حذف جملة الشرط
تقدم البيان عن أنّ جواب الشرط قد يُحذف لأغراض بلاغية، لكن مما ينبغي التنبيه عليه أنّ جملة الشرط قد تُحذف إذا بقي جواب الشرط دالاً على معنى الشرط.
قال ابن مالك:
والشرط يُغْني عن جواب قد عُلم ... والعكس قد يأتي إنِ المعنى فُهِم
وهذا كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اكتحل فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج). رواه أحمد وغيره.
أي: ومن لا يفعل فلا حرج.
وذُكر عن الأحوص الأنصاري أنه كان يحبّ امرأة فزوّجها أهلها رجلاً يُقال له مطرٌ؛ فقال الأحوص:
سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطَرُ السلامُ
فإن يكن النكاحُ أحلَّ شيءٍ ... فإنَّ نكاحَها مطرًا حرامُ
فطلِّقْها فلستَ لها بكُفْءٍ ... وإلَّا يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحسامُ
الشاهد قوله: (وإلا يعل مفرقك الحُسام) ؛ فحذف جملة الشرط، والتقدير: وإن لا تفعل يعلُ مفرقك الحُسام
ونُسب إلى رؤبة بن العجاج أنه قال:
قالت سليمى: ليت لي بَعْلاً يمُنْ
يغسل عن رأسي ويُنسيني الحزَنْ
قالت بنات الحيّ: يا سلـمى وإنْ
كـان فقـــــــــــيرا معدِماً، قالت: وإنْ
فحذف جملة الشرط وجواب الشرط وأبقى الأداة فأدّت المعنى.
وبعض أهل البلاغة يُدخلون هذا النوع من الحذف فيما سمّوه "بديع الاكتفاء"، ولشمس الدين النواجي(ت:859هـ) مؤلف مفرد فيه سمّاه "الشفاء في بديع الاكتفاء".
ومن أمثلة ما قيل فيه بحذف جملة الشرط في القرآن الكريم:
1: قول الله تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون}
- قال الزمخشري: (فإن قلت: ما معنى "الفاء" في {فَاعْبُدُونِ} وتقديم المفعول؟
قلت: "الفاء" جواب شرط محذوف، لأنّ المعنى: إنّ أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص).
- قال أبو حيان: (ويحتاج هذا الجواب إلى تأمل).
2: قول الله تعالى: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله}.
- قال ابن هشام: (أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون به من أنفسكم فقد جاءكم بينة، وإن كذبتم فلا أحد أكذب منكم {فمن أظلم}).
3: قول الله تعالى: {أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي}.
- قال ابن هشام: (أي: إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي).
4: قول الله تعالى: {فذلك الذي يدعّ اليتيم}.
- قال أبو البقاء العكبري: (قوله تعالى: {فذلك}: "الفاء" جواب شرط مقدر، تقديره: إن تأملته، أو إن طلبت علمه).
قال ابن هشام في مغني اللبيب: (هو مطرد بعد الطلب، نحو:{فاتبعوني يحببكم الله}، أي: فإن تتبعوني يحببكم الله، {فاتبعني أهدك}،{ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل})ا.هـ.
وقد تشتبه "الفاء" الرابطة بين الجمل ب"الفاء" الواقعة في جواب شرط مقدّر؛ فيتوهّم بعض المفسرين وجود شرط مقدّر؛ كما وقع للزمخشري في تفسير قول الله تعالى:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}.
- قال: ("الفاء" جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ).
- فتعقّبه أبو حيان في البحر المحيط بقوله: (وليست "الفاء" جواب شرط محذوف كما زعم، وإنما هي للربط بين الجمل؛ لأنه لما قال:{فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان}، كان امتثال ما أمروا به باباً للقتل؛ فقيل:{فلم تقتلوهم}، أي: لستم مستبدين بالقتل؛ لأن الأقدار عليه، والخالق له إنما هو الله، ليس للقاتل فيها شيء، لكنه أُجريَ على يده؛ فنفى عنهم إيجاد القتل، وأثبت لله، وفي ذلك رد على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم)ا.هـ.
- وتعقّبه ابن هشام أيضاً في مغني اللبيب فقال في الكلام عن حذف جملة الشرط: (وجعل منه الزمخشري وتبعه ابن مالك بدر الدين:{فلم تقتلوهم}، أي: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم، ويردّه أن الجواب المنفي بلم لا تدخل عليه "الفاء").