(9) أوجه دراسة الشعر الجاهلي
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (9)
وهذا الذي أفضيت إليه من صفة الشعر الجاهلي كما عرفته، أمر ممكن لمن اتخذ لهذه المعرفة أسبابها، بلا خلط ولا لبس ولا تهاون ولا ملل. وهذه المعرفة أول الطريق إلى دراسة شعر أهل الجاهلية، من الوجه الذي يتيح لنا أن نستخلص منه دلالته أنه شعر قد انفرد بخصائصه عن كل شعر جاء بعده من شعر أهل الإسلام، فإذا صح ذلك، وهو عندي صحيح لا أشك فيه، وجب أن ندرس هذا الشعر دراسة متعمقة، ملتمسين فيه هذه القدرة البيانية التي يمتاز بها أهل الجاهلية عمن جاء بعدهم، ومستنبطين من ضروب البيان المختلفة التي أطاقتها قوى لغتهم وألسنتهم. فإذا تم لنا ذلك، فمن الممكن القريب يومئذ أن نتلمس في القرآن الذي أعجزهم بيانه، خصائص هذا البيان المفارق لبيان البشر.
وههنا أمر له خطر عظيم، فلا تظنن أن الشأن في دراسة (الشعر الجاهلي) هو شأن المعاني التي تناولها، والأغراض التي قيل فيها، والصور التي انطوى عليها، واللغة التي استخدمها من حيث الفصاحة والعذوبة وما يجرى مجراهما، بل الشأن في ذلك أبعد
[مداخل إعجاز القرآن: 170]
وأعمق وأعوص؛ إنه تمييز القدرة على البيان، وتجريد ضروب هذا (البيان) على اختلافها، واستخلاص الخصائص التي أتاحت للغتهم أن تكون معدنا للسمو، بالإبانة عن جوهر إحساسهم، سموا يجعل للكلام حياة كنفخ الروح في الجسد القائم، وكقوة الإبصار في العين الجامدة، وكسجية النطق في البضعة المتلجلجة المسماة باللسان.
فإذا اتخذنا لهذه الدراسة أهبتها، وأعددنا لها من الصبر والجد والحذر ما ينبغي لها، واللسان لساننا، والقوم أسلافنا، والسلائق مغروزة في أعماق طباعنا، ثم أصلنا للدراسة مناهج تعين عليها، واستحدثنا لها أسلوبًا يلائمها، فعندئذ يدنو الذي نراه بعيدًا، وينجلي لنا ما كان غامضًا، ويكشف لنا (الشعر الجاهلي) عن أروع روائعه، ويبذل لنا ما استكن فيه واستتر من أصول (البيان) الإنساني، بغير تخصيص للغة العرب. فنراها ماثلة على أدق وجوهه وأغمضها، وفي أتم صوره وأكملها.
وهذا الذي أفضت فيه من ذكر الشعر الجاهلي، وما وجدته فيه في نفسي، باب عظيم، أسأل الله أن يعينني بحوله وقوته، حتى أكشف عنه وأجليه، وحتى أؤيده بكل برهان قاطع على تميزه عن كل شعر العرب بعده، وبذلك يكون هو نفسه دليلاً حاسمًا على
[مداخل إعجاز القرآن: 171]
صحة روايته، وعلى أن الرواة لم ينحلوه الشعراء افتراء عليهم.
وغير خاف أن الذي وصلنا إلى هذا اليوم من شعر الجاهلية، قليل مما روته الرواة منه، والرواة القدماء أنفسهم لم يصلهم من شعرها إلا الذي قال أبو عمرو بن العلاء، في أوائل القرن الثاني من الهجرة: >ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا جاءكم علم وشعر كثير<.
ومع ذلك فهذا القليل مجزئ إن شاء الله في الدلالة على ما نريد من الإبانة عن تميز شعرهم عن شعر من جاء بعدهم، وفيه جم واف من خصائص البيان التي امتاز بها أهل الجاهلية). [مداخل إعجاز القرآن: 170-172]