المثال الثالث: معنى الاستثناء في قول الله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ}.
- قال ابن القيّم رحمه الله في تعداد أمثلة للاستثناء المنقطع: (قوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ} على أصحّ الوجوه في الآية؛ فإنه تعالى لما ذكر العاصم استدعى معصوماً مفهوماً من السياق فكأنه قيل: لا معصوم اليوم من أمره إلا من رحمه.
فإنه لما قال: {لا عاصم اليوم من أمر الله} بقي الذهن طالباً للمعصوم؛ فكأنه قيل: فمن الذي يُعصم؟! فأجيب بأنه لا يُعصم إلا مَنْ رحمه الله.
ودلَّ هذا اللفظ باختصاره وجلالته وفصاحته على نفي كل عاصم سواه، وعلى نفي كل معصوم سوى من رحمه الله.
فدل الاستثناء على أمرين:
أ: على المعصوم من هو.
ب: وعلى العاصم وهو ذو الرحمة.
وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه وأوجزه.
ولا يُلتفت إلى ما قيل في الآية بعد ذلك، وقد قالوا فيها ثلاثة أقوال أُخَر:
أحدها: أن عاصما بمعنى معصوم، كماء دافق وعيشة راضية، والمعنى لا معصوم إلا من رحمه الله، وهذا فاسد لأنَّ كل واحد من اسم الفاعل واسم المفعول موضوع لمعناه الخاص به؛ فلا يشاركه فيه الآخر، وليس الماء الدافق بمعنى المدفوق، بل هو فاعل على بابه، كما يقال: ماء جارٍ؛ فدافق كجار؛ فما الموجب للتكلّف البارد؟!
وأما عيشة راضية؛ فهي عند سيبويه على النسَب كتامِر ولابِن، أي ذات رِضَى، وعند غيره كنهار صائمٍ، وليل قائمٍ، على المبالغة.
والقول الثاني: إنَّ {من رحم} فاعل لا مفعول والمعنى لا يَعْصِمُ اليوم من أمر الله إلا الراحم؛ فهو استثناء فاعل من فاعل، وهذا وإن كان أقلَّ تكلفاً فهو أيضا ضعيف جداً، وجزالة الكلام وبلاغته تأباه بأول نظر.
والقول الثالث: إنَّ في الكلام مضافاً محذوفاً قام المضاف إليه مقامه، والتقدير: لا معصوم عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله، وهذا من أنكر الأقوال وأشدها منافاة للفصاحة والبلاغة، ولو صرح به لكان مستغثَّا)ا.هـ.