الاستثناء من المتعاطفات
من المباحث المتعلقّة بالاستثناء الاستثناء من المتعاطفات؛ فإذا وقع استثناء من جمل عُطف بعضها على بعض فأيّها يكون هو المستثنى منه؟
في جواب هذه المسألة خلاف بين الفقهاء والأصوليين والنحاة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: منها كلها، وهو اختيار ابن مالك، والمشهور من أصول فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.
والقول الثاني: من آخرها لأنها أقرب مذكور لأداة الاستثناء، وهو اختيار الرضى الاستراباذي وأبي حيان من النحاة، وفقهاء الحنفية.
ولبعض فقهاء الأحناف مسائل خالفوا فيها هذا القول.
والقول الثالث: مما يصلح أن يكون مستثنى منه بحسب السياق؛ فقد يكون الاستثناء من الجملة الأولى، وقد يكون من الثانية، وقد يكون من الأخيرة، وقد يكون من أكثر من جملة، وهذا القول هو الصواب الذي تدلّ عليه النصوص، وهو اختيار ابن الحاجب، وأبي حامد الغزالي، والآمدي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
وفي القرآن مواضع تعقّب الاستثناء فيها جملاً متعاطفة، ومنها:
1. قول الله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
- وقع الاستثناء {إلا الذين تابوا} بعد ثلاث جمل متعاطفة {فاجلدوهم} و{ولا تقبلوا لهم شهادة} و{أولئك هم الفاسقون}، والاستثناء إنما هو من النهي عن قبول شهادتهم والحكم بفسقهم، وأما الجلد فلا يسقط بالتوبة بالإجماع.
2: وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}
- الاستثناء من الدية، لا من تحرير الرقبة من غير خلاف.
3: وقوله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}
الاستثناء من الجملتين على الصحيح:
- أما جملة {لا تقولوا على الله إلا الحقّ} فالمعنى فيها ظاهر.
- وأما جملة "لا تغلوا في دينكم إلا الحقّ" فيدل عليها قول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}.
4: وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}
الاستثناء من الأخذ والقتل، وليس من اتخاذهم أولياء وأنصاراً؛ فإنه لا يجوز اتخاذ غير المسلمين أولياء.
- قال محمد الأمين الشنقيطي: (فالاستثناء في قوله: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} لا يرجع - قولاً واحداً - إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل إليه، أعني قوله تعالى: {ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا} إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار، ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فخذوهم واقتلوهم} والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق؛ فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم؛ لأنّ الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم).
5: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)}
- الاستثناء صحيح من الجملتين.
6: وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}
- الاستثناء في قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع؛ فما أدركت ذكاته منها فهو مستثنى مما حرّم، ولم تدخل الميتة لأنها لا تذكى، ولا الدم ، ولا لحم الخنزير، ولا ما أهلّ لغير الله به.
- قال أبو بكر الجصاص: (وأما قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه؛ لأن قوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه، وأن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة، وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه، وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة، فكان حكم العموم فيه قائماً، وكان الاستثناء عائداً إلى المذكور من عند قوله: {والمنخنقة}).
والاستثناء على هذا القول متصل، وهو قول جمهور المفسرين والفقهاء.
فإن قيل: لم نصّ على المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع مع أنها من جملة الميتات؟
قيل: لأمرين:
أحدهما: أنها لا تسمّى ميتة حتى يتحقق موتها، فإنها تتردى فتسمَّى متردية وبها رمق، فإن ماتت فهي ميتة، وإن أدركت ذكاتها فهي مذكاة ليست بميتة.
والأمر الآخر: أن من العرب من لا يعدّ هذه الأصناف من الميتة، فكانوا يأكلونها، وإنما يعدون الميتة ما ماتت بحتف أنفها من مرض ونحوه، وأما هذه الأصناف المذكورة؛ فكان منهم من لا يعدّها ميتة؛ فنصّ على أنّها إذا ماتت من ذلك فهي ميتة.
- قال السّدّيّ في قوله تعالى: ({والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع إلاّ ما ذكّيتم} يقول: هذا حرامٌ، لأنّ ناسًا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدّونه ميّتًا، إنّما يعدّون الميّت الّذي يموت من الوجع، فحرّمه اللّه عليهم، إلاّ ما ذكروا اسم اللّه عليه وأدركوا ذكاته وفيه الرّوح). رواه ابن جرير.
وذهب الإمام مالك إلى أن السبع إذا أكل من البهيمة ما لا تعيش معه فإنها لا تحلّ بالذكاة، كأن يبقر بطنها، أو يكسر ظهرها، أو يقطع بلعومها، وأما إذا اقتطع طرفاً من أطرافها بحيث يمكن أن تعيش من دونه؛ فيجوز عنده أن تذكّى وتؤكل.
والمالكيّة يحملون الاستثناء في الآية على الانقطاع، أي هذه هي المحرمات، ولكن ما ذكيتم مما هو من شأن المؤمنين تذكيته فهو حلال.
وذكر ابن بطال في شرح صحيح البخاري أن الموقوذة لا تسمّى موقوذة حتى تموت بالوقذ، وكذلك المنخنقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع؛ فلم يكن لهم بدّ من حمل الاستثناء على الانقطاع.
وهذا القول لا يصحّ في اللغة؛ فإن الموقوذة هي التي وُقِذَت وإن عاشت بعد وقذها، وقد قال جران العود يصف ضرب امرأته له وأنها وقذته ثم عاش:
تُداورني في البـــــيــت حتى تكـــــــــبَّني ... وعيني من نحـــــــو الهـِــرَاوة تلمـــــــحُ
وقد علَّـــمتني الوَقْـــــــــــذَ ثم تجـــــــــــرّني ... إلى المــــــــــــاء مغـــشـــــياً عليَّ أرنَّـــحُ
ولم أر كالموقـــــــــــــوذ ترجى حيـــــــــــاته ... إذا لم يَرُعْــــه الماءُ ســـــاعةَ يُنضَحُ
أقول لنــفسي أين كنت وقــــد أرى ... رجــالاً قيــــــــاماً والنســــــــاء تسبح
أباِلغَــوْرِ أم بالجَلْسِ أم حيث تلتقي ... أمــــاعز من وادي بُرَيكٍ وأبطح
قوله: (وقد علَّمتني الوقذ) أي عرَّفتني الوقذ كيف يكون بما فعلته به من الضرب بالعصا الغليظة حتى أغشي عليه.
والشاهد أنّه سمّى نفسه موقوذاً وقد عاش بعد أن أغمي عليه، ونُضح عليه الماء ورأى حوله رجالاً قياماً عليه ونساء يقلن: سبحان الله!! سبحان الله!! يتعجبن مما به من الضرب؛ فأخذ يتذكّر أين هو، وتخطر على ذهنه الأماكن التي كان فيها وهو يرعى غنمه.
وقد صحّ عن السلف إطلاق اسم الموقوذة على التي ضربت بخشبة ونحوها وبقي بها رمق فتطرف بعينها أو تحرّك أطرافها؛ وجمهورهم على جواز ذكاتها وأكلها لبقاء الروح فيها، وهو الأقرب من جهة النظر؛ فإن بقاء الروح دليل على عمل القلب، فإذا ذُبحت خرج الدم من عروقها، وإذا ماتت بطل عمل القلب، وبطل عمل الجوارح التي كان على القلب أن يستحثّها لإخراج ما فيها من الدم.
- قال الحسن البصري: (إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها، أو تركض برجلها، أو تمصع بذنبها، فاذبحْ وكلْ). رواه ابن جرير.
- وقال إبراهيم النخعي: (إذا أكل السّبع من الصّيد أو الوقيذة، أو النّطيحة أو المتردّية فأدركت ذكاته، فكل). رواه ابن جرير.
وروي نحو ذلك عن جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وطاووس بن كيسان وقتادة.