثلاً اللغات السامية والحامية والكوشية، ومنها العربية والعبرية والمصرية والحبشية، بقى منها ما بقى وباد ما باد. والسامية والحامية نسبة إلى سام وحام ابني نوح، والكوشية نسبة على كوش بن حام.
وليس لك بالطبع أن تتساءل بم كان يكلم نوح أباه، وبم كان يتفاهم نوح مع ابنيه سام وحام، ولم شذ حام عن أخيه سام فاصطنع لنفسه لغة انفرد بها لم ترق لابنه كوش فعدل عنها إلى غيرها. تلك على الأرجح – إن صحت التسمية – ليست أسماء أشخاص، وإنما هي أسماء قبائل وشعوب تفرقوا في البلاد، فتفارقت الألسنة.
أما إن ترجح لديك – وأنت اللبيب العاقل – وحدة الأصل الإنساني، فلا مفر لك من أن ترد لغات أهل الأرض جميعا إلى أصل واحد، هو تلك اللغة الأولى التي تكلم بها أبو البشر وأمهم، بعد مهبطهما من الجنة.
على أن افتراض لغة أولى تفرعت عنها كل اللغات، وهو فرض علمي لا غبار عليه – إن لم يكن الفرض المنطقي الراجح – ربما يغريك ببحث عقيم عن أي اللغات كان
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 57]
الأول. ولكنك مهما بذلت من جهد – وأيضًا من افتعال – فقصاراك أن تقنع بفرض واحد مؤكد، وهو أن اللغة التي تكلمها آدم بعد مهبطه من الجنة لم يعد يتكلمها اليوم أحد من أهل الأرض، وإنما هي تفرقت في لغات البشر جميعًا: لكل منهم فيها نصيب، قل أو كثر.
لهذا عدل اللغويون الآن عن تلك التسميات العرقية الجغرافية – التاريخية التي قد توهمك بوجود لغة أو لغات أولى تنتمي إليها الأسر اللغوية التي يتكلمها البشر اليوم. عدل اللغويون عن ذلك الآن، وأصبحوا ينسبون الأسر اللغوية إلى الأرض التي يعيش عليها في عصرنا هذا من يتكلمونها اليوم، أو عاش عليها أسلاف لهم سبقوا، تكلموا لغة تلمح أصولها في اللغات المعاصرة، أو عثر فيها على نقوش أو مخطوطات عفا عليها الدهر، يعكف عليها اللغويون بغية حل رموزها، وفك طلاسمها، وردها إلى أسرة لغوية ولدت فيها، ثم تحورت أو بادت. فقولون مثلاً اللغات «الهندية – الأوروبية» ما بقى منها وما باد. ويقولون مثلاً اللغات «الإفريقية – الآسيوية»، يعنون تلك الأسرة اللغوية بفصائلها «السامية» و«الحامية» و«الكوشية»، إلخ، المتقاربة جذور مفرداتها ودلالات ألفاظها ومخارج أصواتها، التي يتكلمها في آسيا، أو تكلمها في آسيا يوما ما، عرب شبه الجزية من أقصها اليمن إلى أقصى الشام، كما يتكلمها في أفريقيا، أو تكلمها في إفريقيا يومًا ما، أهل الضفة المقابلة من البحر الأحمر، المصريون والسودانُ والأحباش.
أما الخصائص التي يستند إليها اللغويون في تقسيم لغات البشر إلى مجموعات لغوية، أو أسر لغوية، فهي تنقسم بدورها إلى فصائل لغوية داخل الأسرة الواحدة، فأهم هذه الخصائص ما يلي:
1- مخارج الأصوات:
أي انفراد فصائل الأسرة اللغوية المعينة بنطق أحرف، أي أصوات لا تنطقها غيرها. من ذلك انفراد اللغات الأفريقية – الآسيوية بنطق الحاء، وانعدام هذا الصوت – على سبيل المثال – في اللغات الهندية – الأوروبية. وليست العبرة في هذا السياق بصورة الحرف، أي بشكله المكتوب، أي بالخط الذي تصطنعه اللغة في الكتابة، وإنما العبرة بالصوت الموضوع له الحرف.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 58]
2- دلالات الألفاظ:
تتقارب في لغات الفصيلة الواحدة، تقاربًا واضحًا، بل وتتطابق أحيانًا، بنية اللفظ الموضوع لنفس المعنى. من ذلك لفظة «عين» الموضوعة لأداة الإبصار، وعين الماء، إلخ. في اللغات العربية والآرامية والعبرية على السواء. ومن ذلك أيضًا مادة الفعل «كتب» بنفس المعنى في هذه اللغات السامية الثلاث.
3- بناء الألفاظ:
من اللغات صرفي وغروي. فأما اللغات الغروية، ومنها أسرة اللغات الهندية – الأوروبية، كالسنسكريتية والفارسية، وكاليونانية واللاتينية وبناتها الأوروبيات، فهي اللغات التي تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعنى البسيط بإضافة اللواصق من خلف ومن قدام، فيبدو لك اللفظ منحوتًا من كلمة واحدة نطقًا وكتابة، وهو من بضعة أجزاء موصولة، وكأنما شد بعضها إلى بعض بغراء. من ذلك في اللاتينية مثلاً كلمة emancipio بمختلف صورها في اللغات الأوروبية الحديثة، ومعنها العتق والانعتاق: تظنها من كلمة واحدة، وهي من ثلاثة أجزاء شدت إلى بعض (e) + (man) + (cipio) الجزء الأول (e) بمعنى «خارجًا»، والثاني (man) بمعنى «اليد»، والثالث (cipio) بمعنى «الأخذ»، فهي إذن ليست كلمة وإنما هي جملة أو شبه جملة، معناها الحرفي «الإخراج من أخذ اليد»، أو «الإخراج من ملك اليمين».
وأما اللغات الصرفية ومنها على سبيل المثال العربية والآرامية والعبرية في الفصيلة السامية المنتمية إلى أسرة اللغات الإفريقية – الآسيوية، فهي لا تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعنى البسيط بإضافة اللواصق أو بتجميع أجزاء الكلام، وإنما هي تنحت جذور الألفاظ لجذور المعاني، ثم تشتق الموسع من البسيط «بالتصرف» في بنية الجذر الأصلي وفق أوزان ثابتة لكل منها معناها التوسعي المحدد، بغض النظر عن جذر اللفظ الأصلي. من ذلك في العربية فَعَلََ وفَعَّل وتفَعَّل وانفع واستفعل وفاعَلَ وتَفَاعَلَ إلخ. وليست أحرف الزيادة التي تلحظها وسط الجذر كتضعيف العين في فَعل، والمد بالألف في فَاعَل، أو المضافة في أول الجذر مثل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 59]
الهمزة والنون في انفعل، والهمزة والسين والتاء في استفعل، كاللواصق في اللغات الهندية – الأوروبية، لأن أحرف الزيادة هذه ليس لها في ذاتها معنى كما هو الحال في لواصق اللغات الهندية – الأوروبية، وإنما لها وظيفة صرفية، تصرف جذر اللفظ عن معناه البسيط إلى معناه الموسع.
وأيا كانت ميزة الصرفى على الغروى، مما لا نتصدى له الآن، فهي عند اللغويين سمة فارقة حاسمة بين المجموعات اللغوية.
وأما الفوارق بين لغة ولغة من نفس الفصيلة، كفوارق ما بين العربية والعبرية من الفصيلة السامية، والتي تجعل منهما لغتين مختلفتين بحيث تعتجم العبرية على السامع العربي – كما تعتجم العربية على السامع العبري – فلا يفهم أحدهما شيئًا من لغة الآخر حتى يترجم له، فمن هذه الفوارق بين العربية والعبرية على سبيل المثال، القلب والإبدال. أما القلب فهو تغيير ترتيب أحرف الكلمة، مع اتحاد المعنى، ومثاله من العربية نفسها الجذران «جَذَب»، «جَبَذ»، بمعنى شد في كليهما، وغيرهما كثير. وأما الإبدال فهو تغيير حرف بحرف آخر قريب من مخرجه، مع بقاء المعنى، ومثاله من العربية نفسها «سراط»، «صراط»، بمعنى الطريق في كليهما. ومن الإبدال أيضًا، المبادلة بين أحرف المد، كإبدال المد بالواو مدًا بالياء، ومثال هذا من العربية نفسها «ساع/ يسوع»، «ساع/ يسيع»، وكلتاهما بمعنى ضاع وهلك.
ويتفاقم أمر القلب والإبدال ما بين العربية والعبرية حين يكون لصورة اللفظ المتحور في إحدى اللغتين بالقلب والإبدال معنى مغاير تمامًا لمعناه في اللغة الأخرى. من ذلك أن «نجب» العبرية (ومعناها الجنوب) ليست من «النجابة»، وإنما هي
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 60]
مقلوب الجذر العربي «جنب». أما «جنب» عبريًا فليست من الجنوب في شيء، وإنما هي بمعنى «سرق». ومن ذلك أيضًا أن «صنم» العربية (مفرد أصنام) تصبح «صلم» في العبرية. ولكن صلم عربيًا (باللام) تعني قطع واستأصل (وغلبت في الأنف والأذن)، فلا تفهم أي المعنيين يريد ذلك العبراني الذي يحدثك. ويزداد الأمر سوءًا حين تعلم أن «صلم» العبرانية تفيد أيضًا الظلام والظلمة (من أظلم العربي أبدلت ظاؤها صادا)، أما «الظلم» نقيض العدل فهو في العبرية بالطاء «طلم» (وطلمه عربيًا يعني ضربه بكفه مبسوطة، وهو أيضًا وسخ الأسنان من إهمال تنظيفها، ليس له بالظلم صلة). أما «صنم» عبرانيًا فلا صلة له بالأصنام، وإنما هو من النضج والإنضاج. وقس على هذا الكثير الذي لا يحصى بين هاتين اللغتين.
وإلى جانب القلب والإبدال، تفتقر العبرية إلى ستة أحرف أصلية موجودة في العربية، هي بترتيبها على أحرف الهجاء العربية: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين. أما الضاد والظاء فلا وجود لهما مطلقًا في العبرية نطقًا وكتابة، فما كان بالضاد في العربية انقلب غالبًا إلى صاد في العبرية، مثل «ضحك» العربية التي تنقلب إلى «صحق» في العبرية (أبدلت أيضًا كافها قافًا)، ومنه اسم نبي الله إسحاق كما سترى، وما كان بالظاء انقلب غالبًا إلى طاء أو زاي، وربما إلى صاد، مثل «ظبي» التي تصبح «صبي» في العبرية. أما الأحرف الأربعة الأخرى (ث – خ – ذ – غ)، فلا وجود لها في العبرية أيضًا، أي في الكتابة، ولكنك تسمعها في مواضع مخصوصة من محدثك العبراني الذي ينطق لك التءا ثاء، والكاف خاء، والدال ذالاً، والجيم غينًا، حين يتحرك – أو يعتل – ما قبلها (حين يكون لها قبلُ)، شريطة الا تضعف هي. من ذلك أن «بيت» العبرية (وهي بيت العربية) تنطق «بيث»، و«ملك» (وهي ملك العربية) تنطق «ملخ» (ولكن المؤنث منها وهو ملكه تسكن لامه قبل الكاف فتنطق الكاف على أصلها). من ذلك أيضًا «يهود» التي تنطق «يهوذ»، ومثله أيضًا «رجم» العبرية التي تنطق «رغم» لتحرك الراء قبل الجيم فصارت جيمها في النطق غينًا. ولعلك لاحظت أن التفاوت في نطق هذه الأحرف العبرية الأربعة في مواضع مخصوصة مع نطق الحرف على أصله في غيرها، هذا التفاوت لا يضيف جذرًا جديدًا إلى تلك اللغة، وإنما هو مجرد «لهجة» في نطقه في مواضع
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 61]
مخصوصة لا تغير من أصل معناه. ولعلك لاحظت في هذا السياق أيضًا، أن زيادة الأبجدية العربية (28 حرفًا ليس من بينها اللام ألف) بستة أحرف أصلية على الأبجدية العبرية (22 حرفًا) تثرى العربية بكم هائل من الجذور الثلاثية لا تستطيعه العبرية، ذلك أن الحرف الواحد مجموعًا إلى حرفين اثنين فقط من حروف الأبجدية (ولتكن ض – ب – ر) يعطيك عشرة جذور ثلاثية ممكنة: بض – ضب – رض – ضر – ضبر – ضرب – رضب – ربض – برض – بضر، كلها مستعمل مسموع في العربية عدا الجذرين الأخيرين «برض» و«بضر» الباقيين في خزائنها، تستطيع استخراجهما حين تشاء. وقس على هذا اجتماع الضاد مع باقي الحروف.
من جهة أخرى تفتقر العربية إلى صوتين في العبرية، هما الباء (p) الثقيلة، والباء المرققة التي تخف وتسيل فتصبح فاء (v) ولكن هذين الصوتين غير أصيلين في العبرية، وإنما هما نفساهما الفاء والباء: تنطق الفاء باء ثقيلة (باء) حين لا يتحرك أو يعتل ما قبلها (أو لا يكون لها قبلُ) أو حين تضعف (مثل برعو العبرية بمعنى فرعون) وتنطق كالفاء العربية فيما عدا ذلك. أما الباء العبرية فتنطق كالباء العربية حين لا يتحرك أو يعتل ما قبلها (أو حين لا يكون لها قبل) أو حين تضعف، وتنطق باء مرققة سائلة (فاء) فيما عدا ذلك (مثل «أف» (AV) العبرية يعني أب، وعكسه «با» العبرية ومعناها (جاء). وهذا أيضًا لا يضيف إلى العبرية جذورًا جديدة تتميز بها على العربية، وإنما هو مجرد لهجة في نطق الحرف في مواضع مخصوصة، لا تغير من أصل معنى الجذر الذي يحتويه، مع نطق الحرف على أصله في غيرها. من ذلك الفعل «كفر» المشترك بين العربية والعبرية معنى ونطقًا وكتابة، ولكن الفاء فيه حين تضعف، تنطق في العبرية باء ثقيلة (P)، كما في «يوم كبور» أي «يوم الكفارة». ومثله أيضًا الاسم العبراني «أيوب»، الذي ينطق ف يالعبرية «إيوف»، رققت باؤه وأسيلت لاعتلال ما قبلها (الواو) فنطقت باؤه فاء. ومثله أيضًا «أبراهام» (إبراهيم) الذي ينطقه العبرانيون «أفراهام» لتحرك الهمزة قبل الباء.
من وجوه المغايرة الصوتية أيضًا بين العربية والعبرية، اصطناع العبرية
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 62]
«المد بالكسر» (أي إطالة زمن نطق الكسرة دون انقلابها ياءً ثقيلة) وقرينه «المد بالضم» (أي إطالة زمن نطق الضمة دون انقلابها واوًا ثقيلة) ولا وجود لهما أصلاً في العربية الفصحى، وإن كانا موجودين في العربية العامية، مثلما ترى في كلمة «بيت» العربية تنطق في العامية مكسورة الباء ممدودة الكسرة «بيت»، ومثل كلمة «يوم» التي تنطق «يوم». والفرق بين المد بالكسر وبين المد بالياء أن الكسر في المد بالياء ثقيل، تحتشد له عضلات الفم واللسان، كما في كلمة «عيد» بينما هو في المد بالكسر مخفف مرقق، كما في كلمة «ليش» (بمعنى لأي شيء) العربية العامية، ترتخي فيه عضلات الفم واللسان. وهكذا أيضًا الفرق بين المد والضم وبين المد بالواو في مثل «عود» و«يوم» وإذا لاحظت أن العبرية – شأنها شأن العربية العامية – تصنع ذلك كلما كان الأصل في العربية الفصحى الوقوف بعد فتح على الواو والياء، في مثل «يوم» و«ريب»، والوقوف عليهما ثقيل، بدت لك العبرية وكأنما تنشد التسهيل، كما تفعل العربية العامية، وكما فعلت الإنجليزية المعاصرة مثلاً بالحرفين (au) «آو» و (ai) «آي» اللذين سهلتهما الإنجليزية المعاصرة، والفرنسية المعاصرة أيضًا دون سائر أخواتها اللاتينيات، على «أوه» و«إيه» على الترتيب.
هناك أيضًا مغايرة بين العربية والعبرية في النحو والصرف، لا توجد في العبرية علامات «إعراب»، وإنما الأصل «البناء»، أي بقاءُ اللفظ على حاله وصورته أيا كان موضعه من الإعراب رفعًا ونصبًا وجرًا وجزمًا كما تفعل العربية العامية، وكما آلت إليه الإنجليزية والفرنسية بين أمهات اللغات الأوروبية الحديثة. وليس في العبرية صيغة للمثنى، وإنما هو الجمع لا غير. عدا استثناءات قليلة منقرضة من مثل «عينيم» مثنى «عين» (أداة الإبصار)، ومثل «نهريم» مثنى «نهر» (في عبارة «آرام نهريم»، أي آرام ما بين النهرين). ولا وجود لجمع التكسير في العبرية، وإنما هو الجمع السالم لا غير، وصورته البناء على الياء بعدها ميم (لا نون كما في العربية والآرامية) في جمع المذكر، مثل «بنيم» (يعني «بنون»
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 63]
العربية) والمد بالضم بعدها تاء ساكنة (لا المد بالألف بعدها تاء كما في العربية والآرامية) في جمع المؤنث، مثل «بنوت» (يعني «بنات» العربية). كما تفتقر العبرية إلى صيغة «أفعل التفضيل» مثل «أكبر» و«أصغر» وما إلى ذلك، فتحتال عليها بصيغ مخصوصة من مثل «الابن الكبير» في موضع أكبر الأبناء، وهلم جرا.
ومن أمثلة المغاية بين العربية والعبرية في موازين الصرف، أن العبرية تضع الوزن «فعيل» (مدًا بالكسر) لزنة اسم الفاعل، والوزن «فَعُول» (مدًا بالواو) لزنة اسم المفعول، وأحيانًا كثيرة الوزن «فَعُول» (مدًا بالضم لا بالواو) لزنة مصدر الثلاثي المجرد. من ذلك «حميذ» بمعنى حامد، و«حموذ» بمعنى محمود، و«حموذ» (مدًا بالضم) بمعنى الحمد، إلخ.
أما أخطر وجوه التغاير بين العربية والعبرية، وأدلها أيضًا على أصالة العربية وسبقها للعبرية (وللآرامية أيضًا) في الزمان والمكان، فمنها تفوق العربية تفوقًا ساحقًا بوفرة المادة اللفظية الأصلية (الجذر الثلاثي) بما لا يُقاس على العبرية والآرامية ليس فقط بسبب زيادة الأبجدية العربية بستة أحرف أصلية (ث – خ – ذ – ض – ظ – غ) كما مر بك، فتستطيع الإتيان مثلاً بالجذرين «خرج» و«حرج» كلا بمعنى، ولا تستطيع العبرية إلا الثاني وحده بمعنى «ضاق» وغير هذا أكثر من أن يحصى، وإنما أيضًا لكون العربية أوفر أوزانًا وأضبط وأقيس، تستطيع الإتيان بالطريف المعجب دون زيادة في أحرف الذجر، وإنما فقط بتغيير حركة عينه. من ذلك الفعل «صَنَعَ» أي كان صانعا شيئا ما، سفسف فيه أو أتقنه، و«صنع» أي كان حاذقًا ماهر الصنعة، وغيره كثير.
ومن وجوه الأصالة والتفوق أيضًا أن العربية تستنفد من الجذر الأصلي كل معانيه – الرئيسي والمترتب عليه – على حين تقتصر العبرية والآرامية غالبًا على وجه واحد تجمدان عليه. من ذلك الفعل «حمد»، فهو في العربية بمعان يتسلسل بعضها من بعض: حمدته يعني رضيته وأعجبت به، وحمدته أيضًا يعني ذكرت محاسنه فمدحته بما هو أهله، وحمدت له أمرًا يعني استحسنت له، وحمدته أيضًا يعني ذكرت له نعمة فشكرتها وأثنيت عليه لجوده بها. أما العبرية فتقتصر من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 64]
«الحمد» على وجه واحد، هو الرضا والإعجاب: حمدته العبرية تعني أعجبني وحلا لي.
أما أكثر أوجه المغايرة دلالة على أصالة العربية وسبقها فهو أن العربية لا يوجد فيها لفظ مشتق إلا وهي تستخدم ثلاثية المجرد في أصل المعنى الموضوع له، أما العبرية فيكثر فيها المشتق الذي لا جذر له. معنى ذلك أن العبرية تأخذ الفظ المشتق على صورته عند أصحابه دون فهم أصل معناه في جذره الثلاثي. والجذر بالطبع أسبق وجودًا من اللفظ المشتق منه. العبرية إذن ناقلة عن العربية، ولا يتصور العكس.
من ذلك أن الفعل العربي «نَجَل» بمعنى قطع وطعن – ومنه «المنجل» أداة الحصاد – لا وجود له في العبرية، ولكن الموجود في العبرية من مادة الجذر العربي «نجل» اللفظ «مجال» (وأصلها «منجال») أي المنجل: استعارت العبرية «المنجل) ولم تستعر «النجل».
هذا يفسر لك لماذا يلجأ اللغويون إلى المعجم العربي لمحاولة فهم غوامض العبرية والآرامية وبوائدهما، مثلما يفعلون لمحاولة فهم غوامض غيرهما من بوائد الساميات.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 65]
لهذا صح عند اللغويين الأثبات أن العربية هي أم الساميات جميعًا، لأنها الخزانة اللغوية التي تغترف منها سائر لغات الفصيلة ولا تنصب هي، بل لديها دائمًا المزيد. وربما ترجح عند بعضهم أنها أيضًا الأصل البعيد الذي انشقت عنه وتحورت سائر لغات المجموعة الإفريقية – الآسيوية، ومنها المصرية والحبشية.
ولكنك في أقل القليل تستطيع أن تؤكد – مصيبًا غير مخطئ – أن اللغة العربية – أيا كان الشكل الذي تطورت منه إلى الشكل الذي نزل به القرآن في مطلع المائة السابعة لميلاد المسيح – كانت هي نفسها في عصر ما غير بالغ القدم اللغة السائدة بين سكان شبه الجزيرة من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، وأن الآرامية التي ارتحل بها آباء إبراهيم من العراق إلى سورية، والعبرية التي ارتحل بها إلى مصر يعقوب وبنوه، وعاد بها بنو إسرائيل إلى جنوبيِّ فلسطين بغير الوجه الذي ذهبت به فتعاجموا بها على إخوانهم الموآبيين – هذه وتلك وسائر ما تكلم به أهل الشرق الأدنى القديم في شبه الجزيرة – ليست إلا لهجات قبلية متحورة عن هذه العربية نفسها، تهجنت بها ألسنتهم بتأثير الغزو اللغوي الحضاري الذي توالى على أطراف شبه الجزيرة، شرقيها وشماليها، وسلم منه قلبُها في الحجاز، وإلى حد بعيد جنوبيها في اليمن.
على أنك إزاء هذا المستوى الفني الرائع الذي ارتقت إليه تلك اللغة الفذة نحوًا وصرفًا وإعرابًا – ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة – والذي تلمسه قبيل نزول القرآن – فيما صحت نسبته إلى الجاهلين من شعر – لا بد يخايلك إحساس مبهم بأن تلك اللغة لا ريب سليلة حضارة موغلة في القدم سبقت عصر الطوفان وسبقت عصر التصحر والجفاف في شبه الجزيرة، ثم ضاعت في ضباب التاريخ.
ولكننا لا نخوض بك في تاريخ ما قبل التاريخ، فلا علاقة لموضوعنا بهذا الفن، ولسنا نحن أيضًا من رجاله).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 57-66]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 16 ربيع الثاني 1443هـ/21-11-2021م, 10:31 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,754
افتراضي

(4) تلقيح اللغات بعضها البعض؛ عوامله وآثاره
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (4)
تحدثنا فيما سبق عن أوجه التقابل والتغاير بين العربية والعبرية داخل الفصيلة السامية، وما ذكرناه بشأن العربية والعبرية ينطبق في جملته، مع بعض تفاوت، على ما بين العربية والآرامية، وعلى ماب ين الآرامية والعبرية تلك اللغات السامية الثلاث الألصق بموضوع هذا الكتاب. ما أردناه هو التمثل لوجوه التقابل والتغاير بين أفراد الفصيلة اللغوية الواحدة، التي تجعل إحداها كلامًا أعجميًا في سمع أهل اللغة الأخرى من نفس الفصيلة، وفيما ذكرناه كفاية. بل قد أطنبنا إطنابًا نعتذر لك عنه أيها القارئ العزيز، وعذرنا أن الإفاضة بعض الشيء في المقارنة بين العربية والعبرية بالذات، تفيدنا في استجلاء «عجمة» العلم العبراني الذي نتصدى له فيما يلي من فصول الكتاب.
هذا التقارب، والتغاير أيضًا، بين أفراد فصيلة لغوية معينة، ولتكن الفصيلة السامية، داخل أسرة لغوية معينة، ولتكن أسرة اللغات الإفريقية – الآسيوية، يدلان على أن التقارب قد كان منشؤه التجاور في الزمان والمكان حقبة من الدهر بين أبناء الفصيلة اللغوية الواحدة، لأن اللغات تُتَعلم بالمحاكاة والتقليد، وهذا لا يتسنى إلا في بيئة معيشية مشتركة.
على أن التقارب – وهو دون التطابق – يفيد بذاته وجود مغايرة بقدر ما بين اللغتين من ذات الفصيلة، لا يمكن تفسيره إلا بحدوث انفصال بيئي بنفس القدر بين أبناء هاتين اللغتين تعرضت إحداهما خلاله – بالمحاكاة والتقليد أيضًا – لتأثيرات لغوية من حضارات مجاورة، أو غزوات لغوية – حضارية شنها أقوام يتحدثون غير اللغة. ليس هذا فحسب. بل إن هذا الانفصال البيئي ربما صاحبه انفصال حضاري في اتجاه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 67]
مغاير، استتبع تطور اللغة في اتجاه مغاير لتطور اللغة التي انشقت منها، فتتباعدان إلى حد التعاجم.
ذلك أن اللغات، بغض النظر عن الغزو اللغوي – الحضاري، لا تثبت قط على حال، بل تنمو وتتحور أيضًا، لا بفعل المؤثرات الخارجية وحدها، وإنما أيضًا بفعل ارتقاء – أو ارتكاس – الحضارة الذاتية لأبناء اللغة: تنتعش الحضارة فتغنى اللغة، وينضب معين الحضارة فتذوى اللغة أو تموت. والأصل في هذا أن الألفاظ أوعية المعاني، تمامًا كما أن الجسد وعاء الروح: لا يولد في اللغة لفظ جديد إلا متلبسًا بمعنى جد لأهل اللغة.
والحضارة التي يصيبها العقم فلا تتطور ولا تُبدع ولا تبتكر، تعقم لغة أهلها أيضًا فلا تولد فيها الفاظ جديدة لمعان ومسميات جديدة سبقهم إلى الوقوع عليها أبناء الحضارة الغالبة، أصحاب الحق الأول في تسمية ما يكتشفونه ويبتدعونه. وبقدر ما تتهجن الحضارات التوابع، تتهجن اللغة، لأن اللغة التي عقمت بعقم حضارة أهلها لا تجمد مفرداتها فحسب على ما جمدت عليه حضارتهم، ولا تضمر مفرداتها فحسب وتشيخ، وإنما يهجرها أهلها أيضًا إلى ألفاظ «أعجمية» تلتوي بها ألسنتهم، هي تلك الألفاظ التي اصطنعها أصحاب الحضارة الغالبة لما استحدثوه أو تطوروا إليه من أنماط حياة وأدوات حياة.
وعيبُ اللفظ المنقول على أصله الأعجمي إلى اللغة المستعيرة أنه ليس دالاً بذاته على أصل معناه في لغة المنقول عنهم، فيلتبس على غير المتخصص من أبناء اللغة المستعيرة، وربما استخدم في غير ما وضع له. يحدث هذا بالتحديد في ألفاظ «المعاني»، أي الألفاظ الدالة على الفعل وهيئة الفعل، من مثل «الاستراتيجية» و«الديمقراطية»، إلخ، في اللغات المعاصرة، مما ليس له مقابل مادي خارج الذهن، يوضحه ويجليه ويذكر به، أكثر مما يحدث في أسماء الأشياء والمنتجات والمصنوعات والعُدد والآلات والمكتشفات والمخترعات التي سبقت غليها الحضارة الغالبة مثل «الرادار» وغيره، مما له خارج الذهن مقابل مادي يوضحه ويجليه ويذكر به.
أما اللغة التي تستعير من غيرها معاني الأفعال وأسماء الأفعال، فهي لغة قد عقم تفكير أهلها وضحل، ينتظرون من غيرهم أن يفكر لهم، ثم يأخذوا عنه أخذ الببغاء والقردة، فيزدادوا تبعية ويمعنوا ارتكاسًا، لغة أهل الحضارة الغالبة هي المثل
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 68]
على تطور اللغة بتطور الحضارة الذاتية لأبناء اللغة، ولغة الحضارة التابعة هي المثل على تحور اللغة بتأثير الغزو اللغوي – الحضاري.
ولأن الألفاظ هي أوعية المعاني، تمامًا كما أن الجسد وعاء الروح، تستطيع أن تقول إن المعاني يتوالد بعضها من بعض بقدر ما تتوالد الألفاظ بعضها من بعض، أي بقدر ما تكون اللغة قادرة على نحت الألفاظ واشتقاق اللفظ من اللفظ.
وتستطيع أن ترتب على هذا – مصيبًا غير مخطئ – أن اللغة الأغزر ألفاظًا أو الأقدر على نحت جذور الألفاظ، هي اللغة الأقدر على توليد المعاني، وأنها اللغة الأدق عبارة، الأوضح فكرة، الأطوع لتشقيق المعاني، الأقوى على التخيل والإبداع، الأملك لعنان الفكر، الأثبت في وجه الغزو اللغوي – الحضاري.
ولأن الحروف – أي الأصوات – هي لبنات الألفاظ، تستطيع أن تقول إن اللغة الأقدر على نحت جذور الألفاظ، هي اللغة الأكثر احتواء لكافة الأصوات المفردة الممكنة، أي الأوفر أصواتًا وحروف نطق.
وتستطيع أن تضيف إلى هذا أن اللغات الصرفية ذوات الأوزان، كما هو الحال في اللغات السامية، وأمها العربية، هي وحدها – دون اللغات الغروية – الأقدر على تمثل الألفاظ الأعجمية وهضمها، لأنها – وبالذات اللغة العربية – لا تقبل اللفظ الأعجمي على صورته في لغته، وإنما تعربه فتجانس بين حروفه على مقتضى مخارج أصواتها، ثم تقولبه في قوالبها وتصبه في أوزانها، ثم تشتق منه، وتتصرف فيه، حتى يبدو اللفظ الأعجمي لغير المتخصص وكأنما ولد عربيًا لأب عربي.
واللغة العربية في هذا كله – دون سائر اللغات – فرس لا يداني، لأنها الأكثر حروفًا، الأغزر جذورًا، الأوفر أوزانًا، الأضبط نحوًا موازين صرف. ولكنها أيضًا – ولنفس الأسباب – اللغة الأقمن باشتباه الأعجمي فيها بالعربي، لأن اللفظ المنقول إليها ذابت عجمة معناه في عروبة صورته بعد تعريبه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 69]
على أن النقلة العرب في العصر الحديث، لا سيما في نصف هذا القرن الأخير، لم يلتزموا قواعد التعريب التي تقتضيها أوزان اللغة العربية ومخارج أصواتها: عربوا «الخط» ولم يعربوا «اللفظ»، فأساءوا ولم يحسنوا. وقد مهد لهذا – رغم جهود محو الأمية ونشر التعليم في عصرنا – شيوع العامية وتراجع الفصحى على الألسنة، لا في لغة الحديث اليومي فحسب، بل وفي الخطابة وفي الإذاعة والتلفزة، حتى استجازتها الصحف فتسللت إلى أقلام أهل الفكر والفن والأدب، وحتى أصبح استيعاب قواعد النحو والصرف والإعراب وتعلمها وتعليمها، على بساطتها في العربية وانضباطها، مشكلة كبرى لجمهرة المثقفين أنفسهم، فما بالك بغيرهم؟
بمثل هذا – وقد بدأ بالفعل – تستحيل اللغة رطانة شائهة هجينة، تعتجم على القائل والسامع. والذي تشوه لغته وتعتجم لا يحسن القول ولا يحسن الفكر، ومن ثم لا يحسن التلقي ولا يحسن العمل. لأن اللغة ليست أداة التعبير فحسب، ولكنها أيضًا – وبالدرجة الأولى – أداة العقل والفكر.
والغريب أن دعاة «التحضر» في هذا العصر، لا يُعيرون هذه «القضية الحضارية» التفاتًا. والأعجب أن دعاة القومية «العربية» في هذا العصر – واللغة العربية عنصرها الأول والأهم – هم دعاة «التغريب» أيضًا. ويا له من تناقض!
على أن اللغة العربية – والقرآن كافلها وكفيلها – أكرم على الله عز وجل من أن تهان، وأسمى من أن تبتذل، وأقوى من أن تهزم، وأخلد من أن تبيد.
تلك كبوة حضارية عابرة، ليست القاصمة. وكم صادف أهل القرآن كلما تنكبوا صراط القرآن كبوات.
لن تقوم الساعة حتى يتلى القرآن عربيًا فلا يفهم، ويدعى به فلا يستجاب.
فهل آن لأهل القرآن أن ينتبهوا من غفلتهم، فيردعوا سفهاءهم؟
قال صلى الله عليه وسلم يأمر أهل القبلة: «أيها الناس، إن لكم معالم، فانتهوا إلى معالمكم» .
نعم. لا علاج لهذه القضية الحضارية إلا العلاج الحضاري الشامل. وهو لهذه
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 70]
الأمة – كما كان لها في كل زمن – عودة أهل القبلة إلى قبلتهم، أي ثوبان المسلمين إلى قرآنهم الذي اتخذوه اليوم وراءهم ظهريا ...
فالآن الآن ... وإلا فلا.
أما كيف السبيل وما المنهج، فالحديث في هذا يطول، ليس موضعه بالطبع هذا الكتاب، وإنما عليك به في كتاب آخر «مدققًا مفصلاً» ولنرجع نحن الآن إلى ما كنا فيه قبل هذا الاستطراد، لنصل ما انقطع).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 67-71]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الأعجمي, العَلم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 30 ( الأعضاء 0 والزوار 30)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:57 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir