المثال الثاني: قول الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}
ذكر الله تعالى من مننه على عباده ما خلق لهم من أنواع الأزواج كلها، من أنفسهم ومن الحيوانات والنباتات وغيرها.
ثم قال: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} "جعل" تأتي بمعنى خلق وبمعنى صيَّر، وإيثار هذا اللفظ لصلاحيته للمعنيين ولجنسَي الفلك والأنعام.
ولذلك لمّا أفرد الأنعام في جملة مستقلة في سورة يس ذكر لفظ الخلق؛ فقال تعالى: {وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون . وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}
و(ما) اسم موصول يصلح للمفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهو مذكّر لفظاً.
(وظهور) بالجمع حمل على المعنى لتعدّد ما يُركب، والظهر هنا يعمّ الظهر المخلوق من الأنعام، والمصنوع من الفلك؛ فانتظمهما اسم الظهر انتظاماً بديعاً.
وقال: {ما تركبون} فأخلي الفعل من التعدية ليصلح لركوب الفلك والأنعام؛ فإن ركوب الفلك يعدَّى بفي كما في قول الله تعالى: {وقال اركبوا فيها} أو بنفسه.
وركوب الأنعام يُعدّى بنفسه كما في قول الله تعالى: {لتركبوها} وبعلى كما يقال: ركبت على البعير.
والضمير المفرد في قوله تعالى: {على ظهوره} حمل على اللفظ، ويراد به الجنس، أي على ظهور ما يركبون.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ({لتستووا على ظهوره}: " التذكير لـ " ما ").
فاجتمع في كلمة واحدة الحمل على اللفظ والحمل على المعنى؛ فجمع "الظهور" حمل على المعنى، وإفراد الضمير حمل على اللفظ.
وجمع الظهور هنا أعظم دلالة على كثرة الإنعام بما جعل الله لنا مما نركب من الفلك والأنعام.
وإفراد الضمير أدل على كمال الرعاية لكل راكب بما يناسبه وأنه ينتقي منها، ويدلّ على كثرة المركوبات بما لا تستغرقه حاجة البشر؛ فمهما ركبوا فيبقى من المركوبات ما ليس بمركوب، وهذا ما لا يدل عليه جمع الضمير لو قال: على ظهورها.
{ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} حمل على اللفظ، وهو تذكير "ما" تذكيراً لفظياً.