تمهيد
مما ينبغي لطالب العلم تفهّمه ما يكون في القرآن وفي لغة العرب من الحمل على اللفظ والحمل على المعنى.
فالحمل على اللفظ هو أن يُتبع الكلام ما يقتضيه من تذكير أو تأنيث ومن جمع أو تثنية أو إفراد، وهو الأصل الكثير الشائع.
والحمل على المعنى هو أن يكون الإتباع لأجل المعنى على خلاف اللفظ، كما قال الله تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم} ، وهذا حملٌ على معنى الجمع في {كم من ملك} ، ولو حمل على اللفظ لقال: لا تغني شفاعته.
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)}
{يستمعون} حمل على المعنى لأنهم جماعة، ولو حمل على اللفظ لقال: ومنهم من يستمع.
وقد يجتمع في موضع واحد حمل على اللفظ ثمّ حمل على المعنى، وهو كثير أيضاً في القرآن الكريم،
ومن أمثلته:
1: قول الله تعالى: {ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ}
{لا يملك} حمل على اللفظ،
و{لا يستطيعون} حمل على المعنى.
2: وقوله تعالى: {وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فجمع الحمل على اللفظ والحمل على المعنى.
{كان} حمل على اللفظ، ولو حمل على المعنى لقال: كانوا.
{هوداً أو نصارى} حمل على المعنى، ولو حمل على اللفظ لقال: إلا من كان هائداً أو نصرانياً.
3: وقوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فصدر الآية حمل على اللفظ، وخاتمتها حمل على المعنى.
4: وقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}
{زين له} حمل على اللفظ،
و{اتبعوا} حمل على المعنى.
5: وقوله تعالى: { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}
{خالد} حمل على اللفظ
{وسقوا} حمل على المعنى.
6: وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}{خالدين} حمل على المعنى، وما قبلها حمل على اللفظ.
فهذه أمثلة الجمع والإفراد، وأما التذكير والتأنيث فمن أمثلته قول الله تعالى: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحًا}
{يقنت} حمل على اللفظ و{تعمل} حمل على المعنى.
وقرأ حمزة والكسائي: {ويعمل صالحاً} بالحمل على اللفظ.
وقرأ روح وزيد عن يعقوب في الشواذ: [ ومن تقنت ] بالحمل على المعنى.
- قال أبو حيان في ارتشاف الضرب: (إذا حملت تارة على اللفظ وتارة على المعنى، وسبق الحمل على اللفظ؛ فلا خلاف في جوازه وحسنه وكثرته).
- وقال الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة في دراساته: (إذا اجتمع الحملان: الحمل على اللفظ، والحمل على المعنى، بدئ بالحمل على اللفظ، هذا هو الشائع المستفيض في القرآن).
وقد يقع في القرآن حمل على اللفظ ثم حمل على المعنى ثم رجوع إلى الحمل على اللفظ
ومن أمثلته:
1: قول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}
- مضمر ما بعد (ما) وقدّر بـ(استقرّ) حمل على اللفظ.
- و{خالصة} حمل على المعنى.
- و{محرم} حمل على اللفظ.
2: وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
وقد يقع حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ ثم على المعنى، ومن أمثلته:
1: قول الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}
2: وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)}
فالآية الأولى الحمل فيها على اللفظ، والآية الثانية على المعنى، والآية الثالثة على اللفظ، والآية الرابعة على المعنى.