دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > إدارة برنامج إعداد المفسر > القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

 
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #24  
قديم 11 ربيع الأول 1443هـ/17-10-2021م, 02:27 AM
الصورة الرمزية صفية الشقيفي
صفية الشقيفي صفية الشقيفي غير متواجد حالياً
هيئة الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jul 2010
المشاركات: 5,755
افتراضي

القرآن ونزوله وصلته بالتذوق الشعري
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) :(
كان نزول القرآن العظيم حادثة فريدة في تاريخ البشر، لم يكن لها شبيهٌ في تاريخ الأمم، ولا في تاريخ الأنبياء صلوات الله عليهم، ولن يكون لها شبيهٌ. وهي حادثة باقية على الدهر ببقاء القرآن متلوا بين الناس، ولذلك فترك النظر في شأنها وفي النتائج المترتبة عليها، وعزلها عن الدراسة الأدبية والتاريخية عزلاً تامًّا، كما هو واقع بيننا اليوم في دراسة الأدب والتاريخ = لا يتأتى أن يكون مفهومًا إلا في حالتين: فإما أن تكون حقيقة رأينا أن ننكر إنكارًا صريحًا قاطعًا أن هذه الحادثة الفريدة، قد وقعت على هذا الوجه الذي نعرفُه، وأن يكون اعتقادنا الخفي هو أن
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 102]
كل ما يقال عنها باطلٌ لا أصل له. وإن كان أصحاب الديانة إنما يذكرونه لتثبيت العقيدة في القلوب لا غير، وإذ لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة أخرى كمعجزات سائر الأنبياء طولب العرب بالإيمان بنبوته عن حدوثها على يديه، فمآل الأمر في هذه الحالة هو: أن هذا الكتاب ليس كلام الله سبحانه، بل هو كلام مصلح عبقري عظيم كسائر المصلحين، وإن فاقهم جميعًا = وأن العرب لم يؤمنوا بأنه نبي رسولٌ إلا على هذا المعنى وحده. وإذن فكل ما يقال عن إعجاز هذا الكتاب وتحديه للعرب وغير العرب ليس صحيحًا = وأنهم لم يكونوا عاجزين عن الإتيان بمثل نظمه وبيانه في لسانهم، بل كانوا قادرين على ذلك، ولكنهم أعرضوا عن معارضته، لأنهم سلموا تسليمًا ما أن اتباع هذا المصلح العبقري العظيم هو أوفق لهم وأنفع، فرأوا الخير كله في اتباعه، فأعرضوا عن الاستجابة لتحديه طمعًا في مجد أملوه، وذكر باقٍ عن الناس توقعوه، ورجاء أن تكون لهم على أهل الأرض الغلبة بسلطان هذا الكلام الذي جاءهم به.
هذه هي الحالة الأولى = وإما أن تكون حقيقة أمرنا اليوم أننا في حالة مستعصية من العجز عن فهم التاريخ، مع إيماننا بأن هذا كلام الله سبحانه، وفي جهل فاضح يمتنع معه أن نكون قادرين على تحليل الوثائق التي هي تحت أيدينا تحليلاً بصيرًا ذكيًا مقنعًا، يعين على وضوح التفاصيل وربط بعضها ببعض، ويتيح لنا رسم صورة صحيحة للقوم الذين نزل عليهم. وآمنوا بأن هذا القرآن كلام الله المباين لكلام البشر، ثم ما يتبع ذلك من رسم صورة صحيحة للعصور التي تلي هذا العصر، عصر التابعين وعصر تابعي التابعين، وهكذا إلى يوم الناس هذا.
وهذه هي الحالة الثانية وكلتا الحالتين أخبث من أختها وأخزى. وأنا أحمد الله الذي أخرجني من محنة >الشعر الجاهلي<، منذ أكثر من خمسين سنة، رافضًا لهاتين الحالتين جميعًا: حالة الكفر بأن هذا كلام الله المباين لكلام البشر، وحالة العجز والجهل والخزي والمهانة. وما دمت مقرًّا بأن نزول القرآن،
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 103]
على الوجه الذي نعلمه، حادثةٌ فريدة في تاريخ البشر، فإن هذا الإقرار يقتضيني أن أجعلها أصل الأصول كلها في دراسة الأدب وفي دراسة التاريخ، وإلا أصبح الأدب العربي والتاريخ العربي معًا، خليطًا من المتناقضات لا يمكن فهمه أو دراسته إلا على وجه المكابرة والادعاء لا غير.
وإذ كان الذين آمنوا بهذا الكتاب، كتاب الله، هم العرب الجاهليين أصحاب >الشعر الجاهلي<، فصورة هذا العصر وصور رجاله، أساس لا غنى عنه في قضية صحة الشعر الجاهلي، وفي قضية صحة روايته. وإذن، فينبغي أن نضع القضية كلها وضعًا صحيحًا، مطابقًا لطبيعة حياة البشر، بلا انفصال ولا تفكك، وقد بينت آنفًا بعض البيان: أن مطالبة أهل الجاهلية بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي مرسل مبلغ عن ربه، تعتمد على أصل واحد لا غير: هو أن يستمعوا إلى هذا القرآن ويستمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو عليهم ما ينزل إليه منه. وهذا القرآن في نأناة الإسلام كان قليلاً جدًا، لأنه كان ينزل عليه منجمًا إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، بأبي هو وأمي، بعد ثلاث وعشرين سنة من يوم بعثته. وإذن فهذه المطالبة تقع على قليل القرآن وكثيره وقوعًا واحدًا، منذ أول يوم نزل فيه القرآن.
وسبيل هذه المطالبة، هو أنهم إذا أحسنوا الاستماع إلى ما يتلى عليهم منه، كانوا قادرين على أن يعلموا علمًا يقينًا أن هذا الكلام مباين لكلام البشر جميعًا، وهذه المباينة دالة على أنه كلام رب العالمين منزلاً على تاليه عليهم بلسان عربي مبين، فمبلغه عن ربه نبيٌّ ورسول أرسله إليهم ليتبعوه. ولولا هذا لم يكن لهذه المطالبة معنى يعقل. هذه واحدة.
والثانية: أنهم لا يكونون قادرين على هذا التمييز الفاصل العجيب الذي لم يمتحن البشر بمثله من قبل، إلا وقد أوتوا قدرًا يفوق كل تصور، من القدرة على تذوق أبنية الكلام تذوقًا نافذًا إلى أعمق أعماق البيان الإنساني، ولولا هذا لم يكن لهذه المطالبة الغريبة أيضًا معنى يعقل.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 104]
والثالثة: أن هذا القدر من التذوق، غير ممكن أن يناله أحد إلا بعد قرون متطاولة موغلة في القدم، كان التذوق فيها عملاً دائبًا لجمهور العرب الذين نزل هذا القرآن بلسانهم، ولولا هذا لم يكن لهذه المطالبة أيضًا معنى يقعل.
والرابعة: أن هذا غير ممكن أن يكون، إلا وعند المطالبين بهذا الفصل الخارق، قدر هائل من الكلام الشريف النبيل الجامع لأساليب البيان الإنساني، يكون متداولاً بينهم، يمارس عليه جمهور الناس هذا التذوق، ولولا هذا لم يكن أيضًا لهذه المطالبة معنى يعقل.
والخامسة: أن هذا الكلام الشريف النبيل كان أكثره شعرًا عربيًا جاهليًا، متنوع المعاني، متعدد الأغراض، يتناول بيانه كل ما تحتاج نفوس البشر إلى الإبانة عنه، على تعدد هذه الحاجات.
والسادسة: أن تذوق ما كان في صدورهم من الشعر وغير الشعر، كان عمل كبيرهم وصغيرهم ورجالهم ونسائهم، وأشرافهم وعامتهم، وأحرارهم ومواليهم، وأن هذا التذوق كان له القسط الأوفر في حياتهم، في باديتهم وحاضرتهم، وفي جدهم ولهوهم، وأنهم كانوا على مثل تضرم النار من الشغف به والإلحاح عليه، حتى صقلت ذاكرتهم فوعته، وارهف به إحساسهم فميز بعضه من بعض، بلا حاجة إلى علم أو علوم أخرى تعينهم على تعلم هذا التذوق، وحتى صار هذا التذوق العام كأنه سجية فطروا عليها ابتداءً بلا تثقيف مؤسس على الدراسة والتعليم. ولولا هذا لم يكن لهذه المطالبة العامة أيضًا معنى يعقل البتة.
هذه ست بابات توجبها المطالبة، ينبغي لكل دارس من أديب مؤرخ أن يقف عندها طويلاً، قبل أن يتكلم في شأن >شعر الجاهلية<، وأن يقدر خطرها تقديرًا صحيحًا، حتى لا يجور به الطريق، وحتى لا يبتذل ألفاظ اللغة التي يعبر بها عما في نفسه ابتذالاً يجلب معه من الأوهام الفاسدة، أكثر مما يجلب من الحقائق الأدبية أو التاريخية.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 105]
نعم، فإن مطالبة عرب الجاهلية، منذ أول يوم في البعثة، بأن يؤمنوا بأن هذا الرجل صلى الله عليه وسلم، رسول من الله أرسله إليهم، يبلغهم عن ربهم ما شاء الله أن يبلغه، حقيقة تاريخية واقعة لم يشك فيها قبل اليوم، ولا يشك فيها اليوم، إنسان يعقل من ورثة هذه اللغة وهذا الدين، حتى من ضل وكابر. وكان ينبغي أن لا يخالفهم فيها إنسان يعقل، ممن يخالفهم في أصل العقيدة وفي اللسان، لأن حقائق التاريخ المتظاهرة من كل وجه، لا تدع لهذا الشك مجالاً في النفوس يتحرك فيه أو يتدسس. بيد أن أكثرهم يعلم ذلك علم يقين في دخيلة نفسه، ولكنه يتغاضى عنه ويكتمه، بسبب العقيدة التي ينتمي إليها، وهي بطبيعتها مبنية أصلاً على العصبية، لا الإنصاف، ولذلك فهو يجعل منهج دراسته الأدبية والتاريخية في شأن العرب والمسلمين، قائمًا أبدًا على إغفار هذه الحقيقة الواقعة وعزلها عن دراسته، فإن استحيي أحدهم، أو حاول أن يظهر الحياء، وخادع بإظهار الحرص على النصفة والجد في الدراسة، فإنه يبدأ مشيرًا إليها عرضًا، إبراءً للذمة ثم يغفلها بعد ذلك، ويغفل أيضًا كل ما يتطلبه حدوثها من النتائج المترتبة عليها، وهؤلاء هم المستشرقون من أهل الكتابين ... ولكن ما أشبه الليلة بالبارحة. فإن الله تعالى قد نبأنا من أخبار أسلافهم، وما كان منهم في شأن القبلة، وتحويلها من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، فقال سبحانه: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} [البقرة: 142]، ويعني بالسفهاء أهل الكتابين ومن تابعهم من المنافقين، ثم قال سبحانه: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} [البقرة: 144]، أي يعلمون علمًا يقينًا أن البيت الحرام هو قبلة أبوينا إبراهيم وإسماعيل، وأن أنبياءهم – وهم من ولد إبراهيم وإسحاق – قد استقبلوها وطافوا بها، لأنها مناسك ملة إبراهيم، ثم كشف الله حقيقة أمرهم فقال: {الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146]، وكذلك هم اليوم، لم يختلف الخلق ولم يتغير، في
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 106]
كتمان الحقائق التاريخية وإغفالها بكل سبيل. وليس هذا إذن بعجيب. ولكن العجب لمن يخدع منا، فيتكلم بمثل ما يتكلمون به، ويجرى على مثل مناهجهم في عزل أوثق حقيقة تاريخية في دراسته الأدبية أو التاريخية. عجبٌ، ولكنه فضلاً عن ذلك خزيٌ أيضًا!.
وهذه المطالبة، أعني مطالبة عرب الجاهلية بأن يؤمنوا بأن هذا الرجل، صلى الله عليه وسلم، رسولٌ من عند الله، مؤسسة على مطالبة أخرى، أشرت إليها في كلمتي السابقة، في خلال تفصيل البابات الست آنفًا، وهي أن يستمعوا إلى هذا الي يتلوه عليهم، وأن يتبينوا بعد استماعه أنه، وإن كان منزلاً بلسانهم، فهو مع ذلك مباين له، ولكلام سائر البشر، مباينة تقطع بأنه كلام رب العالمين. وكلتا المطالبتين حقيقة تاريخية واقعة، وهما ملتحمتان التحامًا داخلاً، لا يمكن معه أن تنفك إحداهما من الأخرى، فجمع النتائج المترتبة على حدوثهما ملتحمة أيضًا التحامًا داخلاً لا فكاك له أو منه. وإذا كان ذلك كذلك، فأي إخلال، أو إسقاط، أو غفلة، أو نسيان، أو تجاوز، أو انحراف، أو تهاون، أو تغاض، أو توهم منفعة في ارتكاب شيء من ذلك، في سبيل إقناع من لا يؤمن بهذا الدين ولا برسوله = كل ذلك مفض إلى فساد كبير في جميع الدراسات الأدبية والتاريخية، لأنه ينتزع أكبر حقيقة تاريخية لا شك فيها من مكانها، وقد ترتبت عليها نتائج تاريخية وأدبية لا تنفك منها، في كل لبنة من لبنات ما نسميه اليوم: >الحضارة العربية< أو >الحضارة الإسلامية<. لا، بل يحزنني أن أقول إنه ليس انتزاعًا وحسب، بل هو إلغاء ماح لهذه الحقيقة التاريخية الواقعة، ويحزنني أيضًا أن أقول إنه قد أدى إلى تشويه كامل، شوه ثقافتنا الماضية كلها، وشوه علومنا كلها، وشوه تاريخ أسلافنا، وتاريخ رجالنا، وتاريخ أدبنا، وتاريخ حضارتنا. وكل ذلك مثبوت حاضر في الكتب المؤلفة في زماننا، وفي المذاهب المحدثة، وفي الأفكار الجديدة، وكاد ينتهي الأمر بالرفض الكامل لكل هذا الماضي، ولو بقى الأمر طويلاً على ما نحن عليه، فسينتهي إلى الرفض الكامل بتة، شئنا أو أبينا. وهذا الباب من المخاوف يقتضي أن تؤلف في بيانه
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 107]
كتب، لا أن تلقي في شأنه كلمة موجزة في ساعة سانحة، مقتطعة من هذا الفراغ السهل الممتع اللذيذ الذي نعيش نحن فيه اليوم! اللهم ادفع عنا ما نخاف بما شئت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا الذي بينته، أصل من الأصول التي بنيت عليها منهجي في الدراسة، بل هو الأصل كله، وما بعده فرع عنه. ومن هذا الأصل، سأحاول على عجل أن أفرغ من بعض قضايا >الشعر الجاهلي<، ومن قضية روايته، ومن رسالة محمد بن سلام الجمحي، في صدر كتابه >طبقات فحول الشعراء<، ومن بيان بعض ما تضمنته من المعاني المتعلقة بهذا الشعر.
قلت: إن نزول القرآن العظيم كان حادثة فريدة في تاريخ البشر، منذ كان أبوهم آدم عليه السلام، إلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن لا بد من تصور هذا الأمر تصورًا صحيحًا، قبل أن ننتهي إلى ما نريد.
كان نهج الأنبياء من قبل نزول القرآن، أن يأتي النبي ومعه شيئان: آية وبلاغ، آية معاينة يشهدونها بأعينهم فينخلعون لها من قواهم انخلاعًا يوجب التسليم له بأنه نبي مرسل، كآيات موسى وعيسى عليهما السلام = وبلاغ ملفوظ يحدثهم به بلسانهم، عن وحي يوحيه الله إليه، وتجب طاعته فيما يحدثهم به عن ربه. فلما شاء ربنا أن يختم النبوة في الأرض برسول من العرب يرسله إليهم وإلى الناس كافة، اختلف النهج اختلافًا بينًا. فاصطفى لمشيئته عبده محمدًا صلى الله عليه وسلم من العرب وحدهم، دون سواهم من البشر الذين أظلهم زمان بعثته، وأبى الله أن تكون له آية معاينة يشهدونها بأعينهم، فينخلعون لها من قواهم انخلاعًا يوجب عليهم التسليم له بأنه نبيٌّ مرسلٌ، كما أوتي النبيون من قبله. فأرسله الله ومعه بلاغان ملفوظان:
البلاغ الأول: بلاغ ملفوظ وهو: قرآن ينزل عليه من فوق سبع سموات. منجمًا بلسان عربي مبين، أمره أن يقرأه على الناس على مكث، وأن يبين لهم أنه كلام الله أنزله بلسانهم، لا كلامه هو.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 108]
البلاغ الثاني: بلاغ ملفوظ أيضًا، كالذي أوتيه النبيون من قبله، يحدثهم به بلسانهم عن وحي يوحيه الله إليهم، وتجب عليهم طاعته فيما يحدثهم به عن ربه. وهذا الذي قلته هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم، بينه بيانًا واضحًا في قوله: >ما من نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة<، وقوله: >أوتيت الكتاب ومثله معه<.
ومن أول يوم في بعثته، صلى الله عليه وسلم، لم يكن معه إلا ما أوتي من البلاغين الملفوظين، وإلا أن يفجأ الناس الذين لبث فيهم عمرا من قبل ذلك أربعين سنة، فيقول: >إني رسول الله إليكم< فإذا سألوه آية دالة على نبوته. لم يكن معه أيضًا إلا آيات معدودات قلائل، هي أول ما نزل عليه، يتلوها عليهم ويقول: >هذا برهان نبوتي، كلام الله<. أي برهان هذا؟ وأي فرق يستطيع الناس أن يجدوه بين دعواه: >إني رسول الله<، ودعواه في القليل الذي يتلو: >هذا كلام الله<؟ وأني لهم الفصل في هذه الدعوى؟ وألح عليهم أن يفارقوا دين آبائهم الذي يتوهمونه كان من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وألحوا عليه يسألونه آية كآيات الرسل من قبله، حتى يعلموا أنه رسول من عند الله. وزادت حيرتهم على الأيام، ولكن الأمر ظل على هيئته يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وسنة بعد سنة، وقريش والعرب الذين تسامعوا به أو سمعوا ما يتلو، لا يدرون ماذا يقولون ولا ماذا يفعلون. سمعوا كلاما يتلى، فرازوه واختبروه وتذوقوه، وزادت حيرتهم في أمر هذا الرجل، ولكنه لم يزد على أن طالبهم بأن يتبينوا بأنفسهم أن هذا الكلام العربي المتلو عليهم، ليس من كلامه هو، وإنما هو كلام الله المباين لكلام البشر، فإذا تبينوا ذلك علموا أنه رسول رب العالمين. ولكنهم على الأيام أحسوا فرقًا غامضًا بين ما يقوله هو بلسانه، وبين ما يتلوه عليهم، ولكن الذي طولبوا به أجل من ذلك: أن يتبينوا أنه كلام الله سبحانه. فعجزوا، أو عجز جلهم، أن يجد في نفسه بيان ما يطالب به، وغلبهم إلف ما دانوا به، فلم يجدوا له صفة؟ إلا أن يقولوا: >شاعر< قد أوتي لسانًا مبينًا، أو >كاهن< له سجع نافذ إلى القلوب
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 109]
التي ترق وتستجيب لحديث الغيب، أو >ساحر<، له لفظ آسر يفرق بين المرء وزوجه، >أو معلم مجنون< ، تتنزل الشياطين على لسانه بما يخرج عن قوى الشعراء والكهان والسحرة.
ولكن الأمر خرج عن الطوق، وتتابع التنزيل، وكثر ما يتلى، والمطالبة تزداد مع الأيام حدة وتقريعًا. والحيرة تزداد مع الأيام جدًّا وصرامة، وعلموا في دخيلة أنفسهم أن الأمر جدٌّ كله، وأنه صادق فيما يتلو: {إنه لقول فصل وما هو بالهزل} [الطارق: 14]. وعلموا أن هذه المطالبة لن تنقطع، وأن قليل من آمنوا معه يومئذٍ، قد اخترقوا بقوة هذا الحاجز الكثيف المتراكب المظلم، واستجابوا عن بصيرة إلى هذه المطالبة، واستطاعوا أن يفرقوا بين >كلام الله< وكلام البشر تفريقًا لم يدع في أنفسهم مكانًا للشك. وما هو إلا التسليم بأن هذا التاليه عليهم رسول من رب العالمين. واحتدم الأمر.
هذه صورة سريعة مقتضية ناقصة فاترة، ولكني الآن لا أملك غيرها، وأني لي أن أصف محنة هؤلاء العرب بنزول القرآن، وما وجدوا من التمزق الهائل، والتصدع البائن الذي يفتت القلوب والنفوس والعقائد، وهم يجدون مس القشعريرة في ما يتلى عليهم، ثم تنهار القشعريرة تحت وطأة الإلف المتثاقل عليها بدين الآباء والأجداد على الدهور المتطاولة، وعلى الغفلة المحيطة بالعقول والنفوس زمانًا بعد زمان؟ محنة قاسية ممزقة، لا نكاد اليوم ندرك منها إلا الطرف اليسير، ولكني أفزع فزعًا شديدًا حين أتخيل نفسي مغموسًا فيها أطلب المخرج! لا طاقة لي بصفة هذه المحنة، ولذلك أقطع هذا ملتفتًا إلى الإجابة عن أسئلة كثيرة، ولكني سأقتصر على أكثرهن تعلقًا بالشعر الجاهلي، وبروايته كيف انتهت إلى العلماء الرواة الذين أدوا إلينا هذا الشعر، لأن الأمر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذه المحنة. والسؤال الأول هو: لم كانت هذه المطالبة؟ والسؤال الثاني هو: لمن كانت هذه المطالبة؟ والسؤال الثالث هو: ماذا كان أثر هذه المطالبة فيمن طولبوا بها؟ وعسى أن تكون الإجابة على هذه الأسئلة الثلاثة بإيجاز كاشفةً لبعض الغيوم التي تحيط بالشعر الجاهلي، ومكانه عند عرب الجاهلية. ومكانه في الإسلام. وقد سلفت الإجابة ضمنًا في
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 110]
كلمتي السالفة عن بعض ما تتطلبه هذه الأسئلة، ولكني أتممها هنا ليكون الكلام سياقًا واحدًا.
وجواب السؤال الأول: لم كانت هذه المطالبة؟ مقصورٌ كله على سابق علمه سبحانه، ومردود كله إلى مشيئته، ولكن لما كان القرآن المنزل لسانًا عربيًا، وكان كلامهم هم لسانًا عربيًا أيضًا، وكان القرآن آية باقية على الدهر، وكانت المطالبة منصبة على أن يفرقوا بين الكلامين العربيين تفريقًا قاطعًا فصالاً بأنه مباين كل المباينة لا لما يطيقه لسانهم العرب وحسب، بل لما تطيقه ألسنة سائر البشر أيضًا، وجب النظر في أمرين: أمر اللسان العربي، وأمر أصحابه عرب الجاهلية.
أما اللسان العربي، فبدلالة العقل ينبغي أن يكون قد بلغ يومئذ غاية تفوق ما بلغته غايات الألسنة كلها، وما سوف تبلغه ألسنة البشر إلى آخر زمانهم = في إحكام ألفاظه، وفي تناسق جرسه، وفي دقة تركيبه، وفي انفساح تفصيله، وفي عمق دلالاته، وفي مرونة تصريفه على وجوه البيان، حتى يمكن أن يحتمل ضربًا من الكلام يدل تذوقه على أنه مباين كل المباينة لكلام البشر، ويكون آية دالة على أن التاليه عليهم وعلى الناس كافة نبيٌ مرسلٌ ليكون خاتم أنبياء البشر.
وأما أصحاب اللسان العربي، فمحال أن يفجأ الله عباده من عرب الجاهلية بهذا التبين الذي طالبهم به، وهم خلو من القدرة عليه، فكان لزامًا أن تكون لهم قدرة يعلمها سبحانه فيهم، وإن جهلوها هم من أنفسهم من قبل أن يطالبوا بهذا التبين، وإلا يكن ذلك كذلك، كانت المطالبة تعجيزًا محضًا لعباده، يسقط منهم التكليف الذي تقتضيه هذه المطالبة. وتعالى الله عن أن يكلف عباده أمرًا يعلم هو سبحانه أنه خارج عن قدرتهم خروجًا لا إرادة لهم فيه. وبديهة العقل تقضي بأنه محال أن تكون هذه القدرة جبلة فطر العرب عليها بلا إرادة منهم ولا عمل، وإذن، فهي قدرة مكتسبة بإرادة وعمل.
وبالجمع بين هذين النظرين، يتبين تبينا جليًّا أن أصحاب اللسان العربي يومئذ، كان عندهم قبل المطالبة، أمثلة حية مستفيضة بينهم، من كلام قد
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 111]
مارسوه هم وآباؤهم ممارسة متوارثة بعيدة الأجل، حتى اكتسبوا قدرة كامنة في أنفسهم، تجعله عدلاً من الله لا ظلم فيه، أن يطالبهم بتبين الفرق بين ما عندهم وما تطيقه ألسنتهم هم، وبين هذا القرآن الذي أطاقه لسانهم العربي، وتنخلع قواهم أن تطيق ألسنتهم هم أن تأتي بمثله، انخلاعًا يوجب التسليم بأنه مباين لكلام البشر، وأن تاليه عليهم نبي مرسل. وهذا الكلام هو ما ألفوه دهورًا إلى زمانهم من بارع كلام فصحائهم الأنبياء، وأعلاه عنده وأشرفه وأبقاه في صدورهم وعلى ألسنتهم هو شعر شعرائهم الذين كانوا في الجاهلية، منذ دهور متطاولة إلى يوم طولبوا هذه المطالبة الفاصلة. وهذا هو ما نسميه >الشعر الجاهلي<، فمن أجله ومن أجل قدرتهم على تذوقه تذوقًا عميقًا، طولبوا بما طولبوا به، هذا مختصر إجابة السؤال الأول.
أما جواب السؤال الثاني: لمن كانت هذه المطالبة؟ فإنها كانت عامة لا تحض نفرًا من العرب دون نفر، ولا قبيلة دون قبيلة، ولا تفرق بين ذكر وأنثى، ولا بين صغير وكبير، ولا بين قرشي وغير قرشي، ولا بين عدناني وقحطاني، ولا بين يمانٍ وحجازي، ولا بين حر وعبد، ولا بين عربي صليبة وعربي قد اكتسب العربية بالمعاشرة، ولا بين بادية وحاضرة، ولا بين أعرابي من أهل الوبر وعربي من أهل المدر، فكلهم عربي، ولسان عربي، والمطالبة عامة لجميعهم بلا فرق أو تمييز، وهذه بلا ريب حقيقة واقعة أيضًا. لا ينقضها شيء مما كان على عهده صلى الله عليه وسلم. وهذا أيضًا مختصر إجابة السؤال الثاني.
أما جواب السؤال الثالث: ماذا كان أثر هذه المطالبة فيمن طولبوا بها؟ فإني حاوت آنفًا محاولة خاطفة أن أصف ما أصابهم من الفزع والحيرة، وما وجدوا في بناء أنفسهم من التصدع والتمزق، وهم يجدون مس القشعريرة والرهبة مما يتلى عليهم من كلام الله، وذكرت أيضًا من قبل أن هذه المطالبة المفاجئة المذهلة، قد أرهفت قدرتهم على التذوق، على تذوق ما يسمعونه من نبيل القول وشريفه، لينفذ كل امرئ منهم بإحساسه المتوقد إلى تبين هذا الفرق الهائل الذي طولب بتبينه، والذي يجد مسه في أعمق أعماق نفسه، مع تضارب الأمواج المتلاطمة
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 112]
فيها من مخاوف مفارقة ما ألفوه زمانًا طويلاً من عقائدهم وعقائد آبائهم، وكان مما يثير هؤلاء المطالبين أيضًا أن يشهدوا عيانًا، يومًا بعد يوم، تفلت رجل كان بالأمس منهم، لا ينكرون عقله ولا منزلته، قد تبين هذا الفرق الفاصل القاطع، فيخرج فجأة نافرًا إلى الإيمان بأن تالي هذا القرآن نبي من رب العالمين مرسل، وأن هذا القرآن كلم الله سبحانه المباين لكلام البشر. واحتدم في كل نفس جهد طاغ يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وسنة بعد سنة. يبذله كل امرئ في ذات نفسه بجد لا يفترن وبشغف لا يهمد، مستعرضًا متذوقًا ماي جده عند نفسه، وما يتلقفه من عند غيره، من نبيل القول وشريفه، ولا سيما هذه الوفرة الوافرة من شعر شعرائهم الذين كانوا في الجاهلية. كان هذا شأن المعاند الشديد العداوة لما يسمعه من قول يزلزل عقائد الآباء والأجداد، وشأن المقارب الذي يقبل ويدبر، ويقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وشأن المستبصر الذي يضيء له البرق طريقه ساعة ثم تلفه غياهب الظلمة ساعة، ولكنه مصر على أن يبصر ويستبين. وإذن فلم يكن نزول القرآن العظيم داعيًا إلى هجر شعر الجاهلية، بل كان حافزًا مثبتًا لهذا الشعر في النفوس بتكرار التذوق والتأمل، وبالمقايسة بين بعضه وبعض، وبينه وبين ما طولبوا بأن يتبينوا أنه >كلام الله< المفارق لكلامهم ولكلام البشر. وكان هذا القرآن العظيم مستجيشًا أيضًا في كل نفس رغبة في الاستكثار من شعر جاهليتهم، وكان فوق ذلك صاقلاً بروعته ورهبته لأقصى قدرة على تذوق الكلام تذوقًا حرًا نافذًا مرهفًا يستطيع، أو يحاول، أن يخترق الحاجز الكثيف الفاصل بين أروع ما تطيقه ألسنة البشر، وبين هذا القرآن العظيم الذي يباين كلام البشر، وإن كان منزلاً بلسان ألسنة هذا البشر، وهو اللسان العربي المبين.
وههنا أمر لا بد من محاولة توضيحه وبيانه بإيجاز، فإني قد أكثرت من ذكر >التذوق< قديمًا وفي هذه الكلمات، دون أن ألقى بالاً إلى وجوب بيانه قبل الإفراط في ذكره. وهذا التذوق ليس عملاً هينًا ميسورًا ممهد السبل، ولا عملاً موقوتًا بساعته حتى إذا فرغ منه ذهبت حاجة النفس إليه، بل هو عمل خفي متشعب معقد يخالط العقل والنفس ويثيرها ويهزها ويقلبها بتقلب
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 113]
الخواطر تقليبًا لا تكاد تبلغه الصفة، ثم هو عمل غائر في النفس المتذوقة، قائم فيها أبدا بسلطان قاهر، يزيدها على الأيام وعلى الممارسة حرصًا عليه وشغفًا به، ثم لا ينفك عنها ولا تنفك عنه، لأن الإنسان، كما قلت قديمًا في بعض ما كتبت، هو في إرث طبيعته فنان معرق، فإذا نشب >التذوق< في سر نفسه لم يفلته، وإن حاول التفلت من إساره، وايضًا فإن هذا التذوق الذي تمارسه النفس المتذوقة للبيان، ليس عملاً يتعلق بظاهر الألفاظ والتراكيب والصور، هذا وهم غالب على كثير من الناس، وشره ما تجده في زماننا هذا، حتى انتهى إلى نزاع غث بين الغثائة في أدبنا الحاضر. بل التذوق عمل مركب متراحب متعانق شديد التعقيد، يبدأ من عند ظاهر الألفاظ والتراكيب والصور، لينفذ منها إلى عمق أعماق المعاني التي تنطوي عليها، وإلى أدق دلالاتها على تنوعها وانتشارها، وإلى أغمض ما يكمن في ثناياها من الفكر والرأي والنظر والحجة، وإلى أخفى الأمواج المتدسسة التي تصادم النفس المتذوقة برفق ثم بعنف بئيس مدمدم، يفجر فيها مغاليق الكنز الدفين الذي استودعه الله في الإنسان منذ خلقه على جبلته وبمشيئته سبحانه، وهذا الكنز هو >البيان< يقول الله سبحانه: {علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} [الرحمن: 1: 4].
فظاهر إذن أن هؤلاء العرب المطالبين بأن يتبينوا مفارقة القرآن العظيم لكلام البشر، وأنه كلام الله سبحانه لا كلام التاليه عليهم، وأنه عندئذ هو آيته الدالة على أن تاليه عليهم نبي >مرسل< من رب العالمين، يجب عليهم التسليم له بنبوته = لم يكن تذوقهم لما يتلى عليهم تذوقا لظاهر لفظه وتراكيبه وصوره وحسب، بل كان تذوقهم نافذًا أيضًا يغوص إلى أعمق الأعماق التي تدل عليها الألفاظ والتراكيب والصور، ويتشعب تذوقهم مع أدق دلالاتها ومعانيها وينفذون بهذا التذوق المرهف إلى أغمض ما يكمن فيها من الفكر والنظر والحجة، وتصادم الألفاظ والتراكيب والصور والمعاني والدلالات نفوسهم مصادمة تفجر أغمض إرث كامن في الإنسان، وهو البيان. ولذلك فإن من
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 114]
آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم بعد أن تهدم الجدار الحاجز الكثيف الفاصل بين أروع ما في الشعر الجاهلي وبين هذا القرآن المنصوب لهم آية على نبوته صلى الله عليه وسلم لم يجتز هذه العقبة الكؤود إلا ومعه علم كثير بما نزل من القرآن يومئذ، علم بمعانيه، وعلم بحججه التي يحاج بها من كفر، وعلم بما يدلهم عليه من آياته في الأرض والسماء، وعلم بما يؤدبهم به من الأخلاق والأعمال، وهذا هو فرق ما بين آية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته، وبين آيات من سبقه من الأنبياء الدالة على نبوتهم. فآيته صلى الله عليه وسلم آية ملفوظة باقية آثارها في نفس كل من آمن به، وآيات الأنبياء من قبله معاينة مشهودة، توجب الإيمان بنبوتهم، ولكنها تنقضي بانقضاء حدوثها.
ولذلك، فإن الأمة مجمعة، إلا من شذ، بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كل منهم من العلم بالقرآن وبسنته صلى الله عليه وسلم، وهي ما أوتيه من الوحي كما أوتي النبيون من قبله، قدر لا يلحقه فيه أحد من التابعين، سواء كان الصحابي قديم الصحبة له صلى الله عليه وسلم منذ أول البعثة، أو كان حديث الصحبة لم يدركه إلا في آخر أيامي، بأبي هو وأمي، قبل أن يقبضه الله إليه ويرفع الوحي. وذلك لأن كل صحابي لم يخرج من جاهليته إلى إسلامه، إلا بعد أن استوعب بهذا التذوق النافذ العميق، قدرًا هائلاً من علم الكتاب المنزل، حين تهدم الحاجز الكثيف، فانكشف له أن هذا الكتاب >كلام الله< المباين لكلام البشر، والجهد الذي بذله كل صحابي في هذا التذوق الذي وصفت، جهد لا يستطاع تحديده أو تصوره، والذي عاناه كل منهم في سبيل هذا التبين الفاصل بين القرآن وبين كلام البشر، محنة شديدة على النفس الإنسانية لا يبلغ النظر النفاذ إلى حقيقتها، ولذلك رفعهم الله درجات فوق سائر عباده، وقال لهم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: ] ولذلك أيضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >دعوا لي أصحابي، لو أنفق أحدكم مثل أحُدٍ ذهبًا لم يبلغ مد أحدهم أو نصيفه< ولذلك أيضًا شدد علماء الأمة النكير على من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 115]
أو غمس لسانه أو قلمه بسوء الأدب وقلة الحياء من الله، في شيء مما وقع بينهم من خلاف أو نزاع أو قتال.
وأحب أن أختم هذا الحديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عانوا، بخبر رواه الإمام أبو عبد الله البخاري في الأدب المفرد: >قال: حدثنا بشر بن محمد قال، أخبرنا صفوان بن عمرو قال، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم! والله لوددنا أنا رأينا من رأيت، وشهدنا ما شهدت! فاستغضب (المقداد). فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرًا! ثم أقبل (المقداد) عليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرًا غيبه الله عنه؟ لا يدري لو شهده كيف يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه! أو لا تحمدون الله عز وجل إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، فتصدقون بما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم (يعني الصحابة) والله لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبي قط، في فترة وجاهلية ما يرون أن دينًا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق به بين الوالد وولده، حتى إن كان الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافرًا = وقد فتح الله قفل قلبه بالإيمان = ويعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار = وإنها للتي قال الله عز وجل: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} [الفرقان]<.
وهذا خبر يدمي القلوب ويبكي الأعين ويلقي الرعب في النفوس، وهو عظيم الدلالة على مقدار التصدع والتمزق الذي لقيه العرب الذين كانوا في الجاهلية، ثم اجتازوا الهو ل كله إلى الإسلام وصحبوا تالي القرآن عليهم صلى الله عليه وسلم، ولكن يا سوء ما صرنا إليه: أن يجترئ مجترئ غيبه الله عن محضر لا يدري لو شهده كيف يكون فيه، فيهجم على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغمس لسانه وقلمه فيما وقع بينهم من خلاف، ويقضي في أمر إسلامهم لله قضاءً يوجب له
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 116]
ان يقول: إن فلانًا وفلانًا وفلانًا من الصحابة لم يدخل الإيمان قلوبهم قط! اللهم اغفر لنا وتغمدنا برحمتك وقنا عذاب النار.
هذا أيضًا مختصر جواب السؤال الثالث، مع استطراد لا يلتحم به، ولكنه لا ينفصل عنه.
أظن أني قد استطعت أن أبين عن نفسي بعض الإبانة في أشياء مختلفة تتعلق بالشعر الجاهلي. ولكن بقيت منه مسألة يحسن أن أدلل عليها من نفس الطريق الذي سلكته، فقد صار بينا فيما أظن أن نزول القرآن العظيم، كان حادثة فريدة في تاريخ البشر، وأنها حقيقة تاريخية واقعة = وأن مطالبة عرب الجاهلية بتبين أن >كلام الله< الدال على نبوة تاليه حقيقة تاريخية واقعة = وأن النتائج المترتبة على هذه المطالبة هي أيضًا حقائق تاريخية واقعة.
فمن هذه النتائج هذا التذوق الذي لا يكون للمطالبة به معنى يعقل البتة إلا أن يكون كائنًا في عرب الجاهلية المطالبين بأن يتبينوا أن هذا الكلام المتلو عليهم آية من آيات الله التي توجب عليهم أن يقطعوا بأن صاحبها نبي الله، كما قطعت آيات موسى بأنه نبي، وآيات عيسى بأنه نبي، وأن البلاغ الملفوظ، هو كالبلاغ المعاين بالمشاهدة، ينخلعون له من قواهم انخلاعًا يوجب التسليم بأن صاحبه كمثلهم، لا يستطيع أن يأتي به من عند نفسه وبفعله، بل هو من عند رب العالمين، أنزله عليه سبحانه بسلطانه القاهر؛ ليكون آية على نبوته. والتذوق المفضي إلى هذا التبين الذي لا عهد للبشر بمثله، ينبغي أن يتم لأصحابه بعد الدربة الطويلة المتوارثة. ثم لا يبلغ هذه المرتبة من القدرة على الفصل في هذه الآية الفريدة في تاريخ الألسنة البشرية، إلا بعد أن يمارس الفصل والتفضيل والممايلة والمقايسة على ضروب من الكلام قد بلغت القمة الشامخة في البيان الإنساني ، أو على الأصح بلغت من النقاء والدقة والأناقة واللطف أقصى غاية، وبلغت من العمق في الدلالة بالألفاظ والتراكيب والصور، أقصى التوتر المفضي إلى سر البيان الكامل في نفوس البشر. وإلا يكن ذلك كذلك فإن اختراق
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 117]
الحاجز بين البيان الإنساني والبلاغ الإلهي الملفوظ، يكاد عندئذ يبلغ حد الاستحالة، مع ما في المطالبة به فجأة وبلا مثال سابق من المناقضة للإلف الراسخ في الطبائع. ولذلك كان مقطوعًا به أن لغتهم عند البعثة كانت قد اكتسبت من المرونة واللطف والدقة والإحكام الفائق، مبلغًا يهيئها لحمل هذه الآية الفريدة في آيات النبيين = وأن أنبل كلامهم وأشرفه، وهو الشعر الجاهلي، كان قد بلغ أيضًا مثل هذه المنزلة ليكون تذوقهم إياه معينا لهم على تذوق البلاغ الملفوظ الذي أنزله الله على رجل منهم، قد لبث فيهم عمرًا من قبله أربعين سنة، ما كان يدري ما الكتاب ولا الإيمان، ثم جاءهم به ليكون آية نبوته، دون الآيات المعاينة التي انخلع لها البشر من قواهم، فآمنوا بالمبعوثين إليهم من أنبياء ربهم.
وهذه أيضًا حقيقة تاريخية واقعة أخرى، ناتجة عن الحقيقة التاريخية الواقعة، وهي مطالبة عرب الجاهلية الذين أظلهم الإسلام بأن يتبينوا في سر أنفسهم أن هذا القرآن المتلو عليهم، هو >كلام الله< لا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مباين لكلام البشر، ومعجز قدرتهم بل قدرة الثقلين جميعًا: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88]، {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} [الحشر: 21]، {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا} [الرعد: 31] وصدق الله ورسوله، فهذا حق كلام الله، المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم.
وإذن، فالشعر الجاهلي الذي مارس عليه عرب الجاهلية تذوقهم قرونًا حتى بلغ التذوق ما بلغ، تكمن فيه وفي بيانه هذه الصفات المريبة على ما في سائر الألسنة من الصفات إرباءً حقيقًا بالتأمل والتبين، لأن هذه حقيقته التي دلت عليها هذه المطالبة الفريدة لجنس واحد من البشر في زمان واحد من الأزمنة، ختمت بآيته النبوة في الأرض إلى أن تقوم الساعة. وإذا كانت هذه الحقيقة قد
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 118]
عُميت علينا دهرًا. ولا نزال نزداد عنها عَمى، فإن ذلك لا ينفي عنها أنها حقيقة قائمة، وإنما هو الإلف والعجز والتهاون وقلة المبالاة، ورذائل فينا بعد ذلك كثيرة. إنها حقيقة واقعة كامنة في القليل الباقي بتقصيرنا من الشعر الجاهلي، يعلم ذلك من يعلمه، ويجهله من يجهله، ويقره من يقره، وينكره من ينكره. وجاهله مقصر في حق نفسه وفي حق الله عليه، ومنكره ليس إنكاره ما ينكر منه بأعجب ولا أغرب من إنكار عرب الجاهلية الذين كفروا بالنبوة، وهم يحسون في دخيلة أنفسهم أن دليل النبوة، وهو القرآن، قد أعجزهم وانخلعوا له من قواهم بالعجز الفاضح، ولكنهم أصروا، مع ذلك، على الإعراض والكفر إصرارًا، حتى قضى الله فيهم قضاءه، بظهور الإسلام على الكفر ضربة لازب.
كان عرب الجاهلية الذين اجتازوا هذه المحنة الهائلة المفزعة المزلزلة التي امتحنوا بها دون غيرهم من البشر، وامتحن بها تذوقهم للبيان الإنساني حتى تبينوا فرق ما بينه وبين البيان الإلهي = كان هؤلاء قد اجتازوا المحنة ومعهم شعر جاهليتهم الذي مارسوا عليه أروع تكليف في تاريخ البشر. فلم يفارقوا هذا الشعر بعد ذلك في غدو ولا رواح، ولا في منزل ولا في مسير، ولا في ليل ولا في نهار، ولا في سلم ولا في حرب، ولا في جماعة ولا في خلوة، وقد دلت الأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ذلك كما وصفت. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشاركهم مصغيًا في مجالسهم، وأنه كان يستنشدهم شعر جاهليتهم في إقامته وفي مسيره. ودلت الأخبار أيضًا على أن ذلك كان جاريًا على عادتهم الموروثة المعرقة منذ أقدم عصور الجاهلية، قد ألفوها إلفًا لا يزول ولا يتحول، ولم يكن ذلك بعجيب ولا مناقض لما خضعوا له من حب ذكر الله بألسنتهم، ولا لطول تلاوتهم لكلام ربهم واستماعه فتقشعر له قلوبهم خشوعًا وإسلامًا، ولا لتدبر القرآن التماسًا لما فيه من العلم والحكمة، بل العجيب أن لا يلزموا ما كان عليه أمرهم في الجاهلية من تذوق البيان، الذي
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 119]
أرهف قلوبهم وعقولهم حتى اجتازوا به المحنة التي هلك عليها منهم من هلك، ونجا من نجا. وكان ذلك شأن الصحابة وسائر من أسلم من عرب الجاهلية في الحاضرة والبادية، لم يزدهم نزول القرآن وتحديه لهم إلا حرصًا على شعر جاهليتهم، وشغفًا بإنشاده وتمثله في المشاهد وفي الخلوات. ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وجاء أبو بكر، وجاء عمر، وجاء عثمان، وجاء علي، وجاء معاوية، وذلك شأن أهل الحواضر من الصحابة، وأهل البادية، ممن صحب أو وفد عليه صلى الله عليه وسلم، أو أسلم ولم يصحبه. وفي خلال تلك السنوات المتطاولة، نشأت الناشئة من أبنائهم ومن مواليهم، وممن أسلم من جميع أطراف الأرض العربية وغير العربية، وكان شأنهم جميعًا شأن جلة الصحابة، واكتسبوا منهم هذا التذوق الرائع النافذ المذهب، بممارسة تذوق هذا الشعر الجاهلي الذي هو ديوان علم العرب، كما قال عمر رضي الله عنه، والذي هو الغاية التي يفضي تذوقها إلى تبين أن هذا المتلو في المساجد والمشاهد والمحافل العظام، هو >كلام الله<، فتقشعر له قلوبهم، كما اقشعرت قلوب الصحابة من قبل حين امتحنوا، وبعد أن جازوا المحنة مسلمين.
وبين كل البيان أن أمر الشعر الجاهلي في عهد الصحابة، ثم في عهد كبار التابعين، كان جلدًّا كله، وأنه كان منصوبًا قائمًا في الأنفس والألسنة، في الشهود والخلوة، لهذا التذوق النافذ البصير الهادي إلى تذوق القرآن تذوقًا تنخلع له النفس من كل قوتها حتى تستيقن أنه >كلام الله< الذي تخشع له الجبال وتتصدع، وإذا كان ذلك كذلك، وهو الحق إن شاء الله، فهل يمكن أن يتصور امرؤ أدرك أن ذلك كله كان حقيقة تاريخية واقعة لا شك فيها، أن يعمد صحابي أو تابعي، في حاضرة أو بادية إلى وضع شعر على لسان امرئ القيس أو طرفة أو أبي دؤاد الإيادي، أو المتلمس، أو النابغة، أو زهير، أو من شئت من شعراء الجاهلية = إلا أن يكون هذا المرء هازلاً هزلاً لا خير فيه، أو لا عقل فيه إن شئت.
وإذا كان هذا الشعر من الوفرة والكثرة والتنوع، على قدر وفرة الصحابة
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 120]
الذين أسلموا، ووفرة من كان معهم ممن لم يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحواضر والبوادي، فهل تظن أن أحدًا كان في حاجة إلى وضع شعر على ألسنة شعراء الجاهلية؟ وإذا كان تناشد الأشعار، على سنتهم في جاهليتهم، قائمًا في كل مكان، فهل تظنه سهلاً على أحد أن يفضح نفسه بافتعال شعر ينسبه إلى جاهلي قديم، وفي الناس من هو قادر على تكذيبه والنكير عليه؟ وعلى ذلك قس أمر كبار التابعين، فإن ذلك الوضع محال أن يكون كان، أو أن تكون بأحد منهم حاجة إلى هذا الوضع الذي هو هزلٌ، بل شرٌّ من الهزل.
وإذن، فالشعر الجاهلي ظل سليمًا مبرأً محفوفًا بالصدق، حتى انقضت نحو مئة عام منذ هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وإن كانت قد تناقصت وفرته، كما قال محمد بن سلام في كتابه >الطبقات< وذلك >حين هلك من العرب بالموت والقتل من هلك<، في الفتن، وفي الفتوح التي امتدت من أقصى الصين إلى أرض الأندلس، ثم بما كان من تفرق حفاظه ومتمثليه في البلدان المتباعدة، وإن كانت البادية بعد ذلك كله قد حفظت على العرب ذخائر ما كان من شعر جاهليتهم، بفضل من بقي فيها من الأبناء والنساء والشيوخ الذين لا طاقة لهم بقتال ولا بغزو ولا بضرب في الأرض البعيدة الغريبة.
وبذلك نعلم علم يقين أيضًا أن العلماء بالشعر من أهل البصرة وحدها والذين لكل رجل منهم قول فيه، كما قال ابن سلام، والذين بدأ ذكرهم بأبي الأسود الدؤلي المتوفي في الطاعون الجارف سنة تسع وستين، ومات عن خمس وثمانين سنة، وولد في الجاهلية قبل البعثة بثلاث سنوات، وأخذ عنه الناس الشعر، كما ذكرت حتى انتهت رواية من أخذ عنه إلى من بعده، إلى أن انتهت الرواية إلى عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي المولود سنة تسع وثلاثين من الهجرة، والمتوفى سنة 127، ومعه يومئذ أبو عمرو بن العلاء الذي بقي بعده بقاء طويلاً حتى مات سنة 159 = أقول: بذلك نعلم أن هؤلاء العلماء بالشعر إلى زمن أبي عمرو قد تلقوا شعر الجاهلية سليمًا مبرأ خاليًا من الشوائب، وإن كان لم ينته إليهم منه إلا القليل، وصدق أبو عمرو بن العلاء حين قال:
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 121]
>ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير< وصدق مرة أخرى، لأن هذه حقيقة تاريخية أخرى، تدل عليها الحقائق التاريخية الواقعة التي سقتها، دلالة تقطع عليها بالصدق، وبذكاء قائلها ونفاذ بصره، وإن كان ابن سلام قد فسرها تفسيرًا سيئًا جدًا حين قال: >فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب (أي عن الشعر). وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم. ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح ... راجعوا رواية الشعر<. وقد بينت فساد هذا التعليل آنفًا بحمد الله.
وإذن فالشعر الجاهلي، السليم المبرأ من العيب، ظل محفوفًا بالكرامة والصدق حتى تلقاه العلماء بالشعر إلى أواخر المئة الأولى من الهجرة، وكان، قبل أن تفتح أبواب العلوم العربية في عهدها المبكر، منصوبًا للتذوق البصير لأعلى البيان الإنساني وأسناه، وكان الناس يتلقونه جوادًا سابقًا كما وصفه ابن مقبل فيما ذكرته آنفًا.
إذا مت عن ذكر القوافي، فلن ترى ..... لها تاليا مثلى أطب وأشعــــــــــــــــــــــــــــــــــرا
وأكثر بيتا شاردًا ضربت لـــــــــــــــــــــــــــــه
..... حزون جبال الشعر حتى تيســـــــــــــــرا
أغر غريبًا، يمسح النــــــــــــــــــاس وجهه
..... كما تمسح الأيدي الأغر المشهـــــــــــرا
وبما قاله الجاهلي الآخر، في أريحية سامعه وخيلائه.
فإن أهلك فقد أبقيت بعدي .....قوافي تعجب المتمثلينـــــــــــــا
لذيذات المقاطع محكمات ..... لوان الشعر يلبس لارتدينا
وأما كبير المشككين في الشعر الجاهلي والنافين لصحة ما عندنا منه، فقد أساء وأوقد فتنة لم تخب بعد حين ختم كلامه وشكه بقوله: >أما نحن فمطمئنون إلى مذهبنا، مقتنعون بأن الشعر الجاهلي أو كثرة هذا الشعر الجاهلي لا تمثل شيئًا، ولا تدل على شيء، إلا ما قدمنا من العبث والكذب والانتحال. وأن الوجه إذا لم يكن بد من الاستدلال بنص على نص – إنما هو الاستدلال بنصوص القرآن على عربية هذا الشعر، لا بهذا الشعر على عربية القرآن<.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 122]
ويؤسفني أن أقول إن صدر كلامه عن بطلان دلالة الشعر الجاهلي على شيء، دال على تقصير محزن في الاطلاع على هذا الشعر، وعلى سوء تذوقه. ومع ذلك، فقد بينت مرارًا أنه قد نقض هو نفسه مقالته هذه بما كتبه بعد ذلك عن بعض الشعر الجاهلي. وأما مسألة الاستدلال التي ذكرها، فإن كان يريد بقوله >عربية القرآن< و>عربية الشعر الجاهلي< ما يتعلق بالنحو والصرف واللغة وما إليها – وهو لا يريد ذلك بلا شك – فإن الاستدلال بالشعر الجاهلي على بعض ما في القرآن، وبالقرآن على بعض ما في الشعر الجاهلي من نحو وصرف ولغة، إنما هو أمر هين لا خطر له في بحثه، وكلاهما مألوف معروف في جميع كتب العربية. وإن كان يريد بقوله: >عربية القرآن< أن يستدل بعربية الشعر الجاهلي أن القرآن عربي مبين، فأظنه ظاهرًا جدًا أنه محال أن يجد امرءًا عاقلاً أو غير عاقل من الماضين والحاضرين، ومن العرب ومن سائر المسلمين، من فعل ذلك أو فكر فيه، إلا أن يكون عنى أعجميًا مستشرقًا من أهل زماننا فعله أو كتبه! أما العرب والمسلمون منذ نزول القرآن، فإنهم كانوا يتذوقون هذا الشعر الجاهلي، أو يحرصون عليه ليتذوقوه، حتى يجدوا في أنفسهم القدرة على التذوق الفاصل الذي يرهف إحساسهم ليستمعوا إلى >كلام الله< مخبتين مقرين لنبيهم بأنه أدى الأمانة، وبلغ عن ربه ما أمره أن يبلغه.
وإذن فهي كما ترى كلمة مطرحة لا وزن لها ولا خير فيها. وهي مبنية على مغالطة مزيفة، وليس فيها إلا رنين ألفاظ مركبة ليس لها معنى ولا حقيقة. ومع ذلك، فقد صدعت في بعض العقول صدعًا بائنًا، وأفسدت بفسادها بعض ما كان خليقًا أن يسلم ويصح.
وصلى الله على محمد صلاة طيبة زاكية مباركة، والحمد لله رب العالمين.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 123]). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 102-123]


رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
قضية, كتاب


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:24 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir