المثال الثاني: جواب الشرط في قول الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}
اتفق المفسّرون على أنّ قوله تعالى: {سيذكر من يخشى} ليس جواباً للشرط في قوله تعالى: {إن نفعت الذكرى}، ولو كان جواباً للشرط لاقترن "بالفاء"، ولكنها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً.
والراجح أنّ قوله: {فذكّر} ليس جواباً للشرط أيضاً لأمرين:
أحدهما: أن "الفاء" للتفريع على قوله تعالى: {ونيسرك لليسرى}؛ فهي عاملة في موضعها عملها المشتغلة به، وترتيب التذكير على التيسير في هذه الآية نظير ما في قول الله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}
والآخر: أنَّ تعليق الأمر بالتذكير بشرط الانتفاع لا يصحّ، لأن الأمر بالتذكير عامّ كما هو متقرر من أدلّة كثيرة، ولأن الانتفاع بالتذكير لا يُعلم إلا بعد التذكير؛ فكيف يُعلَّق به؟!!
ولذلك تأوَّله بعض العلماء بمظنة الانتفاع، وهو تأوّل منشؤه اعتقاد تعلّق الشرط بقوله {فذكّر}، ولا تعلّق هنا على الصحيح، وليس في تفاسير السلف ما يدلّ على ذلك.
والتحقيق أنّ جواب الشرط هنا محذوف، كما حذف في مواضع كثيرة من القرآن، وحذفه أبلغ بياناً، وأوفى معنى، لتعلّق الشرط بأصناف من المخاطبين، منهم المتّبع والمخالف، ومنهم الداعي والمدعو، ولكلّ صنف تقدير يناسبه في الجواب.
ثم إن مبلغ النفع وآثاره ومبلغ الإعراض عن الانتفاع وآثاره من الأمور التي لا يستوفيها ذهن الإنسان، ولا يبلغ منتهى التفكّر فيها؛ فحذف الجواب لتذهب النفس في تقديره كلّ مذهب ممكن.
وحذف الجواب مناسب أيضاً لحذف مفعول {فذكّر} ومتعلَّقه ليعمّ المذكَّرين وما يُذكّر به.
فتناولت الآية معانيَ واسعة، وقَسمت الناس إلى قسمين:
- قسم ينتفع بالذكرى فاكتفي بالنصّ على النفع دون ذكر متعلّق النفع؛ لكثرة المنافع وعظمتها وتنوّعها.
- وقسم لا ينتفع بالذكرى، وهم المعرضون الذين يأبون الانتفاع بالذكرى؛ تكبّراً وعناداً، ولإعراضهم عن الانتفاع آثار كثيرة عظيمة متنوّعة في الدنيا والآخرة.
وانتفاع بعض المذكَّرين بالذكرى حجة على من لم ينتفع بها، وذلك أنّ عدم انتفاعهم إنما هو لعلّة فيهم، فالمورد واحد لكن شتَّان ما بين وارد فمنتفع، ومعرض لا ينتفع.
وفي إسناد النفع إلى الذكرى لطيفة أخرى، وهي أنّ الذكرى تنفع المذكِّرَ والمذكَّر.
فالمذكِّر ينفعه تذكيره فيُعذر عند الله، ويقيم الحجَّة على المدعوّ، وينتفع بمن يستجيب لتذكيره فيُكتب له مثل أجره، كما في قول الله تعالى: {وإذ قالت أمّة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا )). رواه أحمد ومسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والمذكَّر ينتفع بالذكرى إن آمن وأناب؛ كما قال الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ، وقال تعالى: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب}.
وفي التعبير بالذكرى لطيفة أخرى، وهي أن هذا اللفظ يشمل التذكُّرَ والتذكير؛ فكلاهما يصحّ أن يوصَف بالذكرى.
- فالذكرى بمعنى التذكير كما في قول الله تعالى: {إن هو إلا ذكرى للعالمين} ، وقوله تعالى: {ذلك ذكرى للذاكرين} ، وقوله تعالى: {ذكرى وما كنا ظالمين}، وقوله تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}.
- والذكرى بمعنى التذكّر كما في قول الله تعالى: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} ، وقوله تعالى: {أنى لهم الذكرى}، وقوله تعالى: {يومئذ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى}، وقوله تعالى: {فأنّى لهم إذا جاءتهم ذكراهم}.
وقد يجتمع المعنيان كما في قول الله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى}، وقوله تعالى: {وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقوله تعالى: {أو يذكر فتنفعه الذكرى}.
وهذه الآيات فيها النص على نفع الذكرى لا التشكيك فيه ولا استبعاده كما ذهب إليه بعض المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {إن نفعت الذكرى}.
فالشرط في هذه الآية جارٍ مجرى تأكيد نفع الذكرى وأنّه لا شكّ في نفعها لمن استمع إليها بقلب منيب كما هو منصوص قول الله تعالى: {إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والعرب تستملح الإتيان بالشرط لغرض التأكيد كما قال سويد بن أبي كاهل في مدح قومه:
بُسُطُ الأيدي إذا ما سُئلوا ... نُفُع النائل إن شيء نفع
وقال المرّار بن منقذ التميمي يفخر بنفسه ومكانها من قبيلته:
وأنا المذكور من فتيانها ... بفعال الخير إنْ فِعْلٌ ذُكِر
وجواب الشرط في البيتين محذوف لدلالة ما تقدّمه عليه، وحذف الجواب أبلغ في التأكيد.
فقول سويد في معنى قول القائل: إنْ قدّر نفعٌ لشيءٍ فإنَّ نائلهم عظيم النفع.
ومن المعلوم بداهة وجود نفع لأشياء كثيرة؛ فأخرج الشرط مخرج التأكيد لعظم نفعهم، وأنه إذا ذُكر النفع فهم من أوّل ما ينتفع بنائلهم، وأنّه إذا جُحد نفعُهم فالأولى جحد جميع المنافع.
وكذلك معنى بيت المرار بن منقذ.
وقريب من هذين البيتين البيت الذي استشهد به ابن عطية في تفسيره:
لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
فالنداء يُسمع الأحياء، فأقام بهذا الشرط السماعَ دليلاً على الحياة، وأنّ من لم يسمع فيستجب وينتفع فهو ميّت القلب لا تُرجى له حياة ولا نجاة.
وكذلك في قوله تعالى: {فذكّر إن نفعت الذكرى} الانتفاع بالذكرى دليل على أثر عظيم يحصل للمنتفع بالذكرى بسبب استجابته لربّه جلّ وعلا وطاعته لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيحيا حياة أخرى غير الحياة التي كان فيها كما قال الله تعالى: {أومن كان ميتاً فأحييناه} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.