أحوال الصادقين
للصادق أحوال يُبتلى بها وأحوال يَستأنس بها:
فمن الأحوال التي يبتلى بها: أن من تجرد للصدق وجد وحشة في أوّل الطريق لقلة السالكين؛ فإن أكثر الناس يجرون وراء حظوظهم وحظوظ معظَّميهم، وغالب الذين يعبدون الله يعبدونه بما يحبون من الأحوال التي استأنسوا بها ووجدوا عليها معظَّميهم لغلبة الأنس بالخلق عندهم على الأنس بالحق؛ فيكون الصادق بينهم كالغريب؛ لا يعنيه ما يركضون وراءه، ولا يشجيه ما يأسفون عليه، وما يعنيه لا يعنيهم، وما يشجيه لا يشجيهم؛ فحاله أشبه شيء بالغريب وعابر السبيل.
لكن عزاؤه أحسن العزاء وأفضله وأكرمه فإنه لا يشقى مع الله أحد من الصادقين؛ ذلك أن الله تعالى قد ضمن لمن اتبع هداه الله أن لا يضلَّ ولا يشقى، وأن لا يخاف ولا يحزن.
ومن صدق الله صدقه الله، ومن صدق الله كان صدقه خيراً له؛ فما يجعله الله للصادق من الهداية للبر والطمأنينة بالحق، والبصيرة في الدين ، والتصديق بوعد الله ما هو أحسن العوض عن ذلك كله، ثم إن نصيب الصادق من الرفقة الصالحة خير من نصيب غيره لمن أبصر الحقائق ولم تغرَّه الظواهر؛ فإنه وإن كان من يصاحبهم ويعرف صدقهم في حياته قلَّة؛ فإنه داخل في زمرة الصادقين الذين جعل الله بعضهم أولياء بعض؛ ففي شعوره بالانتماء لجماعة الصادقين الذين أمره الله أن يكون معهم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} ما يذهب عنه وحشة الغربة، فهو معهم بروحه وقلبه ، وهو معهم بصدقه في قوله وعمله وحاله، وهم بسبب صدقهم يتوافقون في المبادئ والمواقف وتأتلف قلوبهم وإن كانوا متفرقين، وكلما كان العبد أحسن صدقاً كان أقرب لإصابة الحق وموافقة أهله.
ثم ما يشمله من دعواتهم واستغفارهم وإن تباعدوا وجهل بعضهم حال بعض ما هو أعظم من نفع أصحاب الدنيا بعضهم لبعض؛ فإن ثمرة الصداقة والصحبة على الحقيقة إنما هي في المنفعة التي تعود بها على صاحبها؛ وقد جعل الله للمؤمن الصادق من ذلك أعظم النفع في الدنيا من الحقوق الواجبة التي أوجبها له ، ويؤديها له إخوانه بإحسان وطيب نفس يتقربون بذلك إلى الله تعالى، وكذلك النفع المتعدي المتسلسل من ثواب الدلالة على الخير والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وبركات ذلك كله، ودعوات المؤمنين واستغفارهم ونصحهم.
وأما في الآخرة فما ذكره الله من ألفتهم واجتماعهم واستبشار بعضهم ببعض وتقابلهم في النعيم المقيم وهم في غاية الغبطة والابتهاج والأنس والسرور بهذا الاجتماع؛ وفي هذا تنبيه على تعويضهم عما يفوتهم لمَّا تركوا موافقة الناس على باطلهم، والاستئناس بهم في الباطل.
والإفاضة في ذكر هذه المعاني العظيمة واللطائف الكريمة وبيانها ووصف أحوالها يطول جداً وحسبك الاكتفاء هنا بالتنبيه، وأَعْمِل فكرك فيما وراء ذلك ترى عجباً.