المثال الثاني: تقديم الأنعام على الأنفس في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)}
وتقديم الأنعام على الأنفس هنا فيه وجوه:
أحدها:أنه لما تقدّم ذكر الأكل من الزرع ناسب تقديم الأنعام؛ ذكره جلال الدين السيوطي في الإتقان عن شمس الدين ابن الصائغ الحنفي(ت:776هـ).
قال: (بخلاف آية عبس فإنه تقدم فيها: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} فناسب تقديم {لكم}).
والثاني: اعتبار قوّة الصلة وكثرة الانتفاع؛ فالأنعام ألصق بأكل الزرع من الناس، وهذا الوجه كالتفسير لما قبله.
والثالث: أنه من باب تقديم السبب، ذكره الزركشي في البرهان، وتفسيره أنّ أكل الأنعام من الزرع سبب لأكل الناس من الأنعام.
والرابع: لتشمل المنّة ذكر أكل الأنعام من الزرع، وأكل الناس من الزرع ومن الأنعام التي تأكل من الزرع؛ فيكون حرف "من" في قوله تعالى: {تأكل منه} في حقّ الناس جامعاً لمعنيي التعدية والسببية؛ فهم يأكلون من الزرع، ويأكلون بسبب الزرع من الأنعام التي جعل الله قوتها من الزرع.
والخامس: التنبيه على تسلسل الاستمداد؛ فذكر الله منّته بسوق محامل الماء من السحاب والأودية والشعاب وغيرها إلى الأرض الجرز لتمدّها بالماء، ثم استمداد الزرع من الأرض والماء، ثم استمداد الأنعام من الزرع والماء، ثم استمداد الإنسان من كلّ ما تقدّم.
والسادس: دفع توّهم الشراكة حين الأكل؛ فأخّر ذكر المعنيّين بالخطاب، وفصلهم بالاسم الظاهر ولم يكتف بالإضمار، فإنه لو قيل: "يأكلون منه وأنعامهم" لأوهم اشتراكَهم حين الأكل.
وقوله تعالى: {أفلا يبصرون} يشمل الإبصار بالعين، وإبصار البصيرة بالتفكّر والتأمّل والنظر.