تمهيد
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:
فهذه رسالة في تفسير قول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}
وبيان ما تضمنته من معانٍ واسعة، وهدايات جليلة بألفاظ وجيزة محكمة تبيّن للمؤمن سبيل العزّة، وتخلّصه من أوهام الغرور، وتقيم البراهين الجلية على أن العزّة لله جميعاً، وأنه هو الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، وأنه لا سبيل لأحدٍ إلى نيل العزّة على الحقيقة إلا بالله تعالى، وبما أرشد إليه.
مقاصد سورة فاطر
اشتملت سورة فاطر على مقاصد جليلة من تقرير التوحيد، وإثبات الجزاء، وبيان سنة الله تعالى في الأمم السابقة، والتعريف ببعض صفات الله تعالى وآلائه، وتلك مقاصد بيّنة لا يكاد يخطئهما المتدبر، واشتملت أيضاً على مقصدين مهمّين لهما أثر عظيم على حال المكلَّفين وعاقبة أمرهم سأفرد الحديث عنهما بشيء من التفصيل:
المقصد الأول: بيان السبيل إلى العزّة الحقيقية.
والمقصد الثاني: الشفاء من أوهام الغرور وآثاره السيئة.
وهاتان القضيتان من أهمّ ما يحتاج المكلفون إلى بيان الهدى فيه، فكم ضلَّ فيهما من ضالّ، وتحيّر فيهما من متحيّر؛ فأتى الله تعالى فيهما ببيان شافٍ، فمن اتبع ما بيّنه الله تعالى من الهدى في هذه السورة الكريمة أبصر الطريق الصحيح المثمر للحال الطيبة والمفضي إلى العاقبة الحسنة، وسلم من مغبَّة المخالفة وآثارها السيئة على حال المكلف وعاقبته.
واستهلّت السورة بآيات جليلة هي كالمقدمات بين يدي التفصيل في شأن هاتين القضيتين؛ تضمنت تلك الآيات براهين جلية تنير البصيرة، وتثمر اليقين، لمن صدّق بآيات الله تعالى، واتّبع هداه.
فاستهلّت السورة بالحمد لله تعالى الذي فطر السموات والأرض فأنشأ خلقهما على غير مثال سابق، وذلك فيه تنبيه جليّ على أنه تعالى لا يعجزه شيء مما يحتاج إليه خلقه، وذكر جنداً من جنوده الأخفياء عن عيون البشر، وهم الملائكة الذين لا يحصي عددهم كثرة إلا الله تعالى، ونوّع خلقهم، ووهبهم من القوة والقدرة على أداء ما أوكل إليهم من الأعمال، والعصمة من العصيان، ما لو تفكّر فيه الإنسان لتحيّر فكره من كثرتهم وقدرتهم ودأبهم على العمل؛ فهذا جند واحد من جنود لله تعالى، والله غنيّ عنهم، وإنما ذكر ذلك لتطمئنّ به قلوب المؤمنين، ويزدادوا يقيناً بأن الله تعالى محيط بكلّ شيء علماً.
ثم بيّن الله تعالى أنه ما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها، {ورحمة} نكرة في سياق الشرط فتشمل كلّ رحمة؛ فلا سبيل لأحد من الخلق مهما كان إلى منع رحمة أراد الله تعالى أن يفتحها لعبد من عباده، {وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}.
ثمّ ذكّر الله تعالى الناسَ بنعمته عليهم وأنهم لا خالق لهم إلا الله، وأن الذي خلقهم هو الذي قدّر أرزاقهم، وأنه لا إله إلا هو، وأنّ مرجع الأمور كلّها إلى الله تعالى.
فلما تقررت هذه المقدمات المهمة التي تملأ قلب المؤمن إيماناً وخضوعاً لله تعالى وتوحيداً له واعتقاداً جازماً بأنّ النفع والضرّ بيد الله تعالى وحده ذكر القضيتين الجليلتين ببيان بديع محكم.