دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #35  
قديم 5 ربيع الأول 1443هـ/11-10-2021م, 06:08 PM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,756
افتراضي

(10) كيف بقي الشعر الجاهلي إلى يومنا هذا، وأسباب ضعف الإقبال على دراسته
- قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (10)
ولكن، كيف بقي هذا الشعر إلى يومنا هذا...؟ بقى مادة للغة العرب، وشاهدًا على حرف من العربية، وعلى باب من النحو، وعلى نكتة في البلاغة، وبقى ذخرًا للرواة وركازا يستمد منه شعراء الإسلام، ومنبعًا لتاريخ العرب في الجاهلية، بل بقى كنزا لعلوم العرب جميعًا، لكل علم منه نصيب على قدره. ولكن غاب عنا أعظم ما بقي لهذا الشعر: أن يكون مادة لدراسة البيان المفطور في طبائع البشر، مقارنًا بهذا (البيان) الذي فات طاقة بلغاء الجاهلية، وكانت له خصائص ظاهرة، تجعل كل مقتدر بليغ مبين، وكل متذوق للبلاغة والبيان، لا يملك إلا الإقرار له، بأنه من غير جنس ما يعده سمعه وذوقه، وأن مبلغه إلى الناس نبي
[مداخل إعجاز القرآن: 172]
مرسل، وأنه لا يطيق أن يختلقه أو يفتريه، لأنه بشر لا يدخل في طوقه إلا ما يدخل مثله في طوق البشر، وأنه إن تقول غير ما أمر بتبليغه وتلاوته، بأن للبشر كذبه، وحق عليه قول منزله من السماء سبحانه: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين} [الحاقة: 44 – 47].
ولسائل أن يسأل: فحدثني إذن، لم بقى شعر الجاهلية بهذه المنزلة لم يتجاوزها ...؟ وكيف غاب هذا الذي زعمت عن أئمة العلم من قبلك...؟ وكيف أخطأه علماء البلاغة، وهم الذين قصدوا بعلمهم قصد الإبانة عن إعجاز القرآن، وهم أقرب بالتنزيل عهدًا منا ومنك؟ ... وما الذي صد العقول البليغة عن سلوك هذا المنهج، وما نهضت إلا للمراماة دون إعجاز القرآن، في القديم والحديث؟
وحق علي أن أجيب، ولكن يقتضيني جواب هذه المسألة أن اقتص قصة أخرى، لا أستوعب القول في حكايتها تفصيلاً، بل أوجز المقال فيها إيجازًا مدفوعًا عنه الخلل ما أطقت، وعلى سامعها أن يدفع عن نفسه الغفلة ما أطاق!
فأهل الجاهلية، هم من وصفت لك منزلتهم من البيان، وقدرتهم على تصريفه بألسنتهم وتمكنهم من تذوقه بأدق حاسة في قلوبهم ونفوسهم وعلمهم بأسراره، وتغلغلهم في إدراك
[مداخل إعجاز القرآن: 173]
الحجاز الفاصل بين ما هو من نحو بيان البشر، وما ليس من نحو بيانهم، أهل الجاهلية هؤلاء، هم الذين جاءهم كتاب من السماء بلسانهم، هو في آيات الله بمنزلة عصا موسى، وإبراء الأكمه والأبرص في آيات أنبيائه، لتكون تلاوته على أسماعهم على قلب رجل منهم، وأن هذا الرجل نبي مرسل، عليهم أن يتبعوه ويستجيبوا لما دعاهم إليه، فلما كذبوه وأنكروا نبوته تحداهم أن يأتوا بمثل هذا الذي يسمعون في نظمه وبيانه، وألح عليهم يتحداهم في آيات منه كثيرة، ولكنهم ألجموا ألسنتهم إلجامًا عن معارضته في بيانه، لأنهم وجدوا في أنفسهم مفارقته لبيان البشر وجدانا ألجأهم إلى ترك المعارضة، إنصافًا للبيان أن يجار على حقه، وتنزيها له أن يزري به جورهم عن هذا الحق.
وعلى الذي تلقوه به من اللدد في الخصومة والعناد، لم يلبث أن استجاب له النفر بعد النفر، إقرارًا وتسليمًا بأن الكتاب كلام الله، وأن الرجل نبي الله، ثم تتابع إيمان المؤمنين منهم، حتى لم تبق دار من دور أهل الجاهلية إلا دخلها الإسلام أو عمها، وألقوا إليه المقادة، على أن لا يتم إيمان أحدهم حتى يكون هواه تبعًا للذي جاء به، وأنه لن يؤمن أحدهم حتى يكون هذا الرجل، بأبي هو وأمي أحب إليه من أهله وولده. وهذه أعمالهم تصدق ذلك كله.
[مداخل إعجاز القرآن: 174]
فأقبل كل بليغ منهم مبين، وكل متذوق للبيان ناقد، يتحفظ ما نزل من القرآن ويتلوه ويتعبد به، ويتتبع تنزيله تتبع الحريص المتلهف، ويصيح له وينصت حين يتلى في الصلوات وعلى المنابر، يوما بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام، وكلهم مخبت خاشع لذكر الله وما نزل من الحق، يصدق إخباتهم وخشوعهم، ما قال الله سبحانه وتعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدي الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} [الزمر: 23].
ثم صار للقرآن في جزيرة العرب دوى كدوي للنحل، وخشعت أسماع للجاهلية كانت بالأمس، للذي يتلى عليهم من كلام الله الذي خلقهم، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأخبتت ألسنة للجاهلية كانت بالأمس، إقرارًا لهذا القرآن بالعبودية، وماجت بهم جزيرة العرب مهللين مكبرين مسبحين، كلما علوا شرفًا أو هبطوا واديًا، وأقاموا تالين للقرآن بالغد والآصال، وبالليل والأسحار، وانطلقوا يتتبعون سنن نبيهم ويتلقفونها، وخلعوا عن قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم، وألسنتهم ظلمة الجاهلية، ودخلوا بألسنتهم وعقولهم ونفوسهم وقلوبهم في نور الإسلام.
[مداخل إعجاز القرآن: 175]

ثم طار بهم هذا القرآن في كل وجه، يدعون الناس أسودهم وأحمرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويحملون إليهم هذا الكتاب المعجز بيانه لبيان البشر، والذي نزل بلسانهم حجة على الخلق، وهدى يخرجهم من الظلمات إلى النور فكان من أمرهم يومئذ ما وصفه ابن سلام في كتاب (طبقات فحول الشعراء) حين ذكر مقالة عمر بن الخطاب في أهل الجاهلية: (كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه). فقال ابن سلام تعليقًا على ذلك: (فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب في الأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير).
ولا يغررك ما قال ابن سلام، فتحسب أن أهل الجاهلية الذين هداهم الله للإسلام، طرحوا شعر جاهليتهم دبر آذانهم، فانصرفوا عنه صما وبكما، وخلعوه عن عقولهم وألسنتهم كما خلعوا جاهليتهم، فهذا باطل تكذبه أخبارهم، وينقضه منطق طبائع البشر، وتاريخ حياتهم، بل كان أكب رما لحقه من الضيم: أن
[مداخل إعجاز القرآن: 176]
نازعه القرآن صرف همهم إليه، فكان نصيبه من إنشادهم وتقصيدهم القصائد، أقل مما كان في جاهليتهم، ولكنه بقى مع ذلك هو الذي يؤبون إليه إذا شق عليهم طول مدارسة القرآن، وهو الذي يستريحون إليه إذا فرغوا مما فرض عليهم ربهم، وسن لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم وظل ذلك دأبهم في أول إسلامهم، ونشأ أبناؤهم يسمعون منهم شعر جاهليتهم، ويستمعون إلى مكنوز بيانهم في ألسنتهم، فيخرجون أيضًا مركوز ذلك البيان في طباعهم، وينتقل ذلك بما يشبه العدوى إلى مُسْلِمَة الأعاجم وأبنائهم.
وحيث نزل أهل الجاهلية الذين أسلموا، نزل معهم الذكر الحكيم، ونزل شعر الجاهلية وتدارسوه وتناشدوه، وقوموا به لسان الذين أسلموا من غير العرب وأصبح زاد المتفقه في معرفة معاني كتاب ربه، هو مدارسة الشعر الجاهلي، لأنه لا يستقل أحد بفهم القرآن حتى يستقل بفهمه وحسبك أن تعرف مصداق ذلك قول الشافعي فيما بعد، في القرن الثاني من الهجرة: >لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله، إلا رجلاً عارفًا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
[مداخل إعجاز القرآن: 177]
وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن<. فليس يكفي أن يكون عارفًا بالشعر، بل بصيرًا به أشد البصر، كما قال الشافعي رحمه الله، والذي قاله الشافعي بعد قرن، هو الذي جرى عليه في أول الإسلام.
واستفاضت بالمسلمين الفتوح، واستفاض معهم شعر جاهليتهم، وأسلمت الأمم ودخلت في العربية كما دخلت في الإسلام، ونزل بيان القرآن كالغيث على فطرة جديدة، فطرة أهل الألسنة غير العربية، بعد أن رويت من بيان الجاهلية في الشعر الجاهلي. وامتزجت العرب من الصحابة والتابعين وأبنائهم، بأهل هذه الألسنة التي دخلت في العربية، فنشأ من امتزاج ذلك كله بيان جديد، ظل ينتقل ويتغير ويتبدل جيلاً بعد جيل، ولكن بقى أهله بعد ذلك كله، محتفظين بقدرة عنيدة حاضرة؛ هي تذوق البيان تذوقًا عليمًا، يعينهم على تمييز بيان البشر كما تعهده سلائقهم وفطرهم، من بيان القرآن الذي يفارق خصائص بيانهم من كل وجه.
ثم فارت الأرض بالإسلام من حد الصين شرقًا إلى حد الأندلس غربًا، ومن حد بلاد الروم شمالاً إلى حد الهند جنوبًا،
[مداخل إعجاز القرآن: 178]
وسُمِع دوي القرآن العربي في أرجاء الأرض المعمورة. وقامت المساجد في كل قرية ومدينة، وازدحمت في ساحاتها صفوف عباد الرحمن، وعلا منابرها الدعاة إلى الحق، وتحلقت الحلق في كل مسجد، وتداعى إليها طلاب العلم، فطائفة تتلقى القرآن من قرائه، وطائفة تدرس تفسير آياته، وطائفة تروى حديث رسول الله عن حفاظه، وطائفة تأخذ العربية عن شيوخها، وطائفة تتلقف شعر الجاهلية والإسلام عن رواته، طوائف بعد طوائف في أنحاء المساجد المتدانية، طوائف من كل لون وجنس ولسان، كلهم طالب علم، وكلهم يتنقل من مجلس شيخ إلى مجلس شيخ آخر، فكل ذلك علم لا يستغني عنه مسلم تالٍ للقرآن. لا بل، حتى أسواقهم قام الشعراء ينشدون شعرهم، أو يتنافرون به ويتهاجون، والرواة تحفظ، والناس يقبلون ينصتون، وينقلبون يتجادلون، وعجَّت نواحي الأرض بالقرآن وباللسان العربي، لا فرق بين ديار العجم كانت وديار العرب.
وبعد دهر نبتت نابتة الشيطان في أهل كل دين، وجاءوا بالمرآة والجدل، وباللدد والخصام، وشققوا الكلام بالرأي والهوى، فنشأت بوادر من النظر في كل علم، وعندئذ نجم الخلاف، وانتهى الخلاف إلى الجرأة، وأفضت الجرأة يوما إلى رجل في أواخر دولة
[مداخل إعجاز القرآن: 179]
بني أمية، يقال له (الجعد بن درهم)، كان شيطانًا خبيث المذهب، تلقى مذهبه عن رجل من أبناء اليهود، يقال له: (طالوت)؛ فكذب القرآن في اتخاذ إبراهيم خليلاً، وفي تكلم موسى، إلى هذا وشبهه، وكان من قوله: إن فصاحة القرآن غير معجزة وإن الناس قادرون على مثلها وأحسن منها!!... فضحى به خالد بن عبد الله القسري في عيد الأضحى، في نحو سنة 124 من الهجرة، وكلام الجعد كما ترى، استطالة رجل جرئ اللسان، خبيث المنبت، بلا حجة من تاريخ أو عقل.
ولم تكد دولة بني العباس ترسي قواعدها حتى دخلت بعض العقول إلى فحص (إعجاز القرآن)، من باب غير السفه والاستطالة، فقام بالأمر كهف المعتزلة ولسانها: (أبو اسحق إبراهيم بن سيار النظام) فأتاه من قبل الرأي والنظر، حتى زعم أن الله قد صرف العرب عن معارضة القرآن، مع قدرتهم عليها، فكانت هذه (الصَّرْفَة) هي المعجزة، أما معجزة القرآن، فهي في إخباره بكل غيب مضى، وكل غيب سيأتي. وهذه مقالة لا أصل لها إلا الحيرة والانبهار من هذا الذي أعجز أهل الجاهلية وأسكتهم. وهب قوم يعارضونه ويجادلونه، منهم صاحبه أبو عثمان الجاحظ، فألف كتابه في (نظم القرآن) وأنه غاية في البلاغة، وقال الجاحظ
[مداخل إعجاز القرآن: 180]
وغيره ومن يليهم، ولكن ظل الأمر محصورًا في إثبات (الصَّرْفَة) أو إبطالها، وفي طرق من الاستدلال على بلاغة القرآن وسلامته مما يشين لفظه، وخلوه من التناقض، واشتماله على المعاني الدقيقة، وما فيه من نبأ الغيب، إلى آخر ما تجده مبسوطًا في كتب القوم. والذي عرفت قولنا فيه فيما مضى من كلامنا.
ثم كثرت اللجاجة بين هذه الفئات ممن عرفوا باسم (المتكلمين) وكان أمرهم أمر جدال وبسطة لسان. وغلبة حجة، ومناهضة دليل بدليل، حتى إذا صارت مسألة (إعجاز القرآن) مسألة تستوجب أن ينبري لها رجل صادق، انبرى لهؤلاء المتكلمين (أبو بكر الباقلاني) (المتوفى سنة 403)، والناس يومئذ بين رجلين كما قال هو نفسه: (ذاهب عن الحق، ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود في صنعته فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين ... وذكر لي عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غبيره من الكلام، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه وليس هذا ببدع عن ملحدة هذا العصر. وقد سبقهم إلى عظم ما يقولون إخوانهم من ملحدة قريش وغيرهم)، (كتابه: إعجاز القرآن ص5، 6) فهذا هو الذي حفزه وأهاجه، حتى كتب كتابه المعروف (إعجاز القرآن).
[مداخل إعجاز القرآن: 181]
وكتب الباقلاني كتابه وأهل اللسان العربي يومئذ هم الناس، ولم يزل تذوقهم للبيان ما وصفت لك، تذوق ملتبس بالطباع، مردود إلى السلائق؛ مشحوذ بمدارسة الشعر وسماعه وروايته. ولكن لم يضر جمهور هذه الطباع شيئًا، أن استفاض الجدل وظهر سلطانه، وأن صارت كل فرقة تمضغ كلامًا، تناضل به عن رأيها وتقطع به حجة خصمها، طلبًا للغلبة، لا تمحيصًا للرأي، وفحصًا عن الحق.
ورضى الله عن أبي بكر الباقلاني، فقد جمع في كتابه خيرًا كثيرًا، واستفتح بسليم فطرته أبوابًا كانت قبله مغلقة، وكشف عن وجوه البلاغة حجابًا مستورًا. ولكنه زل زلة كان لها بعد ذلك آثار متلاحقة، وإن لم يقصد بها هو قصد العاقبة التي انتهيت إليها.
كان الباقلاني حقيقًا أن ينهج النهج الذي أدانا إليه تمحيص مسألة (الإعجاز)، ويومئذ يجعل الشعر الجاهلي أصلاً في دراسة بيان عرب الجاهلية، من ناحية تمثيله لخصائص بيان البشر، والباقلاني رضي الله عنه كان يجد في نفسه وجدانًا واضحًا أن خصائص بيان القرآن مفارقة لخصائص بيان البشر، وقد ألمح إلى ذلك في كتابه، كما ألمح إليه من سبقه. بيد أن جدل المتكلمين قبله وعلى عهده، وخوض الملحدين في أصول الدين، كما قال،
[مداخل إعجاز القرآن: 182]
ومنهجهم في اللجاجة وطلب الغلبة، كل ذلك لم يدعه حتى استغرقه في الرد عليهم، على مثل منهاجهم من النظر. ثم دارت به الدنيا، لما بلغه أن بعض جهالهم يعدل القرآن ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام.
وأنت تستطيع أن تقرا كتابه فصلاً فصلاً، لتجد مصداق ما أقول لك. حتى إذا انتهى إلى الذي هاجه، من موازنة القرآن ببعض الأشعار، هب إلى تسفيه هذه الموازنة، فدعاك في أوسط كتابه أن تعمد معه إلى ما لا تشك في جودته من شعر امرئ القيس، وما لا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، كما قال في كتابه (ص: 241)، فطرح بين يديك هذه القصيدة وجعل يفصلها وينقدها ويمحو من محاسنها ويثبت، ويقف بك على مواضع خللها، ويفضي بك إلى مكان ضعفها؛ ولم يزل يعريها حتى كشف الغطاء عن عوارها، ثم ختم ذلك بقوله: >وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها، تتفاوت في أبياتها تفاوتًا بينًا في الجودة والرداءة، والسلاسة والانعقاد، والسلامة والانحلال، والتمكن والاستصعاب، والتسهل والاسترسال، والتوحش والاستكراه، وله شركاء في نظائرها، ومنازعون في محاسنها ومعارضون في بدائعها<.
[مداخل إعجاز القرآن: 183]
فلما انتهى من ذلك افتتح فصلا شريفًا نبيلاً، ذكر فيه آيات من القرآن، وحاول أن يقفك على بدائع نظمها وبيانها، وهذا الفصل هو أدل الدليل على أن الباقلاني، لو كان استقام له المنهج الذي ذكرناه، لبلغ فيه غاية يسبق فيها المتقدم، ويكد فيها جهد المتأخر، ولكنه لم يزد في هذا الفصل على أن جعل يوقفك على بيان شرف الآيات لفظًا ومعنى، ولطيف حكايتها، وتلاؤم رصفها، وتشاكل نظامها، وأن نظم القرآن لا يتفاوت في شيء، ولا يتباين في أمر، ولا يختل في حال، بل له المثل الأعلى، والفضل الأسنى (كتابه ص302، 305). وذكر تناسب الآيات في البلاغة والإبداع، وتماثلها في السلاسة والإعراب، وانفرادها بذلك الأسلوب، وتخصصها بذلك الترتيب أما غيرها من الكلام فهو يضرب في مجاريه، ويختل تصرفه في معانيه وهو كثير التلون، دائم التغير والتنكر ويقف بك على بديع مستحسن، ويعقبه بقبيح مستهجن، ويأتيك باللفظة المستنكرة، بين الكلمات التي هي كاللآلئ الزهر، (كتابه ص313، 314). ثم انتهى إلى قوله في القرآن: (وعلى هذا فقس بحثك عن شرف الكلام، وما له من علو الشأن، لا يطلب مطلبًا إلا انفتح، ولا يسلك قلبًا إلا انشرح، ولا يذهب مذهبًا إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضربًا إلا بلغ فيه
[مداخل إعجاز القرآن: 184]
السماء، ولا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى فوائدها إلا قصرت، ولا تظفر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها إلا قد أخللت إن الذي عارض القرآن بشعر امرئ القيس، لأضل من حمار باهلة، وأحمق من هبنقة، (كتابه ص321، 322).
وصدق الباقلاني في كل ما قال، إلا أنه لم يزد على أن بين خلو القرآن من الاختلاف والتغير، وبراءته من كل ما يلحق كلام الناس من عيب وخلل، وكل ما هو قرين لضعف طبائعهم، وإن استحكمت قواهم، ودال على عماهم عن كثير من الحق، وإن استنارت بصائرهم. ولعمري إنه لحق لا ينال منه الباطل، ولكنه غير الذي ينبغي أن نتطلبه من كشف أصول البيان التي يفارق بها بيان القرآن بيان البشر من الوجه الذي فصلناه.
وليس هذا موضوع بحثنا الآن، ولكن بحثنا عن (الشعر الجاهلي) وما كان من أمره فهذه الموازنة التي هاجت الباقلاني، كما ذكر هو، حملته على هتك الستر عن معلقة امرئ القيس، ليكشف للناس عيبها وخللها، لا ليستخرج منها خصائص بيانهم، وكيف كانت هذه الخصائص مفارقة لخصائص بيان القرآن. فلما زل الباقلاني هذه الزلة، وأخطأ الطريق، زل به من بعده وأخطأه، أخذوا الشعر الجاهلي كله هذا المأخذ، ولكن العجب بعد ذلك،
[مداخل إعجاز القرآن: 185]
أن (الشعر الجاهلي) ظل عند البلغاء وجمهور الناس هو مثقف الألسنة، والحجة على اللغة، والشاهد على النحو، وما إلى ذلك ولكنهم إذا جاءوا لذكر القرآن وإعجازه، اتخذوه هدفًا للنقد والتفلية، إظهار العيب، وتبيين الخلل بإزاء كلام برئ من كل عيب وخلل، فبقى الأمر أمر موازنة لا عدل فيها. كان حسبهم من الدليل أن أهل الجاهلية، بتركهم معارضة القرآن بشعرهم أو كلامهم، هو إقرار لا معقب عليه بفضل هذا القرآن على شعرهم وكلامهم، فلم تكن بالباقلاني حاجة إلى سلوك هذا الطريق الذي سلكه، إلا ما حمله عليه ما نعق به جاهل من جهال الملحدة من الموازنة بين الكلامين، وتفضيل شعرهم على القرآن!!
وكان قد نازع ذلك باب آخر من اللجاجة، في الموازنة بين شعر الجاهلية، وشعر المحدثين من شعراء الإسلام، ظل الجدل في تفضيل أحدهما على الآخر بابًا تقتحمه الألسنة طلبًا للمغالبة الظهور، وداخل ذلك من الإزراء على الشعر الجاهلي وعيبه ما داخل، فكان هذا أيضًا صارفًا عن مدارسته على الوجه الذي تطلبناه في صدر حديثنا وفي خلال ذلك كله، تجمعت على فهم الشعر الجاهلي أخطاء شديدة الخطر، غشت حققته بحجاب كثيف من الغموض، زاده كثافة ما لحق الشعر الجاهلي من التشتت
[مداخل إعجاز القرآن: 186]
والضياع، وما أصابه من اختلال الرواية بالزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، حتى اختلطت فيه المعاني أحيانًا اختلاطًا، سهل لكل عائب أن يقول فيه ما عن له. ومع كل ذلك أيضًا، بقى الشعر الجاهلي، مثقفًا للألسنة، ومعدنا لشاهد اللغة والنحو والبلاغة.
... فليت شعري أي بلاء ترى أصاب هذا الشعر!!
ثم تتابعت العصور على ذلك، على ما هو أشنع منه، حتى أفضينا به في هذا العصر الحديث إلى أقبح الشناعة، يوم فرض الاستعمار الغربي الغازي، على مدارسنا منهجًا من الدراسة لا يقوم على أصل صحيح، كان يرمى في نهايته إلى إضعاف دراسة العربية إضعافًا شائنًا، لا مثيل له في كل لغات العالم التي يتلقاها الشباب في معاهد التعليم على اختلاف درجاتها، ثم طمت الشناعة بعد سنين، حين عزلت اللغة العربية كلها عزلاً مقصودًا عن كل علم وفن، أصبح الشباب يتعلم لغته على أنها درس محدد، هو ثقيل بهذا التحديد المجرم على كل نفس، وبخاصة نفس الشباب الغض، ثم لما أنشئت الجامعة، دخلها هؤلاء الشباب على ما هم فيه من الملل بلغتهم، ومن الاستهانة بأمرها، طلع قرن الشيطان بفتنة (الشعر الجاهلي) والتشكيك في صحة روايته،
[مداخل إعجاز القرآن: 187]
وطار الشر إلى الصحافة، فاتخذت اللغة القديمة كلها، لا الشعر الجاهلي وحده، مادة للهزء والسخرية، وللنكتة والزراية، لا بل تندرًا بكل من بقى على شيء من المحافظة على سلامة اللغة، سلامة هي كإبراء الذمة لا أكثر ولا أقل.
هذا تاريخ مختصر للأسباب التي وقفت بالشعر الجاهلي حيث وقف قديمًا، فحالت بين علماء البلاغة والمنهج الذي كشفته وبينته، وكان لزامًا عليهم وعلينا أن نسلكه لدراسة (إعجاز القرآن) دراسة صحيحة سليمة من الآفات. وهو تاريخ أشد اختصارًا للذي تبع ذلك في العصر الحديث، لما صار (الشعر الجاهلي) ملهاة يتلهى بها كل من ملك لسانا ينطق، حتى ألقى ذلك كله ظلا من الكآبة والظلمة على دراسات المحدثين في الجامعة وغير الجامعة، حين يدرس أحدهم هذا الشعر، هذا الشعر الذي كان حين أنزل الله القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم، نورًا يضيء ظلمات الجاهلية، ويعكف أهله على بيانه عكف الوثني للصنم، يسجدون لآياته سجدة خاشعة لم يسجدوا مثلها لأوثانهم قط. فقد كانوا عبدة البيان قبل أن يكونوا عبدة الأوثان! وقد سمعنا بمن استخف منهم بأوثانهم، لم نسمع قط بأحد منهم استخف ببيانهم.
[مداخل إعجاز القرآن: 188]
وأنت خليق أن تعرف أن الشيء الذي طلبته واحتججت له، وحاولت أن أكشف عن منهاجه ومذهبه، إنما يتعلق بخصائص البيان في القرآن، وخصائص بيان البشر على اختلاف ألسنتهم، وأن مخرج هذا غير مخرج هذا، وأن (الشعر الجاهلي)، إنما هو مادة الدراسة الأولى، لأن القرآن نزل بلسان العرب، والذين نزل عليهم ثم تحداهم وأعجزهم، هم أصحاب هذا الشعر والمفتونون به وببيانه. وهذا باب غير الباب الذي افتتحه الباقلاني، ثم فجر عيونه إمام البلاغة (عبد القاهر الجرجاني) (المتوفى سنة 474) في كتابيه (دلائل الإعجاز)، و(أسرار البلاغة)، ثم أبدع فيه العلماء ما أبدعوا، وزادوا فيه عليه ونقصوا. وكان ذلك بعد أن أغلق الباب الذي فصلنا القول فيه، وكان هو الجدير بأن يفتتحه الباقلاني وعبد القاهر). [مداخل إعجاز القرآن: 172-189]


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مداخل, كتاب


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:11 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir