تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض}
الإضافة هنا إضافة معنوية على معنى اللام تفيد الاختصاص أي: نورٌ للسموات والأرض، وجملة المبتدأ والخبر تفيد الحصر، أي: الله وحده هو نور السموات والأرض؛ فلا نور للسموات والأرض إلا بالله ومن الله.
وفي الصحيحين من حديث طاووس بن كيسان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيّام السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن). الحديث.
وهذا الحديث صريح في معنى الحصر.
● ما يُطلق عليه لفظ النور
لفظ "النور" يطلق على معنيين:
أحدهما: النور الحسي، وهو ما يكون من إضاءة الأجرام المضيئة إضاءة أصلية أو ناقلة للضوء أو عاكسة له.
والآخر: النور المعنوي، وهو ما تتبصّرُ به البصائر، ويحصل به الهدى للحق، وسلوك الصراط المستقيم، وهو المراد بوصف القرآن بأنه نور، ومحمد صلى الله عليه وسلم بأنه نور، وهو المراد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً ...) الحديث.
ومنه يقال: إن للحقّ نوراً.
ومن النور المعنوي: نور الفطرة الصحيحة كما في قول الله تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}
● إفادة هذه الإضافة للحصر
إفادة الإضافة في قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} للاختصاص ظاهرة، والاختصاص في الإضافة يقع على مرتبتين:
إحداهما: ما تفيد معنى الأولوية
والأخرى: ما تفيد معنى الحصر
فمثال الأولوية: أن يقال: فلان قرّة العين، وريحانة البلد، وبهجة النفس، أي هو أولى ما تقرّ به العين، وأطيب أهل البلد ذكراً، وأحظاهم ببهجة النفس، ولا يقتضي ذلك ألا يكون لغيره نصيب من هذه الصفات.
ويقال أيضاً: فلان شاعر الملك، ويكون للملك شعراء كثيرون لكن اختصاص أحدهم بهذه الصفة يفيد مع تشريفه أنه أولى الشعراء بالحظوة لدى الملك.
ومثال الحصر: قول الله تعالى: {مالك يوم الدين} ، وقوله تعالى: {الله خالق كلّ شيء}
ويقال: فلان مالك الدار، للدلالة على معنى الحصر.
وقد يقع معنى الحصر لإفادة أن ما سوى المضاف لا نسبة له معه، كما في قول الله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} فأضاف للأرض زلزالاً واحداً مفرداً؛ فكأنّ ما كان في الأرض من الزلازل قبل ذلك الزلزال لا تُعدّ شيئاً معه.
وفي قول الله تعالى: {وأنّ عذابي هو العذاب الأليم} ما يوضّح هذا المعنى، وأنّ ما يعدّه الناس من العذاب في الدنيا بأنواع الضرب والقتل وآلام الجراحات ووضع النساء وغيرها لا نسبة له إلى عذاب الله يوم القيامة كما في قول الله تعالى: {فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد}.
فتحصّل من هذا البيان أنّ قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} يفيد معنى الحصر في نوعي النور الحسي والمعنوي من غير تشبيه ولا تمثيل، فالله تعالى هو نور السموات والأرض الذي لولاه لم يكن فيهما نور، ولا أبصر أحد من خلقه شيئاً، ولا اهتدى إلى مصلحة من مصالحه، ولا عرف حقاً من باطل؛ فإن كلّ ذلك لا يكون إلا بنور من الله تعالى.
● أنواع النور المضاف إلى الله جلّ وعلا
النور الذي يضاف إلى الله جلّ وعلا على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: النور الذي هو صفة من صفات ذات الله تعالى، والإضافة فيه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف بها، كوجه الله، وعلم الله، وعزّة الله، ورحمة الله.
ونورُ الله تعالى ليس كمثله شيء من الأنوار، بل لو جمع ما في الكون من الأنوار العظيمة لكانت نسبته إلى نور الله تعالى أقلّ من نسبة نور سراج ضعيف إلى ضوء الشمس في وهج الظهيرة.
وهذا عام في سائر صفاته جلّ وعلا، كما في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خبر موسى والخضر: ((جاء عصفورٌ؛ فوقع على حرف السفينة، فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: "يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر")).
- وفي صحيح مسلم من حديث أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).
- وقال ابن القيم: (نسبة الأنوار كلها إلى نور الرب كنسبة العلوم إلى علمه، والقوى إلى قوته، والغنى إلى غناه، والعزة إلى عزته، وكذلك باقي الصفات، والعبد إذا سما بصره صعودا إلى نور الشمس غشي دون إدراكه وتعذر عليه غاية التعذر، وأي نسبة لنور الشمس إلى نور خالقها ومبدعها، وإذا كان نور البرق يكاد يلتمع البصر ويخطفه ولا يقدر العبد على إدراكه، فكيف بنور الحجاب فكيف بما فوقه، والأمر أعظم من أن يصفه واصف أو يتصوره عاقل، فتبارك الله رب العالمين الذي أشرقت الظلمات بنور وجهه وعجزت الأفكار عن إدراك كنهه ودلت الآيات وشهدت الفطر باستحالة شبهه، فلولا وصف نفسه لعباده لما أقدموا على وصفه، فهو كما وصف نفسه وأثنى على نفسه، وفوق ما يصفه الواصفون).
فشأن الله تعالى عظيم، وصفاته عظيمة، لا يشبهه شيء في صفة من صفاته جلّ وعلا، ولما تجلّى سبحانه للجبل جعله دكاً.
- قال معاذ بن معاذ العنبري: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل} قال: " قال: هكذا، يعني أنه أخرج طرف الخنصر"، رواه أحمد بن حنبل في مسنده، وقال: "أراناه معاذ " قال: فقال له حميد الطويل: ما تريد إلى هذا يا أبا محمد؟
قال: فضرب صدره ضربة شديدة، وقال: (من أنت يا حميد؟!! وما أنت يا حميد؟!! يحدثني به أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول أنت: ما تريد إليه؟).
- وقال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قرأ هذه الآية {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} قال حماد: هكذا، وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة إصبعه اليمنى قال: (فساخ الجبل {وخر موسى صعقا}). رواه الترمذي.
والنوع الثاني: وصف أفعاله وصفاته جلّ وعلا بأنها نور، ومن ذلك وصف القرآن بأنه نور كما في قول الله تعالى : {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} وقوله تعالى: {فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}.
فهذا النور إذا أضيف إلى الله تعالى فهو من إضافة أمر من أمور الله تعالى إليه، وليس من إضافة المخلوق إلى خالقه؛ فإنَّ الله تعالى: {له الخلق والأمر} وقد غايرَ بينهما، وكلامُ الله تعالى من أمرِ الله لا من مخلوقاته، كما دلّ عليه قول الله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا}.
وكذلك أفعال الله تعالى ليست مخلوقه، فهدايته لمن يشاء من عباده فعلٌ من أفعاله لا يوصف بأنه مخلوق، بل هو من أمر الله تعالى.
وأما فعل العبد لمقتضى الهداية واهتداؤه بنور الله فهو مخلوق، لأنَّ العبادَ مخلوقون، وأفعالهم مخلوقة.
والفرق بين الإضافة في النوع الأول، والإضافة في النوع الثاني؛ أن الأولى صفة ذات، والثانية صفة أفعال.
والنوع الثالث: إضافة مخلوق إلى خالقه، والله تعالى يشرّف بعض خلقه بإضافتهم إليه إضافة تشريف كما في قول الله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا}، وقوله: {ناقة الله وسقياها}.
ومن هذا النوع وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نور، وقد فُسّر به قول الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} فهو نور من الله، وهو أشرف خلق الله تعالى؛ وإضافته إلى الله إضافة تشريف.
والنور المعنوي يقع في الأمر والخلق؛ فصفات الله تعالى وأفعاله لها نورها وعظمتها وبركتها.
ويكون في بعض مخلوقاته نور معنوي؛ فهدايات المتّبعين لهدى الله وكلامهم وأفعالهم لها نور معنويّ يتبصّرون به، ويتبصّر به من يأتمّ بهم.
● آثار نور الله جلّ وعلا
مما ينبغي أن يُعلم أنّ كلّ ما في الكون من نورٍ فإنما هو من آثار نور الله جلّ وعلا، كما أنّ ما لدى الخلائق من التراحم فهو من آثار رحمة الله جلّ وعلا، وما عندهم من العلم فإنما هو من آثار علم الله جلّ وعلا.
والله تعالى يجعل لكلّ مخلوق من ذلك ما يقدّره له، {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
وهذا مما يبيّن معنى قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} ؛ فلا نور إلا به جلّ وعلا.
● أقوال المفسّرين في تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض}
اختلف المفسّرون في تفسير قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} على أقوال:
القول الأول: هادي من في السموات والأرض، وهذا القول رُوي عن ابن عباس، وقال به ابن جرير.
- قال معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {اللّه نور السّموات والأرض} يقول: (اللّه سبحانه هادي أهل السّماوات والأرض). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
- قال ابن جرير: ({اللّه نور السّموات والأرض}: هادي من في السّماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحقّ يهتدون، وبهداه من حيرة الضّلالة يعتصمون).
- وقريب منه قول يحيى بن سلام البصري: ({اللّه نور السّموات والأرض}: يعني هدى السّموات والأرض).
- وقول ابن قتيبة: ({اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، أي بنوره يهتدي من في السموات والأرض).
القول الثاني: مدبر الأمر في السموات والأرض، وهو رواية عن ابن عباس.
- قال سنيد: حدثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ، وابن عبّاسٍ في قوله: {اللّه نور السّموات والأرض}: (يدبّر الأمر فيهما: نجومهما وشمسهما وقمرهما). رواه ابن جرير.
- وقال أبو إسحاق الزجاج: ({اللّه نور السّماوات والأرض}: أي مدبّر أمرهما بحكمة بالغة وحجة نيّرة).
القول الثالث: ضياء السموات والأرض، وهذا القول ذكره ابن جرير عن أبيّ بن كعب استخراجاً من أثر رواه عنه، وقال به السُّدّي.
- قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ، في قول اللّه: {اللّه نور السّموات والأرض} قال: (فبدأ بنور نفسه، فذكره، ثمّ ذكر نور المؤمن). رواه ابن جرير.
- وقال عامر ابن الفرات: حدثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: {اللّه نور السماوات والأرض} قال: (فبنوره أضاءت السّموات والأرض). رواه ابن أبي حاتم.
- قال ابن جرير: (وإنّما اخترنا القول الّذي اخترناه في ذلك [يريد القول الأول] لأنّه عقيب قوله: {ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مبيّناتٍ ومثلاً من الّذين خلوا من قبلكم وموعظةً للمتّقين} فكان ذلك بأن يكون خبرًا عن موقعٍ يقع تنزيله من خلقه، ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه، أولى وأشبه، ما لم يأت ما يدلّ على انقضاء الخبر عنه من غيره.
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيّها النّاس آياتٍ مبيّناتٍ الحقّ من الباطل {ومثلاً من الّذين خلوا من قبلكم وموعظةً للمتّقين} فهديناكم بها، وبيّنّا لكم معالم دينكم بها، لأنّي هادي أهل السّماوات وأهل الأرض. وترك وصل الكلام باللاّم، وابتدأ الخبر عن هداية خلقه ابتداءً، وفيه المعنى الّذي ذكرت، استغناءً بدلالة الكلام عليه من ذكره. ثمّ ابتدأ في الخبر عن مثل هدايته خلقه بالآيات المبيّنات الّتي أنزلها إليهم).
والتحقيق أن هذه الأقوال ترجع إلى قولين لا تعارض بينهما:
أحدهما: أنه نور معنوي، وهو ما يُخرّج عليه قولُ من قال: المعنى: هادي من في السموات والأرض، ومدبر الأمر فيهما.
والآخر: أنه نور حسّي، وهو ما يخرّج عليه قول من قال: ضياء السموات والأرض.
والله تعالى هو نور السموات والأرض بالمعنيين كليهما، فما كان في ما خلق الله في السموات والأرض من نور حسّي فإنما هو بإذن الله تعالى وخلقه وتقديره؛ فهو الذي خلق النور، وخلق ما يُبصر به النور، ولولا أنّ الله نوّر الأجرام المنيرة لكان الكون في حندس مظلم لا يُبصر منه شيء، وتلك منّة عظيمة من الله تعالى على خلقه.
وكذلك ما يكون في السموات والأرض من نور معنوي بالاهتداء إلى الحق، واهتداء النجوم إلى مداراتها، والحيوانات إلى مصالحها، وتدبير الأمور على بيّنة وبصيرة؛ فإنما هو من الله تعالى الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.
● التنبيه على قراءة لا تصحّ، وخطأ في تأويل الآية
ذكر أبو القاسم الهذلي عن ثابت بن أبي حفصة، وإبراهيم القورسي، ومسلمة بن عبد الملك عن أبي جعفر أنهم قرأوا: [الله نَوَّر السموات والأرض] بفتح النون وتشديد الواو، ونصب الأرض، وقال: (وهو الاختيار كي لا يوصف الباري بالتشبيه).
وهذه القراءة لا تثبت، وتعليله لاختياره فيه طعنٌ على القراءة المتواترة المشهورة، والمؤيّدة بالأحاديث الصحيحة التي فيها هذه الجملة.
وإنما دخل عليه الخطأ في الفهم لما ظنّ أن ظاهر قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} يدلّ على وصف ذات الله تعالى بأنه هو ما يُرى من النور في السموات والأرض، وهذا خطأ شنيع، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد وقع هذا الخطأ لجماعة ممن استشكل معنى الآية، وما ورد في الأحاديث الصحيحة من وصف الله تعالى بأنه نور السموات والأرض.
وسبب وقوعهم في الخطأ أنهم ظنوا أن هذه النصوص سيقت لوصف ذات الله تعالى، فلما استشنعوا ما تحصّل لهم من الفهم الخاطئ عدلوا عنه إلى التأويل بما لا يدلّ عليه ظاهر النص.
- فقال بعضهم: المعنى: الله ذو نور السموات والأرض.
- وقال بعضهم: منوّر السموات والأرض.
وقيل غير ذلك.
وهذه الأقوال ذكرها أبو إسحاق الزجاج عمّن لم يسمّهم، وذكرها الزمخشري، والرازي، وغيرهم، وقد أطال الرازي في تأويل هذه الآية، وردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية رداً مطوّلاً، وردّ عليه ابن القيم في الصواعق المرسلة من وجوهٍ كثيرة.
- قال أبو إسحاق الزجاج في تفسير أسماء الله الحسنى: (اختلفوا في قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} قال بعضهم: الله ذو نور السموات يريد أنه خالق هذا النور الذي في الكواكب كلها لا أنه ضياء لها وأنوار لأجسامها بل أنوار تنفصل من أنوار الله تعالى).
وهذا التأويل والاحتراز يدل على ما سبق إلى أذهانهم من معنى خاطئ لا تدلّ عليه الآية؛ فوقعوا في نظير ما فهمه أحد أصحاب المعاجم من قول الشاعر:
يُديرونني عن سالمٍ وأُرِيغه .. وجلدةُ بين العين والأنف سالم
فقال: (ويقال للجلدة التي بين العين والأنف: سالِمٌ).
وهذا خطأ محضٌ ردّه عليه أهل اللغة؛ فإنّ البيت لم يُسق لتسمية الجلدة التي بين العين والأنف، وإنما شبّه عزّة قَدْرِ رجلٍ اسمه "سالمٍ" ومكانته منه بأمنع ما في الجسد، وأعزّ موضع فيه.
وكذلك فهم من فهم من قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} بأن ذاته جلّ وعلا هي الأنوار المنبعثة في السموات والأرض تعالى الله عن فهمهم علوّاً كبيراً؛ فلما سبق إلى أذهانهم هذا المعنى المستشنع عدلوا عنه إلى التأويل فقالوا: المعنى ذو نور السموات والأرض، أو منوّر السموات والأرض، أو غير ذلك من التأويلات، والآية لم تسق مساق الإخبار عن ماهية ذات الله جلّ وعلا، بل جاءت لتقرير أمر عظيم وهو أنه لا نور في السموات والأرض إلا بنور الله تعالى وتقديره وتدبيره، وهذا يشمل أنواعاً من النور الحسي والمعنوي، ولولا تنوير الله تعالى للسموات والأرض لكان الخلق في حندس مظلم.
ويبيّن هذا المعنى ما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما من حديث حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينوّرها لهم بصلاتي عليهم».
فأسند التنوير إلى الله، وذكر أن صلاته عليهم سبب لذلك النور، وهو نور حقيقي لا يبصره إلا الموتى، فيصحّ وصف صلاته ﷺ عليهم بأنها نور لقبورهم؛ ولو قال قائل في الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم: (وصلاته على الموتى نور القبور) لكان قولاً صواباً.
فالله تعالى هو نور السموات والأرض إذ كان كلّ نور حسّي ومعنوي إنما كان بتنوير الله عزّ وجلّ وتقديره وتدبيره.
وأما توّهم دلالة ظاهر الآية على وصف ذات الله تعالى بأنه النور المشاهد في السموات والأرض؛ فخطأ محضٌ، وزعم باطل لم يقل به عالمٌ، ولا تدلّ عليه اللغة، حتى يُلتمس الفرار منه.
وهذه الأنوار المشاهدة مخلوقة، وليست هي كلّ نور السموات والأرض، بل ما ذكروه من نور الشمس والقمر والمصابيح والنيران وغيرها لا نسبة له إلى الكون الفسيح العظيم الذي لا يقدر قدره إلا الله جلّ وعلا؛ فلا تبلغ هذه الأنوار التي ذكروها أن تنوّر السموات والأرض.
وليس مقصودي في هذه الرسالة شرح الفهم الخاطئ ثم التطويل في الرد عليه، بل الأسلم والأقرب إلى السداد والمنهج الصحيح أن تُفهم الآية على وجهها الصحيح فيتبيّن بعد ذلك خطأ من أخطأ في فهمها؛ فإنّ الفهم الصحيح له نور إذا استنار به القلب أبصر صاحبُه خطأ ما خالفه، وبالله التوفيق.