اعتبارات التقديم والتأخير
والتقديم والتأخير يقع لاعتبارات متعددة، تعرف بدلالة السياق والمناسبة المعنوية أو اللفظية، ولذلك ينبغي أن يُفسّر الاعتبار في كلّ موضع بحسبه، وقد يجتمع في المسألة الواحدة اعتبارات متعددة، وتمرّن طالب العلم على دراسة أمثلة التقديم والتأخير عند المفسرين والبيانيين تفيده في معرفة هذه الاعتبارات وإجراء مثلها على نظائرها.
وقد يُقدّم لفظ على لفظ في موضع لاعتبار، ويؤخر عنه في موضع آخر لاعتبار آخر، وتختلف اجتهادات العلماء في تلمّس تلك الاعتبارات والكشف عنها.
- ومن ذلك: قول الله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} فلمّا ذكر الخلق بدأ بأوّل مخلوق منهما كما قال الله تعالى: {والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم}، وفي قول الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجنّ} قدّم الإنس لأن عداوتهم أظهر وأشهر عند المخاطبين؛ فكان تقديمهم أنسب، ولأن الأنبياء من الإنس فتقديم ذكر أعدائهم الذين من جنسهم أولى.
- ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)} وقال في موضع آخر: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)}
فقدّم عيسى على أمّه في سورة المؤمنون لمناسبة السياق فإنه في الحديث عن الرسل ومخاطبتهم فقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)}
وقدّم مريم في سورة الأنبياء لما كان الحديث عن تفريج كربها وإحصانها فرجها فكان تقديمها أنسب، قال الله تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)}.
أغراض التقديم والتأخير:
لكن يحسن بالمفسّر أن يعرف جملة مما يتكرر ذكره من أغراض التقديم والتأخير في كتب التفسير والبيان، ثم يسهب في تفصيلها وبيانها عند الحاجة، ومن هذه الأغراض:
1: البدء بالأهمّ، كما في قول الله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}.
وقد يكون الأهمّ باعتبار القائل لا في حقيقة الأمر كما في قول الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)}
فإنّهم قدّموا ذكر آلهتهم بأشرف أوصافها عندهم ورمزوا لعيسى عليه السلام بالضمير تهويناً من شأنه؛ وأخرجوا الاستفهام مخرج من يريد تقرير المخاطَب بالجواب المضمَّن فيه.
ونظير ذلك قول الله تعالى: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)}
2: البدء بالأولى لمناسبة السياق ومقام الخطاب، ومن ذلك ترتيب أصول الإيمان في قول الله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} فإنّ الإيمان مبناه في الأصل على التصديق بالغيب، فقُدّم ذكر اسم الله ثم الملائكة ثم الكتب ثم الرسل.
3: التنزّل والترقي، وله أنواع:
- فمنها البدء بالأفضل، ومثاله قول الله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً}
- ومنها البدء بالأقلّ، وهو وجه في الآية السابقة.
- ومنها البدء بالأكثر كما في قول الله تعالى: {زين للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث} فكان في ترتيب أنواع الشهوات من مراعاة حال أكثر المخاطبين ما هو ظاهر بيّن.
- ومنها التدرج من الأخص إلى الأعمّ كما في قول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)}
- ومنها التدرج من الأعمّ إلى الأخص كما في قول الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}.
4: والتشويق، كما في قول الله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}.
6: والتبكيت كما في قول الله تعالى: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين}.
وقد كتب شمس الدين ابن الصائغ الحنفي(ت:776هـ) كتاباً في التقديم في القرآن سمّاه "المقدّمة في سرّ الألفاظ المقدَّمة" نقل منه السيوطي في الإتقان وغيره، وذكر عنه عشرة أنواع للتقديم في القرآن.