قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( الفصل الأول
أعجمي وعربي).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 43]
(1) هل وردت في القرآن ألفاظ أعجمية؟
قال محمود رؤوف عبد الحميد أبو سعدة: ( (1)
هل وردت في القرآن ألفاظ أعجمية؟
كيف، والمنزل عليه القرآن عربي، والمنزل إليهم القرآن عرب؟
أليس تبعث الرسل كل بلسان قومه؟ فكيف يفهمون عنه؟ كيف يتم البلاغ؟ كيف يصح التكليف؟ أيمشي الرسول غريبًا في قومه، يتوكأ على مترجم يفسر ما يقوله للناس؟
قال عز وجل: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه * ليبين لهم} [إبراهيم: 4]، أي كما أنزلنا التوراة عبرانية على موسى العبراني فكذلك القرآن، عربيًا على عربي.
وكأن من أهل الكتاب من تعاظمه أن يخاطب الله الخلق بغير العبرية، لغة التوراة، فقال جل شأنه: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي} [فصلت: 44].
أما أن القرآن عربي، فهذا عين الحق، ليس هذا فحسب، بل إن عربية القرآن شاهد على عربية العرب، لا العكس: لا يصح لها فصيح متفق عليه إلا الوجه الذي نزل به.
وأما أنه قد وردت في القرآن ألفاظ أعجمية، فهذا حق أيضًا، ولكنه لا ينتقص شيئًا من عربية القرآن، وإنما هو يجليها، كما سترى في مباحث هذا الكتاب.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 44]
وليس القرآن عربيا فحسب، وإنما هو عربي مبين. تجد النص على هذا في قوله عز وجل: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192 – 194].
ولفظ «المبين» حيثما ورد في كل القرآن – وقد ورد لفظه نعتا للمعرفة والنكرة 119 مرة – لا يعني الإفصاح والإبانة، وإنما يعني حيث ورد، تأكيد اكتمال تحقق الصفة في الموصوف. إليك بعض الأمثلة، وعليك بالباقي في مواضعه من المصحف:
{فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين}[الأعراف: 107]، أي ثعبان حق، لا شك في ثعبانيته.
{إن الشيطان للإنسان عدو مبين} [يوسف: 5]، أي هو العدو يقينًا، لا خفاء لعداوته.
{إنا فتحنا لك فتحا مبينا} [الفتح: 1]، أي أن صلح الحديبية وإن تجهمه أول الأمر بعض أجلاء الصحابة، ليس فتحا فحسب، وإنما هو فتح حق، ليس له إلا هذا الاسم.
{هو الحق المبين} [النور: 25]، يصف نفسه تباركت أسماؤه، أي هو عين الحق جل جلاله، لا يماري فيه أحد.
من هناك تدرك أن وصف لغة القرآن بأنها لسان عربي مبين، يغني أنه بلسان عربي بين العربية، أو هو حق العربية، لا يماري في عربيته إلا جاهل بالعربية نفسها.
وليس القرآن عربيًا مبينًا فحسب، وإنما هو القول الفصل: قمة البيان، وذروة الإبانة.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 45]
والإبانة شرط لا بد منه لتمام البلاغ والتبليغ.
وهي بالذات شرط لا بد منه لبلاغ خاتم، كمل به وحي السماء ليس بعده مستدرك.
وهي أيضًا شرط لا بد منه لرسالة تخاطب الكافة، لا مكان فيها لمتنطس أو متحنث، ولا تعويل فيها على كهنوت أو كهانة.
وهي أخيرًا شرط لا بد منه لرسالة لا تطلب التصديق فحسب، وإنما هي بالدرجة الأولى رسالة تطلب العمل على مقتضى هذا التصديق.
ولا يصح تكليف بغير إبانة.
لهذا فقد برئ القرآن من العجمة والعوج.
والالتفات إلى هذه النعمة واجب، وشكرها أوجب.
بـ {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} [الكهف: 1]، كما علمنا الحق أن نقول، جل ثناؤه.
وقد امتن الله على العرب بالقرآن، وأكرم بها منه أن يكون لسان القرآن لسانهم.
قال عز وجل يقسم بالقرآن: {ص * والقرآن ذي الذكر} [ص: 1].
وقال جل شأنه: {ولقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم * أفلا تعقلون} [الأنبياء: 10].
وقال أيضًا تباركت أسماؤه: {وإنه لذكر لك ولقومك * وسوف تسألون} [الزخرف: 44].
والذكر في هذه المواضع الثلاثة جميعًا يعني «الشرف».
نعم، شرفت العربية بالقرآن، وشرف أهلها.
والشرف أمانة، أداؤها أن تعرف حقها، وإلا فأنت بها مأخوذ. كما قال عز وجل: «وسوف تسألون» في الآية التي قرأت توا.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 46]
وقد تتساءل: كيف استحقت العربية هذا الشرف؟
لا يكفي أن تقول نزل القرآن عربيًا لمجرد أن المنزل عليه القرآن عربي والمنزل إليهم القرآن عرب.
بل هو تقدير العليم الخبير، الذي لا يمضي أمرًا إلا أحكمه.
إنه عز وجل يصطفي لرسالته الرسول، ويصطفي لرسوله الجيل الذي يحمل الرسالة، ويصطفي لخاتم رسله البقعة التي تنطلق منها الرسالة إلى أقاصي الأرض.
وهو أيضًا جل شأنه يصطفي لرسالته الأداة، وأداة الإسلام هي هذا القرآن الناطق بالعربية.
فكيف وَسِعَت العربيةُ هذا القرآن؟ كيف حملت وقره؟ ما تلك الحضارة التي أنضجت تلك اللغة، واللغة كما تعلم هي نضاج الحضارة؟ وهل كانت للعرب قبل القرآن حضارة؟ فمتى اكتمل لها نحوها وصرفها وإعرابها؟ متى تهيأ لها شعراؤها وخطباؤها وفصحاؤها؟ بل كيف فهم العرب عنه؟ كيف تذوقوا حلاوته؟ كيف سلموا بإعجازه؟
الحق أن العربية هيئت تهيئة لتلقي هذا القرآن، وزينت تزيينًا لتليق به، وأنضجت إنضاجًا لتكون وعاءه، وأحكمت إحكامًا لتعبر عنه، فما نزل القرآن إلا وقد تهيأ لها هذا كله ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة.
وتلك وحدها معجزة، وليس شيء على الله بعزيز.
لم تكن العربية وقت نزول القرآن، بمستواها هذا الفني المحكم، لغة كتابة، فقد أريد للقرآن أن يكون «قرآنا».
كانت العربية وقت نزول القرآن، بمستواها هذا الفني المحكم، لغة الخطاب اليومي، لا لغة يصطنعها فحسب أهل الفكر والفن والأدب، ولم تكن بمستواها هذا الفني المحكم لغة الخطاب لدى الصفوة من سادة قريش فحسب، بل كانت هي لغة الخاصة والعامة.
وهذا هو أصلاً معنى اللغة: لا تلتمس في المدونات وبطون الكتب، ولا تهمهم بها الأقلام وتحبر الصحف، وإنما اللغة هي التي ينطلق بها اللسان سجية، فتبصر بها العين، وتسمع الأذن.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 47]
وكان هذا – كما مر بك – ضروريًا لرسالة تخاطب الكافة، لا تعويل فيها على متحنث أو متكهن.
على أن في العربية خصائص لغوية وبيانية وموسيقية، قل أن تجتمع لسواها.
إنها لغة الإيجاز البليغ، والسلم الموسيقي الكامل.
لغة اجتمعت لها كل الحروف، وصحت المخارج: لا تندغم في الحلق، ولا تتآكل على أطراف اللسان، ولا تتحور في ذبذبات اللهاة. فيها ما يقرع السمع عنيفا، وفيها الدمث اللين، وما بين بين.
لغة غنيت حروفا، فغنيت جذورا: لا تعرف اللواصق من رواكب وروادف، وفي غيرها ينوء جذر اللفظ بأوزاره، فيغيم المعنى في ضباباته. أما هي، فتنحت الألفاظ والأوزان للمعنى وضده، وللمعنى وقريبه، وللمعنى والمشتق منه، وللمعنى والمتداخل معه، ما أن يقع بصرك على اللفظ حتى يستعلن لك بكل معناه ودلالاته.
لغة تفننت في أوزانها، ونوعت في تراكيبها طرائق شتى. تمد بالإعراب أواخر الكلم، تهمز وتسهل، وتصل وتقف، وتنون وترخم، فما استعصى عليها نغم.
وتلك كلها خصائص قرآنية.
وقد أفاد القرآن من العربية، وأفادت العربية من القرآن. ولكن الذي أفادته العربية من القرآن أضعاف الذي أفاد القرآن.
جَمَع مادتها، وأحكم نحوَها وصرفَها وإعرابَها، ورسم لها نموذجها الأعلى. ليس هذا فحسب، بل تكفل الله بحفظ القرآن، فكفل لها القرآن حياتها، ونماءها، وبقاءها.
وقد مضى على نزول القرآن بالعربية أربعة عشر قرنًا، بادت خلالها لغات وتحورت لغات، ولا تزال العربية وحدها تعيش، بنصاعتها الأولى.
وليس لهذا – كما يعرف أهل العلم – نظير في كل اللغات قديمها وحديثها.
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 48]
وأما الذي أفاده القرآن من العربية فهو – كما مر بك – أنها اللغة التي هيئت له، لا يصلح إلا لها.
ولسنا هنا في مقام المفاضلة بين لغة ولغة، فاللغات كلها من آيات الله سبحانه.
ولكن الذي لا يتوقف عنده كثيرون، وربما قل من يفطنون إليه، هو أن اللغة العربية – عصر بدء نزول القرآن في مطلع القرن السابع للميلاد، على قلة الناطقين بها يومذاك – كانت هي دون منازع أرقى لغات العالم القديم، ليس فحسب أرقاها بلاغة وفصاحة وجمالاً، وإنما أيضًا، وبالمقياس اللغوي البحت، أرقاها دقة وكمالاً.
لم يكن ينقصها لتصبح اللغة العالمية الأولى يومذاك، إلا أن تتجاوز حدودها الجغرافية السياسية الضيقة، فتشيع بين الناس في المشارق والمغارب.
وقد تكفل القرآن بذلك).
[العَلَمُ الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن: 1/ 44-49]