الصدق
معنى الصدق
الصدق نقيض الكذب، ويكون في القول والعمل والحال.
- فصدق القول مطابقته لحقيقة المخبر عنه.
- وصدق العمل مطابقة أدائه لما عُزِم عليه وأريد منه؛ وهذا يستلزم صحة العزيمة واتباع الهدى.
- وصدق الحال مطابقته للهَدْي الصحيح.
فلفظ الصدق يوصف به الحديث، ويوصف به العمل، ويوصف به الحال.
وأصل هذا في اللغة ظاهر وشواهده كثيرة، بل إن الصدق يوصف به السبب الذي لا يكاد يتخلف تأثيره، والأداة التي يطابق عملها ما صنعت له؛ فيقولون: سيفُ صدقٍ، ورمح صدق، وقوس صدق، وثوب صدق، ونحو ذلك إذا كانت جيدة حسنة تؤدي ما صنعت له.
ويقولون: رجلُ صدقٍ، وامرأةُ صدقٍ، وفتيان صدق، وقوم صدق على صفة المدح وهو نقيض قولهم: رجل سوء، وامرأة سوء، ونظائرها.
ويقولون: حملنا عليهم حملة صادقة، وصدقناهم القتال، وضربناهم ضربَ صدق، إذا طابق العمل العزيمة السابقة.
والشواهد على ذلك من كلام العرب وأشعارهم كثيرة جداً، وأذكر منها على سبيل التمثيل والاجتزاء:
قول تأبط شراً:
بل من لعذَّالة خذَّالة أشِب .....حرَّق باللوم جلدي أي تحراق
يقول أهلكتَ مالاً لو قنعت به .....من ثوبِ صدق ومن بزّ وأعلاق
وقول حاتم الطائي:
وفتيان صدق لا ضغائن بينهم .....إذا أرملوا لم يولَعوا بالتلاوم
وقول عنترة:
إذا كذب البرق اللموع لشائم.....فبرقُ حسامي صادق غير كاذب
وقول عمرو بن كلثوم:
ألا أبلغ بني جشم بن بكر..... وتغلب كلَّها نبأً جُلالا
بأن الماجد البطل ابنَ عمرو .....غداة نَطَاعِ قد صدق القتالا
وبالصدق تحصل الثقة والطمأنينة كما قال طرفة بن العبد في مدح سيفه:
أخي ثقة لا ينثني عن ضريبة..... إذا قيل مهلا قال حاجزه قدِ
ويقولون: صدق الوحشي في عدوِه إذا عدا ولم يلتفت حتى ينجو ممن يريد اصطياده.
ومنه قول المخبل السعدي:
فأدارها أُصُلاً وكلف نفسه..... تقريب صادقة النَّجاء نوار
ويقال كذب الوحشي إذا عدا شوطاً ثم نُهِك.
ويقال: صدقت الرؤيا إذا وقع تأويلها، وصدَّق فلان الرؤيا إذا فَعَلَ ما تَصْدُقُ به الرؤيا ، ومنه قوله تعالى: {وناديناه أن يا إبراهيم(104) قد صدَّقت الرؤيا(105)}الصافات؛ أي فعلت ما صَدَقَتْ به الرؤيا.
لأنه رأى في المنام أنه يفعل فعلَ الذبح فصدَّق الرؤيا بفعله.
وفي كتاب الله تعالى: قدم صدق، ومقعد صدق، ومدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، ومبوَّأ صدق.
فالقدم الصدق هو ما قدَّموه من الأعمال الصالحة؛ فهي عند الله يدخرها لهم وسيجدون ثوابها حقاً وصدقاً، وهو ثواب كريم لا لغو فيه ولا تأثيم.
والمقعد الصدق هو المقعد الكريم الذي وعدهم به فسيجدونه حقاً وصدقاً وهو مقعد كريم لا يسوؤهم فيه شيء.
والمدخل الصدق والمخرج الصدق المذكوران في قوله تعالى: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} أي اجعل دخولي في كل ما أدخل فيه دخولاً كريماً لا سوء فيه ولا مذمَّة، واجعل مخرجي من كل ما أخرج منه مخرجاً كريماً لا سوء فيه ولا مذمة، فيكون دخوله بالله وخروجه بالله، يصدقه الله فيه ما وعده به في دخوله وخروجه؛ فيكون العبد فيما يأتي ويذر ضامناً على الله دخوله وخروجه بالعهد الذي بينه وبين ربه؛ فإن من كان دخوله لله صَدَقَهُ الله فأدخله مدخل صدق، ومن كان خروجه لله صدقه الله فأخرجه مخرج صدق؛ فهذه الآية تشمل جميع أحوال العبد.
وما يذكره المفسرون في تفسير هذه الآية من أنواع معيَّنة من المداخل والمخارج إنما هو على سبيل التمثيل.
والخلاصة أن الصدق يكون في حديث المرء، وفي عزيمته وعمله، وفي حاله مع الله؛ فإذا كان العبد صادقاً في هذه الثلاثة كان من الصادقين.
وأما من يقول قول الحق ويعمل بالباطل فهو كاذب منافق كما بيَّن الله حال المنافقين بقوله: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}
والمنافقون على صنفين:
فصنفٌ: منافقون أصليون لم يدخلوا في الإسلام حقيقة وإنما أظهروه ليكيدوا لأهل الإسلام وليأمنوا على أنفسهم.
وصنف: منافقون مرتدون مترددون لم يصدق إيمانهم ولم يثبت قدمهم في الإسلام {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ونكصوا على أعقابهم بما يأتونه مما يخرجون به من الملة، وفي هذا الصنف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة))رواه مسلم في صحيحه وأحمد في المسند من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.
فهؤلاء المنافقون من الصنفين كاذبون فهم بين قائل بلسانه ما ليس في قلبه، وبين متردد متذبذب يمرق من الدين إذا ابتلي بفتنة؛ إذ كانت عزيمتهم في الإيمان غير صادقة.
والفرقان بين هؤلاء المنافقين وبين المؤمنين: الصدق.
ومما يزيد هذا الأمر بياناً ووضوحاً قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)}
وهذه الآية للسلف في تفسيرها قولان مشهوران:
القول الأول: أن الإسلام المثبَت لهم هو مرتبة الإسلام ، وأنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان.
القول الثاني: أن الإسلام المثبَت لهم هو الإسلام الظاهر الذي لا يقتضي أن يكون صاحبه مسلماً حقاً في الباطن ، وذلك كما يحكم لأهل النفاق بالإسلام الظاهر ، وإن كانوا كفاراً في الباطن؛ لأن التعامل مع الناس إنما هو على ما يظهر منهم ؛ فمن أظهر الإسلام قبلنا منه ظاهره ووكلنا سريرته إلى الله ، فيعامل معاملة المسلمين ما لم يتبين لنا بحجة قاطعة ارتداده عن دين الإسلام.
القول الأول: قول الزهري وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل واختاره ابن جرير وابن تيمية وابن كثير وابن رجب.
والقول الثاني: قول مجاهد والشافعي والبخاري ومحمد بن نصر المروزي وأبي المظفر السمعاني والبغوي والشنقيطي واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}قالوا: فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم بنص القرآن ، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فليس بمسلم على الحقيقة، وإنما إسلامه بلسانه دون قلبه.
وأصحاب القول الأول يقولون إن الإيمان المنفي عنهم هو ما تقتضيه مرتبة الإيمان ، فهم لم يعرفوا حقيقة الإيمان وإنما أسلموا على جهل فيثبت لهم حكم الإسلام.
{وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}أي لم تباشر حقيقة الإيمان قلوبكم.
وابن القيم رحمه الله قال بالقول الأول في بدائع الفوائد، وقال بالقول الثاني في إعلام الموقعين.
والتحقيق أن دلالة الآية تَسَعُ القولين، فإذا أريد بنفي الإيمان في قوله تعالى: {لَمْ تُؤْمِنُوا}نفي أصل الإيمان الذي يَثبت به حكم الإسلام ؛ فهؤلاء كفار في الباطن ، مسلمون في الظاهر، فيكون حكمهم حكم المنافقين، وقد يتوب الله على من يشاء منهم ويهديه للإيمان.
وإذا أريد بنفي الإيمان نفي القدر الواجب من الإيمان الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به مؤمنين؛ فهذا لا يستلزم نفي أصل الإيمان والخروج من دين الإسلام، فيثبت لهم حكم الإسلام، وينفى عنهم وصف الإيمان الذي يطلق على من أتى بالقدر الواجب منه.
وهذا كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن))
قيل: من يا رسول الله؟
قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)).
فهذا نفى عنه حقيقة الإيمان والقدر الواجب منه الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به، ولا يقتضي أن من فعل ذلك فهو خارج عن دين الإسلام.
والذي يوضح هذا الأمر أن قول: {أَسْلَمْنَا} قد يقوله الصادق والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّعٍ للإسلام مخادع للذين آمنوا، يُظهر الإسلام ويبطن الكفر.
وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهراً وباطناً، ومعه أصل الإيمان.
ولهذا قال الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
فعلَّق وصف الإيمان بالصدق؛ فمن صدق منهم فهو من أهل الصنف الأول، ومن لم يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاني، وهذا يبيّن أنه قد يكون فيمن نزلت فيهم هذه الآيات من هو من أصحاب الصنف والأول، ومنهم من هو من أصحاب الصنف الثاني، وشملت هذه الآيات الصنفين كليهما.
وهذا مثال بديع لحسن بيان القرآن الكريم، ودلالته على المعاني العظيمة بألفاظ وجيزة.
والمقصود أن الصدق هو الفارق بين أهل النفاق وأهل الإيمان كما دل عليه جعل الإيمان مشروطاً بوجود الصدق {إن كنتم صادقين}.
وقد قسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق فقال تعالى: {ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم}.