تحرير مذاهب الصحابة رضي الله عنهم في كتابة العلم:
اختلف الصحابة رضي الله عنهم في كتابة العلم على أقوال تقدم ذكر خلاصتها، وقد رُوي عن بعضهم في ذلك آثار صريحة في بيان مذاهبهم في كتابة العلم، وتعددت الروايات عن بعضهم بما يحتاج معه إلى جمع ودراسة ليتحرر بيان مذهبهم.
ولذلك جمعت في هذا المبحث ما وقفت عليه من الآثار المروية عن علماء الصحابة رضي الله عنهم في كتابة العلم.
1. تحرير مذهب عمر بن الخطاب(ت:23هـ) رضي الله عنه في كتابة العلم:
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد روي عنه أنه همّ بكتابة السنن، واستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخار في ذلك شهراً، ثم عزم على أن لا يكتبها، وأمر بإتلاف ما كتب، وأمر عمّاله أن لا يخلّدوا عنه كتاباً من الكتب التي يبعث بها إليهم، وكان في كتبه علم كثير، وقد روي بعض ما في تلك الكتب، وتناقله الرواة.
- قال معمر عن الزهري، عن عروة، أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: «إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً» رواه معمر بن راشد في جامعه، ومن طريقه البيهقي في المدخل إلى السنن، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب البغدادي في تقييد العلم.
- وقال أبو اليمان الحكم بن نافع: أخبرني شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنن فاستشار فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه؛ فأشار عليه عامّتهم بذلك؛ فلبث عمرُ شهراً يستخير الله في ذلك، شاكّاً فيه، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له؛ فقال: « إني قد كنتُ ذكرتُ لكم من كتاب السنن ما قد علمتم، ثم تذكّرت فإذا أناسٌ من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً» فترك كتاب السنن». رواه الخطيب البغدادي في تقييد العلم، وروى نحوه من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب به.
وعروة وإن لم يدرك السماع من عمر بن الخطاب إلا أن له عناية بالسير والأخبار وهو مقدّم فيها، مع قيام الاحتمال القوي بكونه سمع ذلك من بعض الصحابة الذين استشارهم عمر أو شهدوا ذلك الأمر، ويشهد له مرسل يحيى بن جعدة.
- وقال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: (من كان عنده شيء من ذلك فليمْحُه). رواه أبو خيثمة في كتاب العلم، والخطيب البغدادي في تقييد العلم، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
- وقال عبد الله بن العلاء بن زبر: سألت القاسم يملي عليَّ أحاديث؛ فقال: إنّ الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب؛ فقام عمر على المنبر؛ فأنشد الناس أن يأتوه بها؛ فلما أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: (مثناة كمثناة أهل الكتاب!!)
قال: (فمنعني القاسم يومئذ أن أكتب حديثاً). رواه ابن سعد في الطبقات، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخ دمشق.
شرح قول عمر: (مثناة كمثناة أهل الكتاب)
ومثناة أهل الكتاب كتاب وضعوه أحلوا فيه بعض ما حرّم الله، وحرفوا فيه ما أنزل الله؛ فأقبلوا على مثناتهم وضيعوا كتاب ربّهم.
- قال أبو عبيد القاسم بن سلام: (سألتُ رجلاً من أهل العلم بالكتب الأُوَل قد عرفها وقرأها عن المثناة؛ فقال: إنَّ الأحبار والرهبان من بني إسرائيل بعد موسى وضعوا كتاباً فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله تبارك وتعالى؛ فسمّوه المثناة، كأنه يعني أنهم أحلوا فيه ما شاءوا وحرموا فيه ما شاءوا على خلاف كتاب الله تبارك وتعالى).
وقد روي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ من علامات الساعة أن تُتلى المثناة لا يُنكرها أحد.
- قال الوليد بن هشام: حدثنا الحارث بن يزيد الحمصي، عن عمرو بن قيس، قال: وفدت مع أبي إلى يزيد بن معاوية بحوّارين حين توفي معاوية رضي الله عنه، نعزيه ونهنيه بالخلافة، فإذا رجل في مسجدها يقول: (ألا إنَّ من أشراطِ الساعةِ أن يُرفع الأشرارُ، ويوضع الأخيار، ألا إنَّ من أشراط الساعة أن يظهر القولُ، ويُخزن العملُ، ألا إنَّ من أشراط الساعة أن تتلى المثناة فلا يوجد من يغيرها).
قيل له: وما المثناة؟
قال: «ما استُكْتب من كتاب غير القرآن، فعليكم بالقرآن فبه هُديتم، وبه تُجزون، وعنه تُسألون».
فلم أدر من الرجل، فحدثت هذا الحديث بعد ذلك بحمص، فقال لي رجل من القوم: أو ما تعرفه؟
قلت: لا.
قال: (ذلك عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما). رواه الدارمي في سننه، والطبراني في المعجم الكبير.
ورواه الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن كثير الصنعاني وهو مضعَّف قال: حدثنا الأوزاعي، عن عمرو بن قيس السكوني؛ فساق الحديث بنحوه، ثم قال عمرو: فحدثت بهذا الحديث قوما، وفيهم إسماعيل بن عبيد الله، فقال: أنا معك في ذلك المجلس تدري من الرجل؟ قلت: لا، قال: عبد الله بن عمرو).
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام من طريق إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس السكوني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، بنحوه.
وهذا الحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة بمجموع طرقه، وحمله على كتب المذاهب الفقهية، وهو محمل غريب، وظاهر الحديث يدلّ على أنّه كتاب يُقرأ على الناس فيه تحريف لكلام الله تعالى كتحريف أهل الكتاب، وعدم إنكاره إما لقوّة السلطان القائم عليه في ذلك الزمان وشدّة ترهيبه للناس مع إنكارهم في قلوبهم لما يأمر بتلاوته، وإما لغلبة الجهل على الناس حتى يظنوا ما ليس من كتاب الله أنه من كتاب الله، ويكون ذلك من علامات الساعة، وهذا لا يقتضي عدم حفظ القرآن، بل القرآن محفوظ إلى أن يأذن الله برفعه في آخر الزمان.
وليس مراد عبد الله بن عمرو بن العاص كتابة الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان هو ممن يكتبها، وله الصحيفة الصادقة المشهورة، فالأحاديث الصحيحة ليس فيها ما يخالف كتاب الله.
وكذلك كان عبد الله بن عمرو بن العاص يقرأ كتب أهل الكتاب، ويحدّث عن بني إسرائيل اعتماداً على ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم من الإذن في التحديث عن بني إسرائيل، في قوله صلى الله عليه وسلم: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
ولا ريب أن عبد الله بن عمرو بن العاص لم يكن يقصد هذه الكتب مع علمه بتحريف أهل الكتاب لكتابهم، فإنّه كان يقرأها وينتقي من حديثهم ما يحدّث به.
وإنما المراد كتابٌ تتخذه هذه الأمة بمثل ما كان يعمله أهل الكتاب، وهو مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم».
قال الصحابة: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟
قال: «فمن». رواه البخاري ومسلم من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- وقال أحمد بن يونس: حدثنا ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذَ أمتي بأخذِ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعا بذراع».
فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟
فقال: «ومن الناس إلا أولئك». رواه البخاري في صحيحه.
- وقال الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن أبي البختري، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «لتعملنّ عمل بني إسرائيل؛ فلا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله»
فقال رجل: تكون فينا قردة وخنازير؟
قال: «وما يريبك من ذلك لا أمَّ لك؟!». رواه ابن أبي شيبة.
- وقال سفيان الثوري عن أبي قيس، عن الهزيل، قال: قال عبد الله [هو ابن مسعود]: «أنتم أشبه الناس سمتاً وهيئة ببني إسرائيل، تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة حتى لا يكون فيهم شيءٌ إلا كان فيكم مثله». رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب السنة.
ذكر بعض ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابة العلم
- قال ابن وهب: سمعت مالكاً يحدث أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يكتب هذه الأحاديث أو كتبها، ثم قال: «لا كتاب مع كتاب الله». ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
- وقال جرير، عن مغيرة، قال: كان عمر يكتب إلى عماله: «لا تُـخَلِّدُنَّ عليَّ كتاباً». رواه ابن أبي شيبة.
وتخليد الكتب إبقاؤها زمناً طويلاً، وهذا أمر بإتلاف الكتب بعد معرفة ما فيها، وحفظ ما يلزم حفظه.
ولا ريب أنّ الخليفة يحتاج إلى الكتابة إلى الولاة وقادة الجيوش، وقد يكون في بعض ما يكتب لهم ما يعدّ من مسائل العلم، وفيها شيء من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يفتيهم به.
وبهذا يتحرر مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه كان لا يرى بأساً بكتابة العلم للحاجة من غير تخليد للكتب؛ فإذا تأدّت الحاجة يتلف الكتاب، ولا يبقى فيُتوارث ويفتتن به.
- وأما ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: «كتب رجلٌ مصحفاً، وكتب عند كلّ آية تفسيرها، فدعا به عمر فقرضه بالمقراضين» رواه ابن أبي شيبة.
فهذا خبر لا يثبت من جهة الإسناد، فيه جابر الجعفي، وهو متروك الحديث، وعامر الشعبي لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- وأما ما رواه الدارمي، وابن أبي شيبة، والخطيب البغدادي في تقييد العلم من طريق أبي عاصم النبيل قال: أخبرني ابن جريج، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان، عن عمه عمرو بن أبي سفيان، أنه سمع عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، يقول: «قيّدوا العلم بالكتاب»؛ فقد أُعلَّ بعنعنة ابن جريج، وبالاختلاف في إسناده، فقد قال يحي بن سعيد الأنصاري: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثقفي، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «قيّدوا هذا العلم بالكتاب» فجعله عن ابن عمر، وهو منقطع بين عبد الملك وابن عمر.