الدرس العاشر: (4) التقديم والتأخير
دلالات تراكيب الجمل عناصر الدرس:المبحث الرابع: التقديم والتأخير ● أهمية مبحث التقديم والتأخير. ●أقسام مباحث التقديم والتأخير. ● اعتبارات التقديم والتأخير. ● أمثلة على مسائل التقديم والتأخير في التفاسير البياني - المثال الأول: تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين} - المثال الثاني: تقديم الأنعام في قوله تعالى: {تأكل منه أنعامهم وأنفسهم} - المثال الثالث: تقديم النفع على الضرّ في قول الله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)} ● أمثلة من أقوال العلماء: - المسألة الأولى: تقديم الظرف وتأخيره في الجمل المنفيّة - المسألة الثانية: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}. وقال بعد ذلك: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ}. - المسألة الثالثة: التقديم والتأخير في قول الله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77)}. - المسألة الرابعة: التقديم والتأخير في قول الله تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين (104)}. - المسألة الخامسة: في ذكر أمثلة متعددة للتقديم والتأخير في القرآن الكريم. ●تطبيقات الدرس العاشر. |
الدرس العاشر: (4) التقديم والتأخير
أهمية مبحث التقديم والتأخير
التقديم والتأخير من المباحث المهمة التي تعرف بها بعض الأوجه التفسيرية واللطائف القرآنية، الدالة على عظمة بيان القرآن وبركة ألفاظه وسعة معانيه وتنوّع دلالاته. - قال عبد القاهر الجرجاني: (هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية، لا يزال يفترّ لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة). |
الدرس العاشر: (4) التقديم والتأخير
أقسام مباحث التقديم والتأخير
مباحث التقديم والتأخير يمكن تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: تقديم المعمول على عامله وهو على أنواع منها: 1: تقديم المفعول على الفاعل، كما في قول الله تعالى: {بل اللهَ فاعبد}. 2: وتقديم الجار والمجرور على متعلّقه، كما في قول الله تعالى: {وعلى الله فتوكلوا} 3: وتقديم الظرف على عامله، كما في قول الله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب} 4: وتقديم الخبر على المبتدأ كما في قول الله تعالى: {سلام هي حتى مطلع الفجر} 5: وتقديم خبر إنّ وأخواتها على الاسم ، كما في قول الله تعالى: {إنّ إلينا إيابهم} 6: وتقديم خبر كان وأخواتها على الاسم، كما في قول الله تعالى: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} 7: وتقديم الحال على العامل فيها كما في قول الله تعالى: {خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر} ، وقوله تعالى: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةً لذكورنا} على قراءة نصب خالصةً. وتقديم المعمول على عامله على مرتبتين: المرتبة الأولى: ما يفيد الحصر كما في قول الله تعالى: {إياك نعبد} أي نعبدك ولا نعبد غيرك، وكما في قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين . بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون} فقوله: {بل إياه تدعون} أي تدعونه ولا تدعون غيره. وكما في قول الله تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا} أي لا نتوكل إلا عليه، وأما الإيمان فنؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبكلّ ما أمرنا بالإيمان به. والمرتبة الثانية: ما يفيد الاختصاص وهو اختصاص بالذكر لا يقتضي الحصر، كما في قول الله تعالى: {ونوحاً هدينا من قبل} ، قدَّم اسم نوح على الفعل، والله تعالى قد هدى نوحاً وهدى غيره من أنبيائه وصالحي عباده، لكن اختص نوحاً عليه السلام للتنويه بذكره. وقال تعالى: {والرجز فاهجر} فاختص الرجز بالأمر بالهجر لتعظيم الأمر بهجرها وأنها أولى ما يجب أن يُهجر مما نهى الله عنه. وقال تعالى: {ووضعنا عنك وزرك} قدّم المفعول الثاني وهو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتنويهاً بذكره، وأخّر المفعول الأوّل تشويقاً إليه. والأصل في الاختصاص إفادة العناية والاهتمام بالمقدَّم، ولذلك دأب كثير من المفسرين والبيانيين على تعليل التقديم بإفادة العناية. - قال سيبويه: (كأنّهم إنَّما يقدّمون الذي بيانه أهمّ لهم، وَهُم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يُهِمّانِهم ويَعْنِيانهم). وهذا وإن كان هو الأصل إلا أنّ الأجود تفسير تلك العناية والكشف عن وجهها. - قال عبد القاهر الجرجاني: (إلا أن الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء قُدِّمَ في موضع من الكلام مثل هذا المعنى، ويفسر وجه العناية فيه هذا التفسير، لا يكفي أن يقال قُدِّمَ للعناية، وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال: "إنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم"، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية؟ وبم كان أهم؟ ولتخيّلهم ذلك قد صغر أمْرُ "التقديم والتأخير" في نفوسهم، وهوَّنوا الخطب فيه، حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبعه والنظر فيه ضرباً من التكلّف). إلى أن قال: (لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة، ومَنَعَهم أن يعرفوا مقاديرها، وصدَّ بأوجههم عن الجهة التي هي فيها، والشقّ الذي يحويها، والمداخلُ التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم، ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه وإحراز فضيلته كثيرة، وهذه من أعجبها). وخلاصة ما اطلعت عليه مما ذكره البيانيون من أغراض التقديم ومن تأمّل ما شاء الله من أمثلته في القرآن الكريم أن التقديم يقع لأغراض منها: التشريف، والتعظيم، والتعجب، والتشويق، والتبكيت، وتعجيل المسرّة، وتعجيل المساءة. فإذا كان المفسّر في موضع يقتضي الإيجاز اكتفى بالتنبيه على الغرض؛ فإنّ اللبيب يدرك ما وراء العبارة إذا ألمحتَ له بوجهها، وفتحتَ له باب التأمّل فيها، وإن كان المفسّر في موضع يجمل فيه التفصيل أسهب في شرح الغرض وبيان وجهه ومناسبته. وشرح ذلك بالمثال بيان ما دلّ عليه التقديم في قول الله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة} فقدّم "إلى ربّها" تقديماً يفيد أنّ المؤمنين إذا رأوا ربّهم يوم القيامة لم يلتفتوا إلى غيره من النعيم؛ فكأنّهم يوم يرون ربّهم لا ينظرون إلى غيره. فلو قلت: التقديم للعناية والاهتمام لكان كلاماً مجملاً غير مبيَّن، وإن كان صواباً في نفسه. والقسم الثاني: تقديم غير المعمول، كتقديم بعض المفردات والجُمَل المتناظرة على بعض ومن ذلك تقديم بعض الأسماء الحسنى على بعض في خواتم الآيات، وتقديم السموات على الأرض في بعض المواضع وتقديم الأرض على السموات في مواضع أخر، وتقديم الجن على الإنس، وتقديم الإنس على الجنّ كذلك، وتقديم الرحمة على العذاب والعكس، وتقديم النفع على الضر والعكس، ونظائر ذلك كثيرة. ومن ذلك أيضاً تقديم بعض المتعاطفات على بعض كما في قول الله تعالى في التذكير بنعمة نار الدنيا: {نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين} فقدَّم التذكرة على المتاع؛ لأن التذكرة فائدتها أخروية، والمتاع فائدته دنيوية، وفيه تنبيه على أنه ينبغي أن نقدّم ما منفعته في الآخرة أعظم. ولذلك يتكرر في القرآن تقديم المنافع الدينية على المنافع الدنيوية، كما في قول الله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} فقدّم نعمة بعث الأنبياء فيهم على نعمة جعلهم ملوكاً؛ لأنّ منفعة الأنبياء منفعة دينية وباتباعهم صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة، ومنفعة جعلهم ملوكاً منفعة دنيوية. وأمثلة هذا القسم من التقديم والتأخير كثيرة جداً في القرآن الكريم، واعتبارات التقديم والتأخير متنوّعة، ومشتملة على لطائف لا تنقضي. - قال ابن عاشور: (وإن للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها، وسننبه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله، وإليك مثلا من ذلك يكون لك عوناً على استجلاء أمثاله. قال تعالى: {إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا} - إلى قوله:- {إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا}- إلى قوله:- {وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا}؛ فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله: {إن للمتقين مفازا} أنه الجنة؛ لأن الجنة مكان فوز، ثم كان قوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا} ما يحتمل لضمير "فيها" من قوله: {لا يسمعون فيها} أن يعود إلى {كأسا دهاقا} وتكون "في" للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج، وأن يعود إلى {مفازا} بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة، وتكون "في" للظرفية الحقيقة أي لا يسمعون في الجنة كلاماً لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذياً. وهذه المعاني لا يتأتى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة مفازا، ولم يؤخّر و{كأسا دهاقا} ولم يعقب بجملة: {لا يسمعون فيها لغوا} إلخ). - وقال د.فاضل السامرائي: (إن تقديم الألفاظ بعضها على بعض له أسباب عديدة يقتضيها المقام وسياق القول، يجمعها قولهم: إن التقديم إنما يكون للعناية والاهتمام؛ فما كانت به عنايتك أكبر قَدَّمتَهُ في الكلام، والعناية باللفظة لا تكون من حيث إنها لفظة معينة بل قد تكون العناية بحسب مقتضى الحال، ولذا كان عليك أن تقدم كلمة في موضع ثم تؤخرها في موضع آخر لأن مراعاة مقتضى الحال تقتضي ذاك، والقرآن أعلى مثل في ذلك فإننا نراه يقدم لفظة مرة ويؤخرها مرة أخرى على حسب المقام. فنراه مثلاً يقدم السماء على الأرض ومرة يقدم الأرض على السماء، ومرة يقدم الإنس على الجن ومرة يقدم الجن على الإنس، ومرة يقدم الضر على النفع ومرة يقدم النفع على الضر، كل ذلك بحسب ما يقتضيه فن القول وسياق التعبير. فإذا أردت أن تبين أسباب هذا التقديم أو ذاك فإنه لا يصح الاكتفاء بالقول إنه قدم هذه الكلمة هنا للعناية بها والاهتمام دون تبيين موطن هذه العناية وسبب هذا التقديم. فإذا قيل لك مثلاً: لماذا قدم الله السماء على الأرض هنا؟ قلت: لأن الاهتمام بالسماء هنا أكبر. ثم إذا قيل لك: ولماذا قدم الله الأرض على السماء في هذه الآية؟ قلت: لأن الاهتمام بالأرض هنا أكبر. فإذا قيل لك: ولماذا كان الاهتمام بالسماء هناك أكبر وكان الاهتمام بالأرض أكبر؟ وجب عليك أن تبين سبب ذلك وبيان الاختلاف بين الموطنين، بحيث تُبين أنه لا يصح أو لا يَحْسُنُ تقديم الأرض على السماء فيما قدمت فيه السماء، أو تقديمُ السماء على الأرض فيما قدمت الأرض بياناً شافياً. وكذلك بقية المواطن الأخرى. أما أن تكتفي بعبارة أن هذه اللفظة قدمت للعناية والاهتمام بها فهذا وجه من وجوه الإبهام، والاكتفاءُ بها يضيع معرفة التمايز بين الأساليب فلا تعرف الأسلوب العالي الرفيع من الأسلوب المهلهل السخيف، إذ كل واحد يقول لك: إن عنايتي بهذه اللفظة هنا أكبر دون البصر بما يستحقه المقام وما يقتضيه السياق)ا.هـ. |
الدرس العاشر: (4) التقديم والتأخير
اعتبارات التقديم والتأخير والتقديم والتأخير يقع لاعتبارات متعددة، تعرف بدلالة السياق والمناسبة المعنوية أو اللفظية، ولذلك ينبغي أن يُفسّر الاعتبار في كلّ موضع بحسبه، وقد يجتمع في المسألة الواحدة اعتبارات متعددة، وتمرّن طالب العلم على دراسة أمثلة التقديم والتأخير عند المفسرين والبيانيين تفيده في معرفة هذه الاعتبارات وإجراء مثلها على نظائرها. وقد يُقدّم لفظ على لفظ في موضع لاعتبار، ويؤخر عنه في موضع آخر لاعتبار آخر، وتختلف اجتهادات العلماء في تلمّس تلك الاعتبارات والكشف عنها. - ومن ذلك: قول الله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} فلمّا ذكر الخلق بدأ بأوّل مخلوق منهما كما قال الله تعالى: {والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم}، وفي قول الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجنّ} قدّم الإنس لأن عداوتهم أظهر وأشهر عند المخاطبين؛ فكان تقديمهم أنسب، ولأن الأنبياء من الإنس فتقديم ذكر أعدائهم الذين من جنسهم أولى. - ومن ذلك أيضاً قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)} وقال في موضع آخر: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)} فقدّم عيسى على أمّه في سورة المؤمنون لمناسبة السياق فإنه في الحديث عن الرسل ومخاطبتهم فقال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} وقدّم مريم في سورة الأنبياء لما كان الحديث عن تفريج كربها وإحصانها فرجها فكان تقديمها أنسب، قال الله تعالى: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)}. أغراض التقديم والتأخير: لكن يحسن بالمفسّر أن يعرف جملة مما يتكرر ذكره من أغراض التقديم والتأخير في كتب التفسير والبيان، ثم يسهب في تفصيلها وبيانها عند الحاجة، ومن هذه الأغراض: 1: البدء بالأهمّ، كما في قول الله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}. وقد يكون الأهمّ باعتبار القائل لا في حقيقة الأمر كما في قول الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} فإنّهم قدّموا ذكر آلهتهم بأشرف أوصافها عندهم ورمزوا لعيسى عليه السلام بالضمير تهويناً من شأنه؛ وأخرجوا الاستفهام مخرج من يريد تقرير المخاطَب بالجواب المضمَّن فيه. ونظير ذلك قول الله تعالى: { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)} 2: البدء بالأولى لمناسبة السياق ومقام الخطاب، ومن ذلك ترتيب أصول الإيمان في قول الله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} فإنّ الإيمان مبناه في الأصل على التصديق بالغيب، فقُدّم ذكر اسم الله ثم الملائكة ثم الكتب ثم الرسل. 3: التنزّل والترقي، وله أنواع: - فمنها البدء بالأفضل، ومثاله قول الله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} - ومنها البدء بالأقلّ، وهو وجه في الآية السابقة. - ومنها البدء بالأكثر كما في قول الله تعالى: {زين للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث} فكان في ترتيب أنواع الشهوات من مراعاة حال أكثر المخاطبين ما هو ظاهر بيّن. - ومنها التدرج من الأخص إلى الأعمّ كما في قول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} - ومنها التدرج من الأعمّ إلى الأخص كما في قول الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}. 4: والتشويق، كما في قول الله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}. 6: والتبكيت كما في قول الله تعالى: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين}. وقد كتب شمس الدين ابن الصائغ الحنفي(ت:776هـ) كتاباً في التقديم في القرآن سمّاه "المقدّمة في سرّ الألفاظ المقدَّمة" نقل منه السيوطي في الإتقان وغيره، وذكر عنه عشرة أنواع للتقديم في القرآن. |
الدرس العاشر: (4) التقديم والتأخير
أمثلة على مسائل التقديم والتأخير في التفاسير البياني المثال الأول: الحكمة من تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين} هذا المثال ذكرته في تفسير سورة الفاتحة وهو مثال يتبيّن به المراد من تعدّد الاعتبارات في التقديم والتأخير؛ فقلت فيه: هذه المسألة من مسائل التفسير البياني، وهي مسألة ظهرت عناية المفسّرين بها واشتهرت، وتعددت أقوالهم فيه وكثرت، وتنوّعت مسالكهم في الجواب عنها، والبيان عن حِكَم هذا التقديم العجيب، في سورة قد أُحكمت غاية الإحكام. وأشهر الأقوال في هذه المسألة ستة أقوال: القول الأول: الحكمة مراعاة فواصل الآيات في السورة، وهذا القول ذكره البيضاوي وجهاً وكذلك النسفي وابن عاشور وغيرهم. والقول الثاني: أنه لا فرق في المعنى بين تقديم العبادة على الاستعانة والعكس، وهذا القول قاله ابن جرير قال: (لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل- كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه . كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها: "قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ " ، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي"، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل: اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك، وقوله : اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ)ا.هـ. وهذا القول فيه نظر. القول الثالث: أن العبادة أعم من الاستعانة، لأن الاستعانة نوع من أنواع العبادة فقدم الأعم على الأخص، وهذا القول ذكره البغوي في تفسيره. القول الرابع: أن العبادة هي المقصودة والاستعانة وسيلة إليها، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، وقال به ابن كثير في تفسيره. - قال ابن تيمية: (قال في الفاتحة: {إياك نعبد وإياك نستعين} فقدَّم قوله: {إياك نعبد}لأنه المقصود لنفسه [تعالى] على قوله: {وإياك نستعين} لأنه وسيلة إلى ذلك، والمقاصد مقدمة في القصد والقول على الوسائل).ا.هـ. - وقال ابن كثير رحمه الله: (وإنما قدم: { إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم)ا.ه. القول الخامس: أنه لبيان أن عبادة العبد لربه لا تكون إلا بإعانة الله تعالى وتوفيقه وهذا مما يستوجب الشكر ويذهب العجب فلذلك ناسب أن يتبع قوله: (إياك نعبد) بـ(إياك نستعين) للاعتراف بفضل الله تعالى في توفيقه للعبادة والإعانة عليها، وهذا القول ذكره البيضاوي وجها، وألمح إليه أبو السعود. القول السادس: قول ابن عاشور إذ قال في التحرير والتنوير: (ووجه تقديم قوله { إياك نعبد }على قوله :{ وإياك نستعين } أن العبادة تَقَرُّبٌ للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبوداً للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل . وقد حصل من ذلك التقديم أيضاً إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان)ا.هـ. وفي المسألة أقوال وأوجه أخرى حتى أوصلها الألوسي في روح المعاني إلى أحد عشر وجهاً، وفي بعضها نظر. وهذه الأقوال كما ترى مبناها على تلمّس الحكمة من تقديم {إياك نعبد} على {إيَّاك نستعين} ، وقد تقرر أنَّ الله تعالى حكيم عليم، وأن الله قد أحكم كتابه غاية الإحكام، وأن القرآن قد بلغ الذروة العليا في الفصاحة وحسن البيان، فلذلك قد يجتمع في المسألة الواحدة من المسائل البيانية حِكَمٌ متعدّدة ويتفاوت العلماء في إدراكها وحسن البيان عنها. والقاعدة في مثل هذه المسائل أن يُقبل ما يحتمله السياق وترتيب الكلام ومقاصد الآيات وغيرها من الدلالات بشرطين: أحدهما: أن يكون القول في نفسه صحيحاً. والثاني: أن يكون لنظم الآية دلالة معتبرة عليه. ومن أمعن النظر في هذه الأمور وكانت له معرفة حسنة بعلم البيان تبيّنت له حكم متعدّدة في غالب الأمر، بل ربّما ظهر له من الدلائل ما غفل عن ذكره كثيرون، كما فعل ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه "مدارج السالكين" في جوابه على هذا السؤال؛ فقد أحسن بيان جملة من الحكم والأسرار البديعة التي لا تكاد تجدها في كتب التفسير بمثل تنبيهه وبيانه، وقد استفاد أصلها من شيخه ابن تيمية لكنَّه بنى على هذا الأصل من التفصيل والتفريع ما أجاد فيه وأفاد. فقال رحمه الله: (تقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خُلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها. - ولأن {إياك نعبد} متعلق بألوهيته واسمه "الله"، {وإياك نستعين} متعلق بربوبيته واسمه "الرب" فقدم {إياك نعبد} على {إياك نستعين} كما قدم اسم "الله" على "الرب" في أول السورة. - ولأن {إياك نعبد} قِسْم "الرب"؛ فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به، و{إياك نستعين} قِسْم العبد؛ فكان من الشطر الذي له، وهو " {اهدنا الصراط المستقيم} " إلى آخر السورة. - ولأن "العبادة" المطلقة تتضمن "الاستعانة" من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم الرب. - ولأن "الاستعانة" جزء من "العبادة" من غير عكس. - ولأن "الاستعانة" طلب منه، و"العبادة" طلب له. - ولأن "العبادة" لا تكون إلا من مخلص، و"الاستعانة" تكون من مخلص ومن غير مخلص. - ولأن "العبادة" حقّه الذي أوجبه عليك، و"الاستعانة" طلب العون على "العبادة"، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته. - ولأن "العبادة" شكر نعمته عليك، والله يحب أن يُشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم، والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدا، حتى يقضي العبد نحبه. - ولأن {إياك نعبد} له، و{إياك نستعين} به، وما له مقدم على ما به، لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه، وما به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته: طاعتهم وإيمانهم، فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته. فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين})ا.هـ. وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وجهاً حسناً فقال: (وإتيانه بقوله: {وإياك نستعين} بعد قوله: {إياك نعبد} فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر، وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيناً واضحاً في آيات أخر كقوله: {فاعبده وتوكل عليه}). وهذا المثال يدلّ دلالة بيّنة على إمكان تعدد الاعتبارات في التقديم والتأخير، وأنّ من العلماء من يُفتح له في ذلك ما لا يُفتح لغيره. |
الدرس العاشر: (4) التقديم والتأخير
المثال الثاني: تقديم الأنعام على الأنفس في قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)}
وتقديم الأنعام على الأنفس هنا فيه وجوه: أحدها:أنه لما تقدّم ذكر الأكل من الزرع ناسب تقديم الأنعام؛ ذكره جلال الدين السيوطي في الإتقان عن شمس الدين ابن الصائغ الحنفي(ت:776هـ). قال: (بخلاف آية عبس فإنه تقدم فيها: {فلينظر الإنسان إلى طعامه} فناسب تقديم {لكم}). والثاني: اعتبار قوّة الصلة وكثرة الانتفاع؛ فالأنعام ألصق بأكل الزرع من الناس، وهذا الوجه كالتفسير لما قبله. والثالث: أنه من باب تقديم السبب، ذكره الزركشي في البرهان، وتفسيره أنّ أكل الأنعام من الزرع سبب لأكل الناس من الأنعام. والرابع: لتشمل المنّة ذكر أكل الأنعام من الزرع، وأكل الناس من الزرع ومن الأنعام التي تأكل من الزرع؛ فيكون حرف "من" في قوله تعالى: {تأكل منه} في حقّ الناس جامعاً لمعنيي التعدية والسببية؛ فهم يأكلون من الزرع، ويأكلون بسبب الزرع من الأنعام التي جعل الله قوتها من الزرع. والخامس: التنبيه على تسلسل الاستمداد؛ فذكر الله منّته بسوق محامل الماء من السحاب والأودية والشعاب وغيرها إلى الأرض الجرز لتمدّها بالماء، ثم استمداد الزرع من الأرض والماء، ثم استمداد الأنعام من الزرع والماء، ثم استمداد الإنسان من كلّ ما تقدّم. والسادس: دفع توّهم الشراكة حين الأكل؛ فأخّر ذكر المعنيّين بالخطاب، وفصلهم بالاسم الظاهر ولم يكتف بالإضمار، فإنه لو قيل: "يأكلون منه وأنعامهم" لأوهم اشتراكَهم حين الأكل. وقوله تعالى: {أفلا يبصرون} يشمل الإبصار بالعين، وإبصار البصيرة بالتفكّر والتأمّل والنظر. |
الدرس العاشر: (4) التقديم والتأخير
المثال الثالث: تقديم النفع على الضرّ في قول الله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)}
في هاتين الآيتين بيان بديع لحال إبراهيم عليه السلام في دعوة قومه، وتمييز مدهش بين موقفه وموقفهم مما يعبدون بألفاظ وجيزة بديعة. فقال: {هل يسمعونكم إذ تدعون} فذكر المفعول بلفظ المخاطَب ولم يحذفه لبيان اختصاصه بهم، ففيه مع الاستفهام الإنكاري بيان أنه لا حاجة له في دعائهم. وفي قوله: {أو ينفعونكم أو يضرون} لمّا جرى ذكر النفع خصَّهم به لبيان أنه لا يرجو نفعهم أصلاً؛ فهي في معنى {يسمعونكم} قبلها، ولما جرى ذكر الضرّ حذف المفعول؛ فأفاد مع مراعاة الفاصلة الدلالة على العموم؛ فتلك الأصنام لا تملك ضرّاً لعابديها لو تركوا عبادتها، ولا تملك ضرّا لمن ينكر عبادتها كحال إبراهيم عليه السلام. وحذف متعلّق النفع ومتعلّق الضرّ لإفادة العموم ولعدم تعلّق المراد بعينه، ليتبيّن أن تلك الأصنام ليس بيدها نفع ولا ضرّ مهما قلّ. وقدّم ذكر النفع على الضرّ لمناسبة الآية قبلها، ولأنّ أعظم ما يرجوه الداعون تحقيق النفع، وتحقيق النفع يشمل جلب المصلحة ودفع المفسدة فبابها أوسع. وتحصّل من دلالة الآيتين الإنكار على من يعبد الأصنام، وبيان أنّ ما يُعبد من دون الله تعالى لا يملك نفعاً لعابديه، ولا يملك أن يوقع بهم ولا بغيرهم ضررا. |
الدرس العاشر: (4) التقديم والتأخير
أمثلة من أقوال العلماء - قال ضياء الدين ابن الأثير: (وأما الثاني: وهو تأخير الظرف وتقديمه في النفي، فنحو قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ}، وقوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} المسألة الأولى: تقديم الظرف وتأخيره في الجمل المنفيّة فإنه إنما أخر الظرف في الأول؛ لأن القصد في إيلاء حرف النفي الريب نفي الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق، لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدعونه، ولو قدم الظرف لقصد أن كتابا آخر فيه الريب لا فيه، كما قصد في قوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} ، فتأخير الظرف يقتضي النفي أصلًا من غير تفصيل، وتقديمه يقتضي تفضيل المنفي عنه، وهو خمر الجنة، على غيرها من خمور الدنيا، أي ليس فيها ما في غيرها من الغول، وهذا مثل قولنا: لا عيب في الدار، وقولنا لا فيها عيب، فالأول نفي للعيب عن الدار فقط، والثاني تفضيل لها على غيرها: أي ليس فيها ما في غيرها من العيب، فاعرف ذلك فإنه من دقائق هذا الباب). المسألة الثانية: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ}. وقال بعد ذلك: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} جوابه: أن الضمير في منها راجع في الأولى إلى (النفس) الأولى، وفى الثانية راجع إلى (النفس) الثانية. كأنه بين في الآية. الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا تتقبل منها شفاعة، ولا يؤخذ منها عدل، ولأن الشافع يقدم الشفاعة على بذل العدل عنها. ويبين في الآية الثانية أن النفس المطلوبة بجرمها لا يقبل منها عدلٌ عن نفسها، ولا تنفعها شفاعة شافع فيها، وقد بذل العدل للحاجة إلى الشفاعة عند رده. فلذلك كله قال في الأولى: لا يقبل منها شفاعة، وفى الثانية: ولا تنفعها شفاعة لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع، وإنما تنفع المشفوع له). المسألة الثالثة: التقديم والتأخير في قول الله تعالى: {ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77)} - قال ابن عاشور: (من بديع ترتيب هذه الجمل أنها جاءت على ترتيب حصولها في الوجود، فإن أول ما يسبق إلى نفس الكاره للأمر أن يساء به ويتطلب المخلص منه، فإذا علم أنه لا مخلص منه ضاق به ذرعا، ثم يصدر تعبيرا عن المعاني وترتيبا عنه كلاما يريح به نفسه. وتصلح هذه الآية لأن تكون مثالا لإنشاء المنشئ إنشاءه على حسب ترتيب الحصول في نفس الأمر، هذا أصل الإنشاء ما لم تكن في الكلام دواعي التقديم والتأخير ودواعي الحذف والزيادة). فحوَّل النظمَ؛ فقدَّم الظرفَ بادئ ذي بدء للتشويق إلى متعلّقه، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباق إذ جعل ابتداء خلق جديد وهو البعث مؤقتا بوقت نقض خلق قديم وهو طي السماء. وقدم {كما بدأنا أول خلق} وهو حال من الضمير المنصوب في نعيده للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى؛ لتتمكَّن في النفس أفضلَ تمكّن. وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث، فليس قوله: {يوم نطوي السماء} متعلقا بما قبله من قوله تعالى: {وتتلقاهم الملائكة}. وعقَّب ذلك بما يفيد تحقق حصول البعث من كونه وعداً على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب، فعدي بحرف "على" في قوله تعالى: {وعدا علينا} أي حقاً واجباً. وجملة: {إنا كنا فاعلين} مؤكدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نفوا البعث بعلة تعذّر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله. والمراد بقوله: {فاعلين} أنه الفاعل لما وعد به، أي القادر، والمعنى: إنا كنا قادرين على ذلك. وفي ذكر فعل الكون إفادة أنَّ قدرته قد تحققت بما دلَّ عليه دليل قوله: {كما بدأنا أول خلق نعيده}). المسألة الخامسة: في ذكر أمثلة متعددة للتقديم والتأخير في القرآن الكريم - قال د.فاضل السامرائي: (إن القرآن الكريم دقيق في وضع الألفاظ ورصفها بجنب بعض دقة عجيبة فقد تكون له خطوط عامة في التقديم والتأخير، وقد تكون هناك مواطن تقتضي تقديم هذه اللفظة أو تلك، كل ذلك مراعى فيه سياق الكلام والاتساق العام في التعبير على أكمل وجه وأبهى صورة. وسنوضح هذا القول المجمل ببيان شاف.إن القرآن - كما ذكرت - يقدم الألفاظ ويؤخرها حسبما يقتضيه المقام فقد يكون سياق الكلام - مثلاً - متدرجاً حسب القدم والأولية في الوجود، فيرتب ذكر الكلمات على هذا الأساس فيبدأ بالأقدم ثم الذي يليه وهكذا وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فخلق الجن قبل خلق الإنس بدليل قوله تعالى: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} فذكر الجن أولاً ثم ذكر الإنس بعدهم. ونحو قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} لأن السِّنة وهي النعاس تسبق النوم فبدأ بالسنة ثم النوم. ومن ذلك تقديم عاد على ثمود قال تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ}فإن عاداً أسبق من ثمود. وجعلوا من ذلك تقديم الليل على النهار والظلمات على النور قال تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر} فقدم الليل لأنه أسبق من النهار وذلك لأنه قبل خلق الأجرام كانت الظلمة، وقدم الشمس على القمر لأنها قبله في الوجود. وقال: {يُقَلِّبُ الله الليل والنهار} إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ومثل تقديم الليل على النهار تقديم الظلمات على النور كما ذكرت. قال تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} وذلك لأن الظلمة قبل النور لما مر في الليل. قالوا: ومن ذلك تقديم العزيز على الحكيم حيث ورد في القرآن الكريم قال تعالى: {وَهُوَ العزيز الحكيم} قالوا: لأنه عَزَّ فَحكَمَ. ومنه تقديم القوة على العزة لأنه قوي فعزّ أي غلب فالقوة أول قال تعالى: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} وقال: {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} وقد يكون التقديم بحسب الفضل والشرف، ومنه تقديم الله سبحانه في الذكر كقوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً}. فقدم الله على الرسول، ثم قدم السعداء من الخلق بحسب تفاضلهم، فبدأ بالأفضلين وهم النبيون ثم ذكر من بعدَهم بحسب تفاضلهم. كما تدرج من القلة إلى الكثرة فبدأ بالنبيين وهم أقل الخلق، ثم الصدّيقين وهم أكثر، ثم الشهداء ثم الصالحين، فكل صنف أكثر من الذي قبله فهو تدرج من القلة إلى الكثرة ومن الأفضل إلى الفاضل. ولا شك أن أفضل الخلق هم أقل الخلق، إذ كلّما ترقَّى الناس في الفضل قلَّ صنفهم). |
تطبيقات الدرس العاشر: بيّن أغراض التقديم والتأخير في الآيات التاليات: (1) قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} (2) قول الله تعالى: { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} وقول الله تعالى: { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} (3) قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)} (4) قول الله تعالى: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)} (5) قول الله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)} |
الساعة الآن 03:15 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir