بسم الله الرحمن الرحيم
سعيد بن المسيَّب المخزومي القرشي ( ت:94)
القمم الشامخة والهامات العالية والنفوس الزاكية يصوغ التاريخ من مآثرها حلي براقة تضي صفحات الليالي والأيام ، ليسير الركبان بسيرتهم ، ويسمر الآباء والأبناء، بقصص مجدهم ..... ليقول لنا التاريخ أن المؤمن لا تزيده المحن إلا عزة وإيماناً، عالما الجليل ولد في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الأمة في أوج عزها واستقرارها وذلك ، بعد مضي سنتين من خلافة الفاروق رضي الله عنه ، وقبل أن يبلغ الحلم يشهد كسر الباب (مقتل عمر) وانفتاح الفتن ، فعاصر أحداثاً عظاماً ، وأموراً جساماً ، منها اغتيال عمر رضي الله عنه و مقتل عثمان رضي الله عنه وموقعة الجمل وصفين والنهروان ، ومقتل علي رضي الله عنه، وتولي معاوية الخلافة إلى الشام كم شهد مقتل الحسين ،وموقعة الحرة في المدينة النبوية والتي استبيح فيها الدماء والأعراض، وشهد رمي الكعبة بالمنجنيق ، وقتل ابن الزبير ، وغيرها من الأحداث الجسام التي تتزعزع لها القلوب وتضطرب لها النفوس ، وعالمنا الجليل ، ثابتاً صلباً لم تزده تلك الأحداث إلا قوة وثباتاً وصلابة ، كيف لا وجده حزن ، والذي معناه القسوة والشدة ، عالمنا الجليل هو راوية عمر وفقيه المدينة وسيد التابعين ، عالمنا الجليل هو الفقيه المفسر المحدث معبر الرؤيا أبو محمد سعيد بن المسيَّبِ بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي.
نشأ في المدينة النبوية , وترعرع وتعلَّم بها فقد كان وقّاد الذهن ، شديد الذكاء ، فاجتهد في تحصيل العلم يقول في ذلك عن نفسه (إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد) فأخذ ينهل من علم الصحابة من نبع العلم الصافي ، كحل عينيه برؤية عمر رضي الله عنه ، فبعد أنّ شب اهتم بتتبع أقضية عمر وتعلمها حتى قيل له (راوية عمر) قال مالك بن أنس:( ولد-سعيد بن المسيب- في زمان عمر فلما كبر أكبَّ على المسألة في شأنه وأمره حتى كأنه رآه) يريد كأنه كان أخذ ذلك عنه لأن رؤيته صحيحة.
وذكر مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلي ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره.
كما سمع من عثمان وعلي ، وأخذ من زيد بن ثابت الفقة ومن أبي هريرة الحديث وغيرهم من الصحابة ودخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة رضي الله عنهن ، فكان من علمه وفقهه أنه كان يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياء؛ له مرويات في التفسير، أكثرها في الأحكام ، وله مراسيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من أجود المراسيل ، قال أبو طالب: قلت لأحمد بن حنبل: سعيدُ بن المسيِّب؟ فقال: ومَن مثلُ سعيد بن المسيِّب؛ ثقةٌ من أهل الخير.
كما ظهر أثر علمه على تعبده وتعظيمه لله ، عن الأوزاعي، قال: كانت لسعيد بن المسيب فضيلة لا نعلمها كان لأحد من التابعين، لم تفته الصلاة في جماعة أربعين سنة عشرين منها لم ينظر في أقفية الناس.
وعن عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، قال: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة. وقال سعيد بن المسيب: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجل في الصلاة منذ خمسين سنة.،ورُوي أنه كان يسرد الصوم وحج أربعين حجة ، و كان يكثر أن يقول في مجلسه اللهم سلم سلم.
كما عظّم الله ، عظّم رسوله صلى الله عليه وسلم ووقره، فعن يعقوب بن المسيب، قال: دخل المطلب بن حنظب على سعيد بن المسيب في مرضه وهو مضطجع فسأله عن حديث، فقال: أقعدوني فأقعدوه، قال: إني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع.
وكأن سعيد بن المسيب يتمثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "العبادة في الهرج كهجرة إلي "فهو في تلك الأحداث العصيبة ، شغل نفسه بالعلم والقربات والتي من أجلها المواظبة على الصلاة، وسرد الصيام ، وتلاوة القرآن وغيرها .
وكان سعيد بن المسيِّب من أعبر النَّاس للرُّؤي، أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأخذته أسماء عن أبيها. وروى ابنُ سعد في الطبقات عدة منامات، وتفسير ابن المسيِّب له، ونقله عنه الذهبيُّ في سيره.
من سنن الله في خلقة الإبتلاءات والمحن قال تعالى في سورة العنكبوت :( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) آية2
فالعالم الجليل سعيد بن المسيب ، امتحن امتحاناً عظيماً وابتلي بخلفاء بني أمية فقد آذوه وضربوه بالسياط فصبر محتسباً لم ينحني ولم يذل.وكذلك عامل ابن الزبير على المدينة طلب منه مبايعة ابن الزبير فرفض حتى يجتمع الناس على خلافته فضرب بالسياط. فلم يتزعزع ولم يثنيه ذلك عن نشر العلم وتعليمه وبذله في مسجد وسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن المواقف التي سطرت لابن المسيب تزويج ابنته بدرهمين أو ثلاثة ، وهي قد سبق أن خطبها الخليفة عبدالملك لابنه الوليد فرفض سعيد ، فضربه خمسين سوطا، ثم زوجها أحد تلاميذته ،قال كثيربن أبي وداعة : كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياما فلما جئته قال أين كنت قلت توفيت أهلي فاشتغلت بها فقال ألا أخبرتنا فشهدناها ثم قال هل استحدثت امرأة فقلت يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة قال أنا فقلت وتفعل قال نعم ثم تحمد وصلى على النبي ﷺ وزوجني على درهمين أو قال ثلاثة.
مرض رحمه الله آخر حياته واشتد وجعه ، يقول عبد الرحمن بن حرملة دخلت على سعيد بن المسيب وهو شديد المرض وهو يصلي الظهر وهو مستلق يوميء إيماء فسمعته يقرأ بالشمس وضحاها.
ولما احتضر سعيد بن المسيب ترك مالاً، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أتركها إلا لأصون بها ديني، ومات سعيد سنة أربع وتسعين وكان يقال لهذه السنة التي توفي فيها سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم.
فوائد من سيرة سعيد بن المسيّب:
-العبادة وقت اشتداد الفتن .
-السعي لأخذ العلم من العلماء الربانيين.
-العمل بالعلم ، وكثرة العبادة مع إحسانها.
-بذل العلم ونشره بعد تعلمه .
-العزة بدين الله والثبات عليه.