أقسام مباحث التقديم والتأخير
مباحث التقديم والتأخير يمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: تقديم المعمول على عامله
وهو على أنواع منها:
1: تقديم المفعول على الفاعل، كما في قول الله تعالى: {بل اللهَ فاعبد}.
2: وتقديم الجار والمجرور على متعلّقه، كما في قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا}
3: وتقديم الظرف على عامله، كما في قول الله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب}
4: وتقديم الخبر على المبتدأ كما في قول الله تعالى: {سلام هي حتى مطلع الفجر}
5: وتقديم خبر إنّ وأخواتها على الاسم ، كما في قول الله تعالى: {إنّ إلينا إيابهم}
6: وتقديم خبر كان وأخواتها على الاسم، كما في قول الله تعالى: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}
7: وتقديم الحال على العامل فيها كما في قول الله تعالى: {خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} ، وقوله تعالى: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةً لذكورنا} على قراءة نصب خالصةً.
وتقديم المعمول على عامله على مرتبتين:
المرتبة الأولى: ما يفيد الحصر
كما في قول الله تعالى: {إياك نعبد} أي نعبدك ولا نعبد غيرك، وكما في قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين . بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون}
فقوله: {بل إياه تدعون} أي تدعونه ولا تدعون غيره.
وكما في قول الله تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} أي لا نتوكل إلا عليه، وأما الإيمان فنؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبكلّ ما أمرنا بالإيمان به.
والمرتبة الثانية: ما يفيد الاختصاص
وهو اختصاص بالذكر لا يقتضي الحصر، كما في قول الله تعالى: {ونوحاً هدينا من قبل} ، قدَّم اسم نوح على الفعل، والله تعالى قد هدى نوحاً وهدى غيره من أنبيائه وصالحي عباده، لكن اختص نوحاً عليه السلام للتنويه بذكره.
وقال تعالى: {والرجز فاهجر} فاختص الرجز بالأمر بالهجر لتعظيم الأمر بهجرها وأنها أولى ما يجب أن يُهجر مما نهى الله عنه.
وقال تعالى: {ووضعنا عنك وزرك} قدّم المفعول الثاني وهو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتنويهاً بذكره، وأخّر المفعول الأوّل تشويقاً إليه.
والأصل في الاختصاص إفادة العناية والاهتمام بالمقدَّم، ولذلك دأب كثير من المفسرين والبيانيين على تعليل التقديم بإفادة العناية.
- قال سيبويه: (كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهمّ لهم، وَهُم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يُهِمّانِهم ويَعْنِيانهم).
وهذا وإن كان هو الأصل إلا أنّ الأجود تفسير تلك العناية والكشف عن وجهها.
- قال عبد القاهر الجرجاني: (إلا أن الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قُدِّمَ في موضع من الكلام مثل هذا المعنى، ويفسر وجه العناية فيه هذا التفسير، لا يكفي أن يقال قُدِّمَ للعناية، وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال: "إنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم"، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية؟ وبم كان أهم؟ ولتخيّلهم ذلك قد صغر أمْرُ "التقديم والتأخير" في نفوسهم، وهوَّنوا الخطب فيه، حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبعه والنظر فيه ضرباً من التكلّف).
إلى أن قال: (لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة، ومَنَعَهم أن يعرفوا مقاديرها، وصدَّ بأوجههم عن الجهة التي هي فيها، والشقّ الذي يحويها، والمداخلُ التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم، ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه وإحراز فضيلته كثيرة، وهذه من أعجبها).
وخلاصة ما اطلعت عليه مما ذكره البيانيون من أغراض التقديم ومن تأمّل ما شاء الله من أمثلته في القرآن الكريم أن التقديم يقع لأغراض منها: التشريف، والتعظيم، والتعجب، والتشويق، والتبكيت، وتعجيل المسرّة، وتعجيل المساءة.
فإذا كان المفسّر في موضع يقتضي الإيجاز اكتفى بالتنبيه على الغرض؛ فإنّ اللبيب يدرك ما وراء العبارة إذا ألمحتَ له بوجهها، وفتحتَ له باب التأمّل فيها، وإن كان المفسّر في موضع يجمل فيه التفصيل أسهب في شرح الغرض وبيان وجهه ومناسبته.
وشرح ذلك بالمثال بيان ما دلّ عليه التقديم في قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة} فقدّم "إلى ربّها" تقديماً يفيد أنّ المؤمنين إذا رأوا ربّهم يوم القيامة لم يلتفتوا إلى غيره من النعيم؛ فكأنّهم يوم يرون ربّهم لا ينظرون إلى غيره.
فلو قلت: التقديم للعناية والاهتمام لكان كلاماً مجملاً غير مبيَّن، وإن كان صواباً في نفسه.
والقسم الثاني: تقديم غير المعمول، كتقديم بعض المفردات والجُمَل المتناظرة على بعض
ومن ذلك تقديم بعض الأسماء الحسنى على بعض في خواتم الآيات، وتقديم السموات على الأرض في بعض المواضع وتقديم الأرض على السموات في مواضع أخر، وتقديم الجن على الإنس، وتقديم الإنس على الجنّ كذلك، وتقديم الرحمة على العذاب والعكس، وتقديم النفع على الضر والعكس، ونظائر ذلك كثيرة.
ومن ذلك أيضاً تقديم بعض المتعاطفات على بعض كما في قول الله تعالى في التذكير بنعمة نار الدنيا: {نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين} فقدَّم التذكرة على المتاع؛ لأن التذكرة فائدتها أخروية، والمتاع فائدته دنيوية، وفيه تنبيه على أنه ينبغي أن نقدّم ما منفعته في الآخرة أعظم.
ولذلك يتكرر في القرآن تقديم المنافع الدينية على المنافع الدنيوية، كما في قول الله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين}
فقدّم نعمة بعث الأنبياء فيهم على نعمة جعلهم ملوكاً؛ لأنّ منفعة الأنبياء منفعة دينية وباتباعهم صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة، ومنفعة جعلهم ملوكاً منفعة دنيوية.
وأمثلة هذا القسم من التقديم والتأخير كثيرة جداً في القرآن الكريم، واعتبارات التقديم والتأخير متنوّعة، ومشتملة على لطائف لا تنقضي.
- قال ابن عاشور: (وإن للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها، وسننبه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله، وإليك مثلا من ذلك يكون لك عوناً على استجلاء أمثاله.
قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا} - إلى قوله:- {إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا}- إلى قوله:- {وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا}؛ فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله: {إن للمتقين مفازا} أنه الجنة؛ لأن الجنة مكان فوز، ثم كان قوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} ما يحتمل لضمير "فيها" من قوله: {لا يسمعون فيها} أن يعود إلى {كأسا دهاقا}
وتكون "في" للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج، وأن يعود إلى {مفازا} بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة، وتكون "في" للظرفية الحقيقة أي لا يسمعون في الجنة كلاماً لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذياً.
وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة مفازا، ولم يؤخّر و{كأسا دهاقا} ولم يعقب بجملة: {لا يسمعون فيها لغوا} إلخ).
- وقال د.فاضل السامرائي: (إن تقديم الألفاظ بعضها على بعض له أسباب عديدة يقتضيها المقام وسياق القول، يجمعها قولهم: إن التقديم إنما يكون للعناية والاهتمام؛ فما كانت به عنايتك أكبر قَدَّمتَهُ في الكلام، والعناية باللفظة لا تكون من حيث إنها لفظة معينة بل قد تكون العناية بحسب مقتضى الحال، ولذا كان عليك أن تقدم كلمة في موضع ثم تؤخرها في موضع آخر لأن مراعاة مقتضى الحال تقتضي ذاك، والقرآن أعلى مثل في ذلك فإننا نراه يقدم لفظة مرة ويؤخرها مرة أخرى على حسب المقام.
فنراه مثلاً يقدم السماء على الأرض ومرة يقدم الأرض على السماء، ومرة يقدم الإنس على الجن ومرة يقدم الجن على الإنس، ومرة يقدم الضر على النفع ومرة يقدم النفع على الضر، كل ذلك بحسب ما يقتضيه فن القول وسياق التعبير.
فإذا أردت أن تبين أسباب هذا التقديم أو ذاك فإنه لا يصح الاكتفاء بالقول إنه قدم هذه الكلمة هنا للعناية بها والاهتمام دون تبيين موطن هذه العناية وسبب هذا التقديم.
فإذا قيل لك مثلاً: لماذا قدم الله السماء على الأرض هنا؟
قلت: لأن الاهتمام بالسماء هنا أكبر.
ثم إذا قيل لك: ولماذا قدم الله الأرض على السماء في هذه الآية؟
قلت: لأن الاهتمام بالأرض هنا أكبر.
فإذا قيل لك: ولماذا كان الاهتمام بالسماء هناك أكبر وكان الاهتمام بالأرض أكبر؟
وجب عليك أن تبين سبب ذلك وبيان الاختلاف بين الموطنين، بحيث تُبين أنه لا يصح أو لا يَحْسُنُ تقديم الأرض على السماء فيما قدمت فيه السماء، أو تقديمُ السماء على الأرض فيما قدمت الأرض بياناً شافياً. وكذلك بقية المواطن الأخرى.
أما أن تكتفي بعبارة أن هذه اللفظة قدمت للعناية والاهتمام بها فهذا وجه من وجوه الإبهام، والاكتفاءُ بها يضيع معرفة التمايز بين الأساليب فلا تعرف الأسلوب العالي الرفيع من الأسلوب المهلهل السخيف، إذ كل واحد يقول لك: إن عنايتي بهذه اللفظة هنا أكبر دون البصر بما يستحقه المقام وما يقتضيه السياق)ا.هـ.