أمراء الشام في زمن الخلفاء الراشدين:
تقدّم ذكر أمراء الجيوش الذين فتحوا الشام، وأنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما لقي أمراء الأجناد بالجابية بعد فتح بيت المقدس أعاد تنظيم الجيوش الإسلامية، وترتيب الأمراء؛ فجعل على الشام أميرين: أبا عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وسيّر عمرو بن العاص بجيش كبير لفتح مصر.
- قال معمر عن ابن شهاب الزهري قال: (أَمَرَ [عمرُ بن الخطاب] عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر، وبقي الشام على أميرين: أبي عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان
ثم توفي أبو عبيدة، فاستخلف خاله وابن عمّه عياض بن غنم فأقرّه عمر.
فقيل لعمر: كيف تُقِرّ عياض بن غنم وهو رجل جوادٌ لا يمنع شيئاً يُسأله وقد نزعت خالد بن الوليد في أن كان يعطي دونك؟!!
فقال عمر: (إن هذه شيمة عياض في ماله حتى يخلص إلى ماله، وإني مع ذلك لم أكن لأغير أمراً قضاه أبو عبيدة بن الجراح).
قال: (ثم توفي يزيد بن أبي سفيان فأمّر مكانه معاوية فنعاه عمر إلى أبي سفيان فقال: احتسب يزيد يا أبا سفيان.
قال: يرحمه الله، فمن أمّرت مكانه؟
قال: معاوية.
قال: وصلتك رحم.
قال: ثم توفي عياض بن غنم، فأمّر مكانه عمير بن سعد الأنصاري، فكانت الشام على معاوية وعمير حتى قُتل عمر، فاستُخلف عثمان بن عفان، فعزَل عميراً، وترك الشام لمعاوية).رواه عبد الرزاق في مصنفه.
فهذه رواية معمر عن الزهري، وقد روي عنه من طرق أخرى ما فيه زيادة على بعض ما ذكر.
- قال أصبغ بن الفرج: حدثنا ابن وهب، عن يونس [بن يزيد الأيلي]، عن ابن شهاب، قال: ( كانت الشام على أميرين: على أبي عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، فتوفي أبو عبيدة، واستخلف خاله عياض بن غنم أحد بني الحارث بن فهر؛ فأقرّه عمر رضي الله عنه، ثم توفي عياض؛ فأمّر مكانه سعيد بن عامر بن حذيم، ثم توفي سعيد بن عامر، فأمّر مكانه عمير بن سعد). رواه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في معرفة الصحابة.
- وذكر سلمة بن الفضل الأبرش عن ابن إسحاق أن عمير بن سعد الأنصاري كان على دمشق والبثنية وحوران وحمص وقنَّسرين والجزيرة.
ومعاوية على: البلقاء، وفلسطين، والأردن، والسواحل، وأنطاكية، ومعرَّة مصرين.
وقد روي أنّ عمر بن الخطاب عزل عمير بن سعد، ولا يصحّ، والأصح أن الذي عزله عثمان بن عفان حين استخلف.
- قال عمرو بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني، قال: لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن حمص ولّى معاوية، فقال الناس: عزل عُميراً وولى معاوية، فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اهدِ به».رواه الترمذي، وقال: (هذا حديث غريب. وعمرو بن واقد يضعَّف).
- وقال عمر بن عبد الواحد: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة، عن يزيد: أن بعثاً من أهل الشام كانوا مرابطين بآمد، وكان على حمص عمير بن سعد فعزله عثمان وولى معاوية، فبلغ ذلك أهل حمص فشق عليهم، فقال عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: «اللهم اجعله هاديا مهدياً، واهدِه واهدِ به». رواه أبو بكر الخلال.
فهذا الخبر يدلّ على أنّ الذي عزل عمير بن سعد هو عثمان بن عفان، وذلك أنّه جمع الشام كلّه لمعاوية.
- وقال هشام [بن عمار]: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثني مرزوق بن أبي الهذيل قال: حدثني ابن شهاب عن عروة أنه حدثه قال: (استخلف عثمان بن عفان، ففتح الله عليه إفريقية، وخراسان. فعزل عمير بن سعد عن حمص، وجمع الشام لمعاوية، ونزع عمرو بن العاص عن مصر، وأمّر عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح - أحد بني عامر بن لؤي). رواه أبو زرعة الدمشقي.
- وقال محمد بن عائد: أخبرني الوليد بن مسلم قال: (حدثني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب قال: كان عمر بن الخطاب أمّر على الشام بعد يزيد بن أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان وعمير بن سعد الأنصاري، وأمّر على الكوفة المغيرة بن شعبة الثقفي، وأمّر على البصرة أبا موسى الأشعري عبد الله بن قيس، وأمّر على أهل مصر عمرو بن العاص؛ فقتل عُمر ولم يخلع أحداً منهم؛ فاستخلف عثمان فنزع عمير بن سعد، وجمع الشام لمعاوية كله، ثم نزع عمرو بن العاص وأمّر عبد الله بن سعد). رواه ابن عساكر.
وبقي معاوية أميراً على الشام كلّه زمن عثمان بن عفان، ثمّ زمن عليّ بن أبي طالب ولم يبايعه؛ ولما قُتل عليّ بن أبي طالب وولي الحسن بن عليّ تنازل لمعاوية عن الخلافة، وسمّي ذلك العام عام الجماعة، لاجتماع كلمة المسلمين فيه على إمام واحد.
فهؤلاء أمراء الشام زمن الخلفاء الراشدين.
والشام كثيرة المدن والقرى؛ فكان لبعض بلدان الشام أمراء يتبعون أمير الشام، وتقصّيهم يطول به المقام.
خبر محمد بن كعب القرظي في بعث عمر المعلمين إلى الشام
- قال محمد بن إسماعيل البخاري في التاريخ الصغير: حدثنا إسماعيل حدثني أخي عن سليمان عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبيّ بن كعب، وأبو أيوب، وأبو الدرداء؛ فلما كان عمر كتب يزيدُ بن أبي سفيان أنَّ أهل الشام كثروا واحتاجوا إلى من يعلّمهم القرآن ويفقههم؛ فقال عمر: (أعينوني بثلاثة). قالوا: هذا شيخ كبير لأبي أيوب، وهذا سقيم لأبيّ؛ فخرج معاذ، وعبادة، وأبو الدرداء.
فقال: ابدؤوا الحمص فإذا رضيتم منها؛ فليخرج واحد إلى دمشق، وآخر إلى فلسطين؛ فأقام بها عبادة، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين؛ فمات بها، ولم يزل معاذ بها حتى مات عام طاعون عمواس، وصار عبادة بعد إلى فلسطين؛ فمات بها، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات).
قلت: هذا الخبر مرسل، وسياقه غريب؛ فإن ظاهره أنّهم لم يبعثوا إلا بعد فتح الشام، وقد شهد معاذ وأبو الدرداء فتوح الشام من أوائل وقعاتها، وأبو أيوب كان رجلاً غزاء جاهد في الشام حتى مات على أسوار القسطنطينية سنة 55ه.
وأما تعليم معاذ بفلسطين، وتعليم أبي الدرداء بدمشق، وتعليم عبادة بحمص ثم فلسطين فلا خلاف فيه.