بقية الكشف عن الوجوه الملثمة في كتاب ابن سلام
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر بن أحمد الحسيني (ت: 1418هـ) :(
فإذا كان هذا صحيحًا، وهو صحيح إن شاء الله، وكانت صورة هذه الكتب عند ابن سلام، كالذي عندنا اليوم من بقايا هذه الكتب التي أشار إليها بقوله: >وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب< فقد وَصَلْنا إلى شيء مهم جدًّا، يجعل تفسير كلام ابن سلام في الفقرة الثالثة واضحة كل الوضوح. ويزيل الاختلال الواقع في ضمائر هذه الفقرة. فقد صح عندنا أن في هذه الكتب ثلاثة أصناف:
الأول: شعر >صحيح< يعرفه أهل العلم والرواية الصحيحة عن أهل البادية، وهو قائم على حياله، في هذه الكتب.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 78]
الثاني: شعر >صحيح<، يعرفه أيضًا، ولكنه خلط بغثاء مصنوع ليس بشعر، وإنما هو كلام مؤلف معقود بقواف.
الثالث: غثاء مصنوع، ليس بشعر. كثيرٌ لا خير فيه. وقد وصفه ابن سلام وأجاد صفته.
قال ابن سلام: >فبدأنا بالشعر، وفي الشعر مصنوع مفتعلٌ موضوع كثير لا خير فيه ... وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد – إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه – أن يقبل عن صحيفة أو يروى عن صحفي<.
وقد أثبتنا بالتحليل إثباتًا لا يداخله شك، أن هذا القول محال أن يكون مرادًا به >المصنوع< وحده، وأشد استحالة أن يكون مرادًا به >الشعر< كما نعرفه ببديهة اللغة. وإذن، فلم يبق عندنا إلا الصنف الثاني وحده، وهو: الشعر الصحيح الذي يعرفه العلماء، ولكنه خلط بمصنوع ليس بشعر، في قصيدة واحدة. فلننظر الآن هل تستقيم الفقرة، وتصبح كلامًا غير متخالف ولا متضارب؛ إذا عادت الضمائر الأربعة إلى هذا الصنف وحده؟ فالضمير الأول: >قد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب<، واضح لا يحتاج إلى بيان.
والضمير الثاني: >ولم يأخذوه عن أهل البادية< صحيح أيضًا، فإنهم لو كانوا أخذوه عنهم لما خالطه هذا الغثاء، ولكان مطابقًا لما عند العلماء بالشعر بلا زيادة، فقد أخذوا جميعًا من مصدر واحد. والضمير الثالث: >ولم يعرضوه على العلماء<، يجعل الكلام بعودته إلى الصنف الثاني صحيحًا ذا فائدة، فإنه إذا عُرِض على العلماء، استخلصوا الصحيح المعروف عندهم، ونفوا الغثاء الباطل الذي خُلط به. والضمير الرابع في قوله: >وليس لأحد – إذا أجمع أهل العلم على إبطال شيء منه – أن يقبل عن صحيفة، أو يروى عن صحفي<، إذا هو عاد أيضًا على هذا الصنف، استقام معنى الكلام، وصار تمامًا للكلام الأول بلا غضاضة، وصار أيضًا للتبعيض في قوله: >على إبطال شيء منه<، معنى، لأن الذي يبطلونه >بعض< من كل، وهو هذه القصيدة الملفقة بالتخليط. ثم
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 79]
إن إجماع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال هذا البعض، مفهومٌ، بل لا وجه لإجماعهم غير هذا الوجه، وإذا كان هذا الإجماع، فإنه ليس لأحد بعد ذلك أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي، لأنه إذا فعل ذلك، وهو غير بصير برواية شعر العرب، كان خليقًا أن يفسد الشعر الصحيح ويهجنه برواية هذا الغثاء، كأنه جزء من الصحيح المعروف. ولذلك قال ابن سلام في الفقرة (73) بعد ذلك بكثير: >وقد وجدنا رواة العلم يغلطون في الشعر، ولا يضبط الشعر إلا أهله<.
وإذن، فمعنى قوله: >وفي الشعر مصنوع مفتعل ...< هو في الحقيقة: >وقد دخل بعض هذا الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه<، ويبقى إذن لفظ >الشعر< على بديهته المعروفة، ويبقى أيضًا أنه لا يجعل هذا المصنوع >شعرًا<، لأنه بيّن بعد أنه >ليس بشعر، بل هو كلامٌ مؤلف معقود بقواف، وهو ليس قسمًا من >الشعر< ولا يقع عليه هذا اللفظ وقوعًا صحيحًا عند ابن سلام.
وسببُ هذا الخلل في العبارة هو ما أفضت في بيانه عن الحالة التي كان عليها ابن سلام، وهو يعيد كتابة النسخة الثانية من كتابه، فأقحم هذا الفصل عن الموضوع، والفصل الذي يليه عن العلماء بالشعر والعربية، إقحامًا أخل بالكلام، وحيرنا في فهمه. ولكن أشد من هذا أن كلام ابن سلام في رسالة كتابه قد كان سببًا في فساد كبير أصاب شعر العرب على يد أول المشككين في الشعر الجاهلي النافين لصحته، حين غابت هذه الفقرة من طبعة الأعجمي يوسف هل = وحين ظهرت في نسختنا، وفيها هذا الاضطراب والخلل، لم تعن على تصحيح ما فهم من كلام ابن سلام، لرد هذه الفتنة السقيمة، بل استمر الأمر بعد ذلك على اتهام ما بأيدينا من شعر العرب الذي نقله إلينا العلماء المحققون الجهابذة، بأن فيه مصنوعًا مفتعلاً، ثم زاد الأمر حتى صار بعض الباحثين ينفي من هذا الشعر ويثبت بلا بينة ولا دليل، إلا خواطر الاستحسان والاستهجان كيف اتفق. وهذا أسلوب غير مرضي ولا صالح. ولكن بقيت
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 80]
الجملة الأخيرة في ختام هذه الفقرة، التي يقول فيها ابن سلام: >وقد اختلفت العلماء بعدُ في بعش الشعر، كما اختلفوا في سائر الأشياء، فأما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه<. وبين بعد هذا أن لفظ >الشعر<، هو على حاله في بديهة اللغة، بلا ريب في ذلك. وكانت من تمام حديثه، لأنه حين ذكر إجماع العلماء على إبطال بعض هذا الخليط، وأنه ليس لأحد أن يقبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي = أراد أن يعقب عليه بضرب آخر من اتفاق العلماء على بعض الشعر وعلى اختلافهم فيه، وبين أن الذي اتفقوا عليه ليس لأحدٍ أن يخرج منه. أما الذي اختلفوا فيه، فله حكم آخر. ولكن بين أن هذا >الاتفاق<، وهذا >الاختلاف< بمعزل عن الكلام في >المصنوع الموضوع< لأنه لا يقع عليه بين العلماء اختلاف البتة، بل يقع إجماعهم على بطلانه بلا نزاع بينهم في ذلك. وللحديث عن هذا موضع آخر إن شاء الله، هو به أليق.
من خلال بحثي للكشف عن أحد الأوجه الخمسة الملثمة، في الفقرة الثالثة من رسالة ابن سلام في صدر كتابه >طبقات فحول الشعراء<، وهو >وجه الشعر<، سقط اللثامُ عن وجه آخر، وانكشف بعض معارفه، وهو: من هم القوم الذين تداولوا بعض الشعر الصحيح مخالطًا لكلام مصنوع مفتعل ليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف كقوافيه. وعرفنا بعض هؤلاء: عبيد بن شرية الجرهمي، ووهب بن منبه، وابن إسحق صاحب السيرة، والشرقي بن القطامي، وابن الكلبي، ولهم أشباه كثيرة ممن كانوا يسوقون أخبار الجاهلية القديمة، ولم يأخذوا ما فيها من الأشعار عن أهل البادية، ولم يعرضوا هذه الأشعار على العلماء بالشعر، فيميزوا لهم الصحيح المعروف لأصحابه من الشعراء، مما خولط به من الغثاء المولد المفتعل. وهؤلاء هم الذين أثبتوا تلك الأشعار في كتب تداولوها من كتاب إلى كتاب، أو تناقلوها رواية، ثم نقلت عنهم وأثبتت في الكتب.
وبقى بعد هذا وجه ثالث من الوجوه الخمسة الملثمة، وهو الذي جاء كلام ابن سلام حيث يقول: >وليس لأحدٍ، إذا أجمع أهل العلم على إبطال
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 81]
شيء منه، أن يقبل من صحيفة أو يروى عن صحفي<، فذكر >الصحيفة< و>الصحفي<، و>الصحيفة< في العربية، هي كل ما يكتب فيه، وقد جاءت على هذا المعنى في كتاب الله تعالى في آيات. يقول الله تعالى في سورة طه (133) يذكر مقالة مشركي قريش وغيرهم من العرب: {وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى}، و>الصحف الأولى< هي كتب الأنبياء في أمم قد خلت من قبلهم، كصحف إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وهي المذكورة المبينة في قوله تعالى في سورة النجم 36، 37: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى}، وفي قوله تعالى في سورة الأعلى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} وسمّي الله سبحانه القرآن العظيم >صُحُفًا< في قوله في سورة عبس: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة}، وكذلك قال في سورة البينة: {رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة}. ولما أفتى ابو بكر رضي الله عنه بكتابة القرآن سمّي كتاب الله >مصحفًا<، لأنه عندئذ سفر جامع للحصف بين دفتين، وكل مصحف كتاب. وقد جاء ذكر >الصحيفة< في شعر كثير من أشعار العرب، وفي أخبارهم، وأشهرها >صحيفة الملتمس< التي يقول فيها الفرزدق لنفسه:
ألق الصحيفة يا فرزدق، لا تكن .... نكداء مثل صحيفة المتلمس
فكان مفهومًا من نهي ابن سلام كل أحد أن يقبل من صحيفة، أنه نهى عن قبول شعر العر بمن كتاب مكتوب، وهو يعني بذلك ما ذكره قبل حيث قال: >وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب<، ولا يعني كتب العلماء بالشعر، لأنها غير داخلة في حديثه هنا عن الموضوع المفتعل المصنوع.
وأما >الصُّحُفِيّ<، فهو الذي يروى هذا الغثاء من قراءة تلك الصحف،
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 82]
فنهى ابن سلام عن الرواية عن >الصحفي< نهيٌ عن الأخذ والرواية عمن يعتمد في رواية الأشعار على هذه الكتب المؤلفة التي فيها شعر >صحيح< خولط بغث من الكلام رديء، منسوبًا إلى المعروفين من شعراء العرب، فإن شرط رواية شعرهم أن يأخذه سماعًا من أهل العلم والرواية الصحيحة. وقد بين ذلك ابن سلام نفسه حيث قال في آخر الفقرة الثالثة عشرة: >فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحق، ومثل ما روى الصحفيون، ما كانت إليه حاجة، ولا فيه دليل على علم< وقد روى ابن سلام وغيره أن ابن إسحق قيل له فيما يرويه من هذه الأشعار، فقال يعتذر منها: >لا علم لي بالشعر، أتينا به فأحمله< ولم يكن ذلك له عذرًا، كما قال ابن سلام. وهذا قدر كاف، إن شاء الله، في الكشف عن هذا الوجه، ومع ذلك فقد بقيت أشياء كاد يمكن أن تدرس في أمر هؤلاء القوم، ولكنها تخرج بي عن الحد الذي وضعته في دراسة رسالة ابن سلام في صدر كتاب الطبقات.
بقى إذن من الوجوه الخمسة الملثمة وجهان، يحتاجان إلى فضل بحث وتأمل، لكي نبلغ الغاية في إزالة كل لبس يعرض في فهم كلام ابن سلام، وقد عرض هذا اللبس، فأدى إلى أكبر الفساد في شأن الشعر الجاهلي. وأول هذين الوجهين: >العلماء<، الذين كان ينبغي على الذين تداولوا الأشعار المختلطة من كتاب إلى كتاب، أن يعرضوها على هؤلاء العلماء، والذين سماهم ابن سلام أيضًا >أهل العلم والرواية الصحيحة، الذين إذا أجمعوا على إبطال شيء من هذا الخليط، لم يكن لأحد بعد إجماعهم أن يقبل من صحيفة أو يروى عن صحفي< وثاني الوجهين: >أهل البادية<، الذين قال ابن سلام إن هذه الأشعار لم تؤخذ عنهم.
ذكرت قبل أن ابن سلام إنما أعجل عن أناته، فأقحم هذه الفقر من الفقرة الثالثة إلى الثلاثين، لأنه كان قد بدا له أن يتمم تأسيس >علم الأدب والشعر<، بتألف كتب عزم على أن يؤلفها بأخرة بعد أن طعن في التسعين.
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 83]
وهو ببغداد، وأنه حين لقى يومئذٍ يحيى بن معين وأضرابه من أئمة الجرح والتعديل، الذابين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراد أن يجعل المدخل إلى هذا العلم كتابا ككتب رجال السنة في بيان وجوه الزيف والتكذب على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بيان مراتب العلماء الجهابذة من نقلة الآثار ومنازل سائر النقلة من الحجة والثقة والضعف، وما عرف من الكذابين والوضاعين. وقلت أيضًا، إنه عندما بدأ إعادة كتابة النسخة الثانية من >طبقات فحول الشعراء<، أحسّ بالخوف أن يعجله الأجل عن تأليف كتاب جامع قائم برأس يجعله مدخلاً لعلم الأدب والشعر، فأسرع يجمع في هذه الفقر القلائل من الثالثة إلى الثالثة عشرة خلاصة بعض ما يريد أن يقوله عن الكلام المصنوع المفتعل الموضوع منسوبًا إلى الشعراء، ثم خلاصة موجزة أُخرى في مراتب العلماء بالشعر من الفقرة الرابعة عشرة إلى الفقرة الثلاثين.
وبدأت الفقرة الرابعة عشرة بقوله: >وكان لأهل البصرة في العربية قُدْمة (أي تقدُّم وسبقٌ)، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية<، ثم سرد موجز أسماء من اختار ذكرهم من علماء البصرة، وقليلاً من أخبارهم، حتى انتهى، فختم الفقرة الثلاثين بذكر رجل واحد من علماء الكوفة فقال: >وأعلم من رد علينا من غير أهل البصرة المفضل بن محمد الضبي الكوفي<، ولم يزد على ذلك شيئًا البتة، مجرد ذكر، مع أن المفضل قديم في طبقة يونس بن حبيب والخليل، لأنه توفى بعد سنة 170 تقريبًا، وكأنه لم يرد عليهم البصرة إلا قبل ذلك، وابن سلام يومئذٍ في نحو الثلاثين من عمره، فلم يذكر أحدًا من الكوفيين غير ورد البصرة ما بين سنة 170 إلى 222، حتى فارق البصرة إلى بغداد، وهذا عجيبٌ من فعل ابن سلام!!
وظاهر إذن أنه أراد بقوله >العلماء< في أول هذه الفقرة الثالثة، من ذكرهم هو من أئمة العربية من أهل البصرة، وبعض من لم يذكر منهم، وظاهر أيضًا أنه لم يحفل كثيرًا بذكر علماء الكوفة، فاقتصر على رجل كوفي واحد كان قدم عليهم البصرة، ورآه هو وسمع منه في صدر حياته. ولا أظن أنه أراد بذلك
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 84]
أن يستوعب القدح في علماء الكوفة، أو أن ينفي عنهم العلم بالشعر نفيًا شاملاً، ب لاحتمله ضرب من العصبية لأهل بلدته التي نشأ فيها وعاشر أهلها وعلماءها أكثر من ثمانين سنة. فإنه لما نزل بغداد سنة 222، واحتفى به الناس والأشراف والعلماء، رأى فيما رأى طبقة من أهل العلم من البغداديين، قد سووا في العلم بين علماء البصرة وعلماء الكوفة، وأخذوا عن هؤلاء وهؤلاء، ووازنوا بين أقوالهم، وميلوا بين مذاهبهم، فرجحوا مرة مقالة أهل البصرة على أهل الكوفة، ورجحوا أخرى مقالة أهل الكوفة على أهل البصرة، فساءت ابن سلام هذه المساواة بين علماء البصرة وعلماء الكوفة، وهذا الترجيح الذي يؤثر أحيانًا قول أهل الكوفة على قول أهل البصرة، فأراد أن يخص علماء البصرة حدهم بالفضل كله، ليظهر زهوه بفضل أهل بلدته على الناس وعلى العلماء وعلى العلم. وابن سلام معذور في هاذ الزهو، وفي الخيلاء بأهل بلدته، لأنه شهد بالبصرة عصرًا زاخرًا يعب عبابه، عصرًا وضعت فيه أصول علوم الإسلام كلها، نعم، كان لأهل الكوفة ولسائر مدن العربية والإسلام نصيب من هذا البحر الرجاف، ولكن ابن سلام رأى أن نصيب أهل البصرة هو النصيب الأوفى الذي لا يشاركهم فيه غيرهم، وكيف لا يكون ذلك كذلك، وهو إمام أهل البصرة في زمانه هذا (ما بعد سنة 222)، وهو قد جاوز الثمانين من عمره، وهو أيضًا الذي عاش بالبصرة ما بين مولده سنة 139، إلى أن نزل بغداد سنة 222، فرأى جبال العلم جبلاً بعد جبل، سمعهم وأخذ عنهم وشهد مجالسهم. كان قريبًا شاهدًا حاضرًا يرى جبلاً من العلم تتحدر عليه ومنه أمواج بعد أمود، يرد شرائعها طلاب العلم ويصدرون عنها رواءً، ثم يغيب الجبل، وإذا جبل آخر يرثه ويزيد عليه، وتتلاطم الأمواج، ويتقاصف عليها الوراد من آفاق الأرض، ثم يغيب، ويقوم غيره. وهكذا دواليك. فقد ابن سلام في صدر شبابه أبا عمرو بن العلاء حين هوى، ثم شمخ عيسى بن عمر الثقفي جبلاً شامخًا تتدفق أمواجه حتى كاد ينسى أبا عمرو، ثم يذهب عيسى أيضًا، ويأتي يونس بن حبيب، والخليل بن أحمد، ويذهبان، وحاله عند فقدان كل واحد منهم حال النابغة عندما مات حصن بن حذيفة الفزاري:
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 85]
يقولون: حصن! ثم تأتى نفوسهم .... وكيف بحصن، والجبال جنـــــــــــوح
ولم تلفظ الأرض القبور، ولم تزل.... نجوم السماء، والأديم صحيـــــــــــــح
فعما قليل، ثم جــــــــــــــــــــــــاش نعيه .... فبات ندى القوم وهو ينـــــــــــــــــــــوح
ثم تنجلي غمرة الأسى على يونس والخليل، عن زميله وصديقه سيبويه، فإذا جبل يؤسس علم الخليل ويونس وأبي زيد الأنصاري تأسيسًا لا مثيل له من قبل ولا شبيه! كان ابن سلام قريبًا من هذا كله يراه ويسمعه، فتأخذ بلبه هذه الأنوار المتلألئة، فيرى البصرة وحدها منبع نور ساطع تموت فيه الأنوار.
فلا جرم، إذن، أن يكون العلم عنده هو علم البصرة، والحجة الظاهرة هي حجة البصرة، وكل ما سوى البصرة فهو لها تبع. فما هؤلاء البغداديون المحدثون الذين يقايسون علماء البصرة بعلماء الكوفة؟ وما هذا المذهب المبتدع في ترجيح مذهب أهل الكوفة على مذهب أهل البصرة؟ واين هؤلاء من هؤلاء؟ هذا ما أظنه كان قائمًا في نفس شيخنا محمد بن سلام رحمه الله، وهو يكبت هذه الفقر عن مراتب علماء البصرة، مقتصرًا على واحد من أهل الكوفة.
ولكنه، بلا ريب، حين ذكر العلماء، في أول هذه الفقرة الثالثة، لم يعن إلا العلماء بالشعر، ولذلك قال في أول الفقرة التاسعة والعشرين، بعد أن فرغ من ذكر جمهرة من علماء البصرة ومراتبهم: >رجع إلى قول الشعر، وإلى قول العلماء فيه، ولكل من ذكرنا قول فيه< وهذه كلمة مهمة جدًا، لا يجوز إغفالها، لأني رأيت أكثر العلم قديمًا وحديثًا يظن أن هذه الفقر التي جمع فيها ابن سلام ذكر طائفة من علماء البصرة، وبدأ بذكر أبي الأسود الدؤلي، فقال: >وكان أول من اسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها<، ثم ختم ذكر العلماء بالخليل بن أحمد الفراهيدي فقال: >ثم كان الخليل بن أحمد .... فاستخرج [من] العروض واستنبط منه ومن علله ما لم
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 86]
يستخرج أحد، ولم يسبقه إلى مثله سابق من العلماء كلهم< = أقول يظن أكثر القدماء والمحدثين أن ابن سلام كتب هذا وأثبته في كتابه رغبة منه في ذكر مراتب النحويين البصريين، لأن جملة من ذكرهم من النحاة المقدمين المعروفين، ولجميعهم >في العربية قُدْمة، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية<، كما قال ابن سلام حين بدا في ذكر >العلماء< في الفقرة الرابعة عشرة.
وهذا خطأ صرفٌ، لم يرد ابن سلام أن يضع في كتابه شيئًا في مراتب النحويين البصريين. ولو كان ذلك أراد، كان خليقًا أن يختم هؤلاء الذين ذكرهم، لا بالخليل بن أحمد، بل بصديقه وخليله سيبويه، الذي جمع علم الخليل وعلم من كان معه ومن سبقه، وأسس علم النحو فريدًا على غير مثال سابق، وفي أول كتاب بحر جامع، طارت شهرته في الآفاق منذ عرفه الناس، إلى أن قصد الناس قرينه وصاحبه الأخفش سعيد بن مسعدة (المتوفى سنة 210) ليقرأوا >الكتاب< عليه، وشهد ذلك ابن سلام نفسه، فهو أحق بأنه يزهى به ابن سلام في هذا الموضع، ويختم به ذكر علماء البصرة من النحاة. ولكنه لم يرد النحاة، فلذلك تركه ولم يذكره.
ونعم، كان أكثر الذين ذكرهم في هذا الموضع نحاة أئمة، ولكنه لم يرد نحوهم، بل أراد علمهم بالشعر. والناس قديمًا وحديثًا يتوهمون أن النحاة بمعزل عن علم الشعر وروايته، وإذا صح هذا في زمن متأخر، فإن ذلك الزمان الأول المتقدم قاضٍ على النحاة بأن يكونوا بالمنزلة العالية من علم الشعر ومن روايته. فإنهم حين أرادوا أن يضعوا للعربية >نحوًا< جامعًا، على غير مثال سابق، لم يكن لهم إلى ذلك سبيل إلا بتتبع كلام العرب جميعًا، على اختلاف منازلهم، واختلاف لهجاتهم، واختلاف لغاتهم واختلاف أزمنتهم منذ الجاهلية القديمة إلى زمانهم الذي هم فيه، ولا سبيل إلى ذلك إلا باستقصاء كلامهم، وأهم كلامهم كله كان هو >الشعر<. فلذلك كان هم جميع من ذكرهم ابن سلام منذ أبي الأسود إلى الخليل، أن يتتبعوا الشعر مع التوثق من صحته. وأن يستقصوا ذلك استقصاءً تامًا ما استطاعوا، وأن ينظروا فيه نظرًا فاحصًّا يجمع
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 87]
النظائر في كل باب من أبواب أساليب الكلام وأبنيتها وتصاريفها، لكي يستطيعوا أن يؤسسوا العلم على أصول لا تختلف ولا تضطرب. وقد بلغ جميعهم، على اختلاف أزمنتهم، غاية ليس لها مثيل في تاريخ لغات البشر إلى يومنا هذا. والأصل الذي بنوا جميعًا عليه هو >الشعر<. ولولاه لما استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوا، ولما كان النحو الذي نعرفه اليوم، ولضاعت اللغة، ولذهب كل علم بلغات العرب وغريب كلامها في أساليبها وفي تصاريف ألفاظها. وأسر مراجعة لكتاب سيبويه الذي عقد له الخليل بن أحمد عقده الذي لا يختل، دالة على أن الشعر، كان هو مصدر هذا العلم كله.
وإذا كان ابن سلام قد احتمله الزهو بأهل البصرة، حين نزل بغداد، وهو يومئذ إمام البصرة، فذكر في عبارته ما يوهم أنه ذاكرٌ >نحاة< لا حملة للشعر، فإن هذا الزهو كله مصروف إلى أنهم كانوا أول من أسس علم العربية. أما الذي يريده، فهو ما يدل عليه تاريخ تأسيس النحو، وهو >الشعر<. بدأ ابن سلام بأبي الأسود الدؤلي، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام حتى توفى في الطاعون الجارف سنة تسع وستين، ويقال إنه مات عن خمس وثمانين سنة، فكأنه ولد قبل البعثة بثلاث سنوات، وقبل الهجرة بست عشرة سنة. فلما نزل البصرة وبدأ هذا العلم، وهو قليل جدًا كما هو معروف، أخذه عنه يحيى بن يعمر العدواني، فيما يقول ابن سلام، وأنا لا أشك أن هذا القليل لا يؤخذ إلا على وجه واحدٍ: أن يكون أخذ عنه >الشعر< أولاً، ثم أخذ عنه هذا القليل لينميه بتتبع >الشعر< والنظر فيه.
ثم أخذ ذلك عن يحيى >قتادة بن دعامة السدوسي< وميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، ونصر بن عاصم الليثي، وأخذ عن هؤلاء عبد الله بن أبي إسحق الحضرمي، المتوفى سنة 127 عن ثمان وثمانين سنة، ومعه أبو عمرو بن العلاء الذي بقى بعد ابن أبي إسحق بقاء طويلاً حتى توفى سنة 159، وقد أخذ ابن سلام نفسه عن أبي عمرو، كما أخذ عنه أيضًا عيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة 150. وأخذ عن أبي عمرو: يونس بن حبيب، المولود سنة 90، والمتوفى
[قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 88]
سنة 182، ومعه مسلمة بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري، وهو مسلمة النحوي، وجمع علم هؤلاء جميعًا في صدر الخليل بن أحمد الفراهيدي، فكان أمة وحده، حتى توفى سنة 175 عن أربع وسبعين سنة، هكذا ساقهم ابن سلام، فهؤلاء هم نقلة الشعر بالبصرة، وجماعة الذين تلقوه وزاد بعضهم على بعض، يتوارثونه خلفًا عن سلف، قبل أن يبدأ تاريخ آخر لنقل الشعر بالبصرة، على يد أبي محرز خلف بن حيان الأحمر، وكان في زمان الخليل، وتوفى سنة 180، ثم الأصمعي، المتوفى سنة 216، عن ثمان وثمانين سنة، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، المولود سنة 112، والمتوفى سنة 211، في حياة ابن سلام، فهؤلاء بدأوا طريقًا آخر لجمع الشعر وتتبعه غير طريق السابقين من علماء الشعر بالبصرة. فما هو هذا الأخذ الذي ذكره ابن سلام؟). [قضية الشعر الجاهلي في كتاب ابن سلام: 78-89]