· مراتب الشكر
ولشكر النعم مرتبتان:
المرتبة الأولى: الشكر عند تلقي النعمة، ويتحقق بأربعة أمور:
أحدها: الفرح بفضل الله والابتهاج بعطائه، وتعظيم قدر النعمة في النفس كما دلّ عليه قول الله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}.
والثاني: الاعتراف لله تعالى بنعمته، كما في الحديث ((أبوء لك بنعمتك علي))
والثالث: حمد الله تعالى على نعمته، وذكرها، والثناء على الله بنعمته، كما في قول الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها» رواه مسلم وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
والرابع: الرضا بنعمة الله، وأن لا يعيبها ولا يزدريها، كما دلّ عليه قول الله تعالى: {فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي العلاء بن الشخير قال: حدثني أحدُ بني سليم ولا أحسبه الا قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى يبتلي عبده بما أعطاه فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارك الله له فيه ووسّعه، ومن لم يرضَ لم يبارك له)). إسناده صحيح، وجهالة اسم الصحابي لا تضرّ.
وتلقّي نعمة الله بالشكر له أثر عظيم في رضا الله تعالى عن العبد ومحبّته إيّاه، فإنّ الله تعالى يُحبّ من عبده أن يُحسن تلقّي نعمته، وقد تقدّم ذكر حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصبح بالحديبية في إثر سماءٍ كانت من الليل؛ فلما انصرف أقبل على الناس؛ فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟!)).
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: ((قال: [أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب])).
وهذا يدلّ على عظيم أثر ما يكون من العبد من عمل القلب ونطق اللسان عند ورود النعمة؛ فمن أحسن تلقّي النعمة وقبلها فقد أدّى نصف الشكر، ومن أعرض عن ذلك فقد كفر النعمة وعرّض نفسه لسخط الله وعقوبته.
وينبغي أن يعي المؤمن هذا الأصل في النعم كلها ما استطاع؛ وما ظنّ المؤمن إذا قال قولاً حسناً يرضى الله به حين يتلقى نعمته ويعرف قدرها، ويفرح بفضل الله عليه بها!!
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وابن عمر أنهما قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة الرحمن على أصحابه حتى فرغ، قال: ((ما لي أراكم سكوتا؟!!
لَلجنُّ كانوا أحسنَ منكم ردا؛ ما قرأت عليهم من مرة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)).
حديث جابر رواه الترمذي وابن عدي والحاكم وصححه وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم.
وحديث ابن عمر رواه البزار وابن جرير والخطيب البغدادي.
وفي كلا الحديثين ضعف في الإسناد، وقال الألباني: (لكن الحديث بمجموع الطريقين لا ينزل عن رتبة الحسن).
والمرتبة الثانية: شكر أداء حقّ النعمة، ويتحقق بأربعة أمور أيضاً:
أحدها: أن يعرف حقّ الله تعالى في تلك النعمة من العلم والعمل والحال؛ فيؤدّيه لله مخلصاً له في ذلك، سليم القلب، طيّب النفس.
والثاني: أن يحفظ تلك النعمة بما أمر الله أن تُحفظ به، وفي مستدرك الحاكم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تعلم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها)) وأصله في صحيح مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: ((لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)).
والثالث: أن لا يقابل النعمة بالمعصية وفي هذا المعنى أحاديث؛ ومن أسوأ ما يقع من العبد أن يستعمل نعمة الله في معصيته.
والرابع: أن يقابل إحسان الله إليه بإحسان العمل، فيعمل عملا صالحا يشكر به ربه على نعمته، ولما كُلّم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وقيامه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا))، وقال الله تعالى: {اعملوا آل داوود شكراً وقليل من عبادي الشكور}.
فمن حقق هذه الأمور فإنه يرجى له أن يكون من الشاكرين، وأن يُفتح له بسبب شكره ما لم يكن يخطر على قلبه، أو يناله عمله، أو يبلغه أمله.