(2) الحياة السياسية لحضارة الفرس والروم قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثرها على اللغات
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (2)
بدء نزول القرآن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ليلة القدر من رمضان عام 13 قبل الهجرة (609م) مطلع القرن السابع للميلاد، قبيل انقضاء ستة قرون على رفع المسيح عليه السلام، ليس بينهما نبي.
كانت حضاراتُ العالم القديم كلها آنذاك قد تهاوت، وآذنت الدنيا بميلاد جديد.
وهي قد تهاوت لأن العمالقة أكل بعضهم بعضًا، وكانت ساحة الصراع هي هذا الشرق الأدنى القديم.
لم يكن الصراع يدور على فكر أو على خطة لحياة، فقد تداخلت الأفكار والمذاهب، وتشاكلت الضلالات هنا وهناك، وإنما كان الصراع يدور على الأسلاب والغنائم، وكان الأسلاب والغنائم هم أهل هذا الشرق الأدنى القديم.
لم يكن لدى الغزاة شيء يفتحون به على أهل الأقطار المغلوبة، ولم يبق لدى المغلوبين شيءٌ يقدمونه للغزاة.
ولكن الصراع بين العمالقة الآريين الثلاثة، الفرس والإغريق والرومان، أو اختصارًا بين الفرس والروم، لا ينفك يدور، لا تضع الحرب أوزارها إلا لالتقاط الأنفاس بضع سنين. وهي حرب عبث، سواءٌ على التاريخ قامت أم لم تقم، فالغالب اليوم مغلوب غدًا، لا يعنيك أي الفريقين أدال من الآخر، ولمن كانت الدائرة في الحرب اليوم، فالدائرة على الجميع: إنهم يخربون بيوتهم بأيديهم ويأتون على ما بقى من أطلال حضارتهم. لا تهتم، فعلى الأنقاض سيبنى صرح جديد. تجد إشارة إلى هذا في قوله عز وجل: {الم * غلبت الروم في أدنى الأرض *وهم من
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 50]
بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين * لله الأمر من قبل ومن بعد * ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله * ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده * ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [الروم: 1 – 6].
احتدم الصراع بين الفرس والروم على ما بقي من أطلاق الشرق الأدنى القديم قرونا، بين كر وفر، حتى أجهز عليهم المسلمون في أواسط القرن السابع. ومن قبل، أثخن الروم - إغريقا ورومان – بعضهم في بعض، وأتى القوطُ والجرمان على القياصرة في روما، فارتحلوا شرقًا إلى بيزنطة، قبل قرنين اثنين من ظهور الإسلام.
اختلط الحابل بالنابل في هذه المنطقة من العالم التي شهدت مولد حضارات البشر، ولم يعد هناك فكر جامع، تستند إليه حضارة جامعة، جديرة بالبقاء. لم تعد ثم – رغم ما قد تسمعه من شهيق وزفير – إلا حضارة ماتت أو أوشكت أن تموت. ولم يعد ثم – رغم ما قد تسمعه بين الفينة والفينة من هدير وزئير – إلا أسد هرم، تسلخ جلده، وتثرمت أسنانه، وعشى بصره، يرجو رحمة ربه في ضربة إجهاز تريحه من عذابه.
وكان أن أتى أمر الله.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 51]
أما اللغة – موضوعنا في هذا الجزء من الكتاب – فأنت تعرف بالطبع العلاقة بين موات الحضارة ومَوات اللغة، فما بادت حضارة قوم إلا بادت لغتهم، أو ذابت في لغة السادة لتعيش بعضا من حياة، أو تحورت إلى رطانة شائهة هجينة، لا تكاد تُبِين.
متى لم يعد للحضارة فكر تعبر عنه وتعيش عليه، ومثل تدعو إليها وتجاهد من أجلها، فقد خرست الحضارة ولم يعد لديها ما تقول.
إلى هذا آلت اللغات في هذه المنطقة من العالم: تهاوت الحضارة فتهاوت اللغة، ولم يكن في أي من تلك اللغات جميعا كتاب في عظمة القرآن، يعصمها أن تزول.
في مطلع القرن السابع للميلاد كانت اليونانية الفصحى التي تغنى بها من قبل شعراء الإلياذة وكتب بها أمثال أفلاطون وسوفوكل، وخطب بها أمثال بريكليس وديموستين، قد آذنت من قبل بالأفول حوالي مطلع القرن الثالث، ولم يأت القرن السابع إلا وقد آلت إلى يونانية دارجة هجينة، لا على ألسنة العامة فحسب وإنما أيضًا في الفن والفكر والأدب.
أما اللاتينية الفصحى، التي كُتِبَت بها مدونات الفقه الروماني، ونظمت بها إنيادة فرجيل، وخطب بها أمثال شيشرون وقيصر، فقد حذت حذو أختها اليونانية، بنفس الترتيب الزمني أو تكاد، فلم يأت القرن السابع إلا وقد تحورت إلى لاتينية دارجة هجينة، بل قال إلى لاتينيات دارجة هجينة، يلدن من بعد لغات أوربية تقرأ لها الآن، لم يكتمل لها نموها إلا في نحو تسعمائة سنة من نزول القرآن.
لم يبق من اليونانية واللاتينية مطلع القرن السابع للميلاد إلا أثارةٌ من أطلال مجد قديم، تليق بحضارة ذوت، ولا تتسع لحضارة باذخة توشك أن تولد، لتعيش.
تلك الحضارة الباذخة الوليدة كان القرآن شهادة ميلادها، وهو إلى الآن عمود حياتها، وما أوشكت أن تتصدع في مراحل من عمرها إلا لأن أصحاب القرآن أنسوه.
فالحذر الحذر ممن يرفضونه اليوم دستور حياة.
بل في المسلمين اليوم من يعاجزون القرآن، ويختصمونه، ويجادلون فيه، ويحرضون عليه.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 52]
بل فيهم – لُعنوا بما قالوا – من يشاقون الله ويسبون رسوله.
بل فيهم – ويا للعار من لا تحمر له أنف، وإنما يسخر قلمه للدفاع عن هؤلاء وهؤلاء بدعوى حرية الرأي والفكر.
ولو شاء الله لمسخهم على مكانتهم.
كفاهم نقمة – بحربهم القرآن – أنهم حرموه.
وكفاهم ذلة أن طمس الله على عقولهم وبصائرهم فلا يرون ما آلوا إليه بذنبهم: رد الله وجوههم في أقفيتهم، وجعل منهم الببغاء والقردة.
ولكن هذا حديث آخر، نتصدى له في كتاب آخر، ليس موضعه هذا الكتاب.
أما في الشرق الأدنى القديم ما بين مصر وفارس، مهبط الرسالات، وموئل الحضارات التي سبقت الفرس والروم، فقد اختلط الحابل بالنابل:
في مصر، تصدعت – بانهيار دولة الرعامسة حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد – حضارة شامخة زهت نحو ألفي سنة (3200 ق م – 1200 ق م)، وآذنت بأفول لا رجعة منه: تعاور مصر الغزاة من شرق وغرب، ومن شمال وجنوب، نهبا للرائح والغادي، جائزة لمن غلب، إلا هبات هنا أو هناك، وجذوة خامدة تريد أن تتوهج وسرعان ما تنطفئ، حتى غدت مصر ولاية فارسية منذ 525 ق م على يدي قمبيز وخلفائه، ثم إقطاعة يونانية لخلفاء الاسكندر (333 ق م) ثم ولاية رومانية (30 م) لقياصرة في روما، ارتحلت تبعيتها معهم إلى بيزنطة (395م)، ولم يبق من المصريين إلا الحجر، وإلا مياه النيل تجري تهمهم بما كان:
{كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين * فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين} [الدخان: 25 – 29].
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 53]
ترى هل بقيت للمصريين في مطلع القرن السابع للميلاد أثارة من لغة حضارتهم الأولى التي دَرَسَت؟ هل بقى لديهم شيء من تلك اللغة الفصحى التي ترنم بها اخناتون من قبل، ابتهالات وتسابيح؟ هل بقى لديهم شيء من تلك اللغة الفصحى التي حاور بها فرعون موسى وهارون؟ وهي لم تكن لغة أهل البلاط فحسب، وإنما كانت هي نفسها اللغة التي قرع بها السحرة أسماع فرعون وملئه، يستعلنون بإيمانهم على رغمه، فيودعون الدنيا ويستقبلون الآخرة بخطبة بليغة تقشعر لها الجلود وتخشع الأسماع والأبصار؟
أنت بالطبع تعرف الجواب: باندثار الحضارة تندثر اللغة، لم يبق من المصريين في مطلع القرن السابع من يتكلم المصرية الفصحى، ناهيك بمن يفك رموزها، فضلاً عن أن يكتب بها، وإنما آلت المصرية الفصحى إلى قبطية دارجة هجينة، تكتب كلها أو تكاد بأحرف يونانية ابتدع رسومها الفينيقيون من قبل، وتنضح برطانة تعرف فيها آثار ألسنة الغزاة، الإغريق فالرومان، ومسحة من آرامية فارسية انتقلت إليها مع جيوش قمبيز.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 54]
أما فارس، التي بلغت أقصى اتساعها على عهد الأخمينيين (القرن السادس ق م) – القرن الرابع ق م)، فشملت إمبراطوريتهم منذ القرن الخامس قبل الميلاد الشرق الأدنى القديم كله من فارس إلى مصر، ومن بابل وما بين النهرين إلى سواحل البحر الأبيض في سورية وفلسطين، واكتسحوا اليونان في آسيا الصغرى وألزموهم البحر الأبيض في سورية وفلسطين، واكتسحوا اليونان في آسيا الصغرى وألزموهم عقر دارهم في شبه جزيرتهم ... فارس هذه، ماذا بقى منها؟
كر عليهم الإسكندر فقوض ملكهم من تخوم الهند إلى مصر (333 ق م)، وورث إمبراطوريتهم الشاسعة جميعها، ليتوزعها خلفاؤه من بعده، وليبدأ في الشرق الأدنى كله العصر «الهليني» أو «المتهلين»، أي المصطبغ بالصبغة اليونانية فكرًا ولغة وحضارة، وهو تعبير غير دقيق، وربما كان مضللاً أحيانًا، لأنه يغلب العنصر اليوناني الوافد إلى حضارات الشرق الأدنى القديم، ويُغفل مردود هذه الحضارات نفسها على أرض اليونان الأم، حتى باتت اليونان نفسها بعد الإسكندر «هلينية» فكرًا وحضارة.
لم تكن جحافل الإسكندر يونانية خالصة، وإنما كانت تستمد في سيرها المدد من أهل الأقطار المفتوحة، حتى انتهت «غارة» الإسكندر. واستقر الغزاة بعد الفتح في مواقعهم، يموج بعضهم في بعض، تتمازج الدماء، وتختلف الألسنة، وتتلاقح الثقافات والفلسفات والعقائد.
ولك أن تتصور تأثير هذا كله على اللغة الفارسية في موطنها الأصلي كما رأيت من قبل تأثيره على لغة شعراء الإلياذة وأفلاطون وسوفوكل: جمدت الفارسية القديمة على الألسنة ولم يعد يستدل عليها إلا من نقوش كتبت ما بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد، وحلت محلها الفارسية «الفهلوية» التي كتبت بها نصوص «زرادشت» في القرن الثالث الميلادي، وىلت إلى «الأفستية» (أي لغة النص الأصلي) فعاشت في المعابد والأذكار، وبقيت منها فارسية تزهو حينا وتتحامل على نفسها حينا، تنوء بأوزار ما تهجنت به، حتى أجهز عليها الفتح الإسلامي في القرن السابع، فصارت همهمة يغمغم بها أمثال البرامكة في بلاط الرشيد. ولكن تلك
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 55]
الهمهمة التي طالت، قضت على ما بقي من أصالة اللغة، فلم يستعد الفرس سلطانهم في أواخر الدولة العباسية إلا وقد آلت الفارسية إلى رطانة ثلثها على الأقل عربي، هي تلك الفارسية الحديثة التي تقرأ لها الآن.
لم يبق من الحديث عن لغات الشرق الأدنى القديم إلا الآرامية والعبرية ومنهما كانت غالبية العلم الأعجمي الذي نتناوله في هذا الكتاب.
ولكن الحديث عن الآرامية والعبرية يقتضي الحديث أولاً عن اللغات المسماة بالسامية – وأمها جميعا «العربية» - تقريرًا لأصالة العربية عليهما قبل نزول القرآن، وهذا ما ننتقل إليه الآن).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 50-56]