تفسير قول الله تعالى: { يوقد من شجرة مباركة}
● القراءات في قوله تعالى: {يوقد}
في قول الله تعالى: {يوقد} قراءات:
الأولى: {يُوقَدُ}، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم.
والثانية: [تُوقَدُ] بضم التاء والدال، وهي قراءة حمزة، والكسائي، وأبي بكر عن عاصم.
والثالثة: [ تَوَقَّدَ ] بفتح التاء والقاف وتشديدها وفتح الدال، فعل ماضٍ، وهي قراءة ابن كثير.
والرابعة: [تَوقَّدُ] وهي رواية هارون بن موسى عن أبي عمرو، ورواية عن عاصم.
● معاني القراءات في قوله تعالى: {يوقد}
- من قرأ {يُوقَدُ} فالمراد به المصباح، والفعل مضارع لإفادة التجدد، وبناؤه لما لم يسمّ فاعله لعدم تعلّق المراد بفاعل الإيقاد.
- ومن قرأ [تُوقدُ] فالمراد به الزجاجة، والفعل مضارع لإفادة التجدد.
- ومن قرأ [توقَّدَ] فالمراد به المصباح، والفعل ماضٍ لإفادة الثبات، والتضعيف في الفعل لبيان شدّة التفعّل من الإيقاد.
- ومن قرأ [ تَوقَّدُ ] فالمراد به الزجاجة، والفعل مضارع لإفادة التجدد حُذِفت تاؤه الأولى، وبناؤه على تفعَّل يفيد شدة الإيقاد.
فتحصّل من هذه القراءات وصف نور الإيمان والقرآن في قلب المؤمن بشدة الإضاءة وتجددها وثباتها، ووصف قلب المؤمن المشبَّه بالزجاجة بذلك أيضاً.
● المراد بالشجرة المباركة
الشجرة المباركة هي شجرة الزيتون المبيّنة في قوله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية}
والتقدير يوقد من شجرة زيتونة مباركة.
والتنوين في {شجرة} للتفخيم.
وتقديم وصف المباركة على بيان جنس الشجرة للتشويق ولتعظيم شأن وصفها بالبركة
و{مباركة} اسم مفعول لم يُسمّ فاعله، ولا ريب أنّ الذي باركها هو الله جلّ وعلا؛ فلا ينقطع خيرُها، ولا يضمحلّ، بل هو في دوام وتجدد وزيادة.
والشجرة مَثَلٌ مضروب لما يستمدّ منه نور قلب المؤمن، وقد روي في تفسير المراد بها ثلاثة أقوال عن السلف رحمهم الله:
القول الأول: قول أبيّ بن كعب رضي الله عنه، وقد فسّر المراد الشجرة بأنه الإخلاص لله تعالى وعبادته وحده لا شريك له.
وهذا يشمل أمرين:
أحدهما:فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها، وهي المراد بالنور المذكور في قول الله تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} أي من نور الفطرة الصحيحة التي كانوا عليها إلى ظلمات الكفر والفسوق والعصيان.
والآخر: التوحيد الذي هو دين جميع الرسل والأنبياء كما قال الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} وهو النور المراد في قول الله تعالى: {الله وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}
القول الثاني: مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أن المراد بالشجرة إبراهيم عليه السلام.
وتوجيه هذا القول أنَّ إبراهيم عليه السلام هو إمام الموحدين، وهو الذي أُمِرَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم وأمرنا باتباع ملته كما قال تعالى: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}
وقال تعالى: { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}
وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)}
وقال تعالى: { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)}.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}.
وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنه جزء من المعنى، ولا يصحّ إسناد الرواية فيه عن ابن عمر.
- قال علي بن ثابت الجزري، عن الوازع بن نافع العقيلي عن سالم عن ابن عمر في قول الله عز وجل: {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} قال: (المشكاة: جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والمصباح: النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه {يوقد من شجرة مباركة} الشجرة إبراهيم عليه السلام {لا شرقية ولا غربية} لا يهودي ولا نصراني، ثم قرأ: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين}). رواه الطبراني في المعجم الأوسط والكبير، والمعافى بن زكريا في "الجليس الصالح".
والوازع بن نافع ضعيف الحديث جداً.
القول الثالث: الشجرة ليست من شجر الدنيا، ولكنها شجرة التوحيد، وهذا أقرب ما فسّر به قول الحسن البصري رحمه الله.
- قال هشيم بن بشير: أخبرنا عوفٌ، عن الحسن، في قوله: {لا شرقيّةٍ ولا غربيّةٍ} قال: (هذا مثلٌ ضربه اللّه، ولو كانت هذه الشّجرة في الدّنيا لكانت إمّا شرقيّةً، وإمّا غربيّةً). رواه ابن جرير.
وروى مثله عبد الرزاق عن معمر عن الحسن، لكن رواية معمر عن الحسن منقطعة.