دليل المعهد | طريقة الدراسة| التأصيل العلمي| فريق العمل

العودة   معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد > برنامج إعداد المفسر > دورات برنامج إعداد المفسّر > رسائل التفسير

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 2 ذو القعدة 1443هـ/1-06-2022م, 02:24 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً..}

رسالة في تفسير قول الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً..}

العناصر:
تمهيد
مقاصد سورة فاطر
- المقصد الأول: بيان السبيل إلى العزّة الحقيقية
- - الفرق بين العزة المطلقة والعزة النسبية
- - الفرق بين العزَّة المتوهَّمة والعزة الحقيقية
- - أصناف الناس في طلب العزّة
- - الفرق بين سلوك أهل الإيمان وسلوك أهل الطغيان في طلب العزة
- - بيان يسر السبيل إلى العزّة الإيمانية
- المقصد الثاني: الشفاء من أوهام الغرور وآثاره السيئة
فضل تلاوة كتاب الله تعالى
تفسير قول الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا}
- معاني العزّة في اللغة
- معنى اتصاف الله تعالى بالعزّة
- معنى وصف العزة بـ {جميعا}
-معنى التعريف في العزة
- أنواع العزّة المضافة إلى الله تعالى
- معنى اللام في قوله تعالى: {فلله}
- فائدة تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {فلله العزّة جميعاً}
- جواب الشرط في الآية
تفسير قول الله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب}
- مرجع الضمير في قوله تعالى: {إليه}
- الفرق بين "يصعد" و"يرفع"
- القراءات في {الكلم الطيب}
- المراد بالكلم الطيب
- مرجع الضمير في قوله تعالى: {يرفعه}
- معنى الواو في قوله تعالى: {والعمل الصالح يرفعه}
- مناسبة قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} لما قبله
تفسير قول الله تعالى: {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد}
- معنى مكر السيئات
- المراد بالذين يمكرون السيئات
- معنى التعريف بالاسم الموصول
- معنى قوله تعالى: {لهم عذاب شديد}
تفسير قول الله تعالى: {ومكر أولئك هو يبور}
- معنى التعريف بأولئك
- معنى {يبور}
- فائدة التخصيص بـ{هو}

الفوائد السلوكية


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 2 ذو القعدة 1443هـ/1-06-2022م, 02:40 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تمهيد
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:
فهذه رسالة في تفسير قول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}
وبيان ما تضمنته من معانٍ واسعة، وهدايات جليلة بألفاظ وجيزة محكمة تبيّن للمؤمن سبيل العزّة، وتخلّصه من أوهام الغرور، وتقيم البراهين الجلية على أن العزّة لله جميعاً، وأنه هو الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، وأنه لا سبيل لأحدٍ إلى نيل العزّة على الحقيقة إلا بالله تعالى، وبما أرشد إليه.

مقاصد سورة فاطر
اشتملت سورة فاطر على مقاصد جليلة من تقرير التوحيد، وإثبات الجزاء، وبيان سنة الله تعالى في الأمم السابقة، والتعريف ببعض صفات الله تعالى وآلائه، وتلك مقاصد بيّنة لا يكاد يخطئهما المتدبر، واشتملت أيضاً على مقصدين مهمّين لهما أثر عظيم على حال المكلَّفين وعاقبة أمرهم سأفرد الحديث عنهما بشيء من التفصيل:
المقصد الأول: بيان السبيل إلى العزّة الحقيقية.
والمقصد الثاني: الشفاء من أوهام الغرور وآثاره السيئة.

وهاتان القضيتان من أهمّ ما يحتاج المكلفون إلى بيان الهدى فيه، فكم ضلَّ فيهما من ضالّ، وتحيّر فيهما من متحيّر؛ فأتى الله تعالى فيهما ببيان شافٍ، فمن اتبع ما بيّنه الله تعالى من الهدى في هذه السورة الكريمة أبصر الطريق الصحيح المثمر للحال الطيبة والمفضي إلى العاقبة الحسنة، وسلم من مغبَّة المخالفة وآثارها السيئة على حال المكلف وعاقبته.

واستهلّت السورة بآيات جليلة هي كالمقدمات بين يدي التفصيل في شأن هاتين القضيتين؛ تضمنت تلك الآيات براهين جلية تنير البصيرة، وتثمر اليقين، لمن صدّق بآيات الله تعالى، واتّبع هداه.
فاستهلّت السورة بالحمد لله تعالى الذي فطر السموات والأرض فأنشأ خلقهما على غير مثال سابق، وذلك فيه تنبيه جليّ على أنه تعالى لا يعجزه شيء مما يحتاج إليه خلقه، وذكر جنداً من جنوده الأخفياء عن عيون البشر، وهم الملائكة الذين لا يحصي عددهم كثرة إلا الله تعالى، ونوّع خلقهم، ووهبهم من القوة والقدرة على أداء ما أوكل إليهم من الأعمال، والعصمة من العصيان، ما لو تفكّر فيه الإنسان لتحيّر فكره من كثرتهم وقدرتهم ودأبهم على العمل؛ فهذا جند واحد من جنود لله تعالى، والله غنيّ عنهم، وإنما ذكر ذلك لتطمئنّ به قلوب المؤمنين، ويزدادوا يقيناً بأن الله تعالى محيط بكلّ شيء علماً.
ثم بيّن الله تعالى أنه ما يفتح للناس من رحمة فلا ممسك لها، {ورحمة} نكرة في سياق الشرط فتشمل كلّ رحمة؛ فلا سبيل لأحد من الخلق مهما كان إلى منع رحمة أراد الله تعالى أن يفتحها لعبد من عباده، {وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}.
ثمّ ذكّر الله تعالى الناسَ بنعمته عليهم وأنهم لا خالق لهم إلا الله، وأن الذي خلقهم هو الذي قدّر أرزاقهم، وأنه لا إله إلا هو، وأنّ مرجع الأمور كلّها إلى الله تعالى.
فلما تقررت هذه المقدمات المهمة التي تملأ قلب المؤمن إيماناً وخضوعاً لله تعالى وتوحيداً له واعتقاداً جازماً بأنّ النفع والضرّ بيد الله تعالى وحده ذكر القضيتين الجليلتين ببيان بديع محكم.


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 2 ذو القعدة 1443هـ/1-06-2022م, 02:40 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

المقصد الأول: بيان السبيل إلى العزّة الحقيقية

الفرق بين العزة المطلقة والعزة النسبية
العزة المطلقة لله تعالى وحده، فهو العزيز بكلّ معاني العزة، عزة القدر، وعزة القوة، وعزة القهر والغلبة، وعزّة الامتناع.
فله العزة جميعاً، لم يزل عزيزاً في الأزل، ولا يزال عزيزاً إلى الأبد، لا تفنى عزته، ولا تشوبها شائبة نقص.
فعزته تعالى عزّة ذاتية، لا يفتقر فيها إلى أحد من خلقه.

وكل مخلوق سواه فإنما عزّته عزة نسبية بما يناسب حاله وخَلْقَه الضعيف، وبما يقدّره الله تعالى له، وعزّته ليست ذاتية، بل مفتقر فيها إلى غيره، لأنه لا ينال تلك العزّة إلا بمن يتعزَّز به؛ فالضعفاء يستعزون بمن هم أقوى منهم، وأقدر، وأغنى، وأعلم، والكبراء يستعزّون بجنودهم ومن تحت أيديهم، وبما خوَّلهم الله تعالى من النعم.
ومتى حيل بين كلّ مستعزّ منهم وما يستعزّ به بقي ذليلاً لا عزّةَ له، بل قد يُرى المستعزّ منهم متكبراً متجبراً في الظاهر، وهو في الباطن ذليلٌ مفتقرٌ إلى من يتعزّز بهم.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيقٌ لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدَّمَهم والمطاعَ فيهم؛ فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم؛ فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه؛ فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبدٌ مطيع لهم).
- وقال أيضاً: (كلّ من علّق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لأمورهم متصرفاً بهم؛ فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر؛ فالرجل إذا تعلّق قلبُه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيّدها لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولا سيما إذا علمت بفقرة إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها؛ فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكّم السيّد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم؛ فإنّ أسْرَ القلبِ أعظم من أَسْرِ البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعبِد بدنه واسترقّ وأُسِرَ لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله؛ فهذا هو الذلّ والأسرُ المحضُ والعبودية الذليلة لما استعْبَد القلب)ا.هـ.

والله تعالى يهب العزة لمن يشاء؛ ينزع العزة ممن يشاء، ليعلم الناس أنّ الله تعالى هو المعزّ المذلّ على الحقيقة، وأن المخلوقين لا عزّة لهم إلا بما يقدّره الله تعالى لهم.

الفرق بين العزَّة المتوهَّمة والعزة الحقيقية
العزّة في أصلها مطلب شريف تسعى له كلّ نفس بما يناسب حالها، وبما أقدرها الله عليه، لكن يحصل لدى كثير من الناس خطأ في تصوّر معنى العزّة، وضلال عن سبيل طلبها، فيتوهّم كثير من الناس العزَّة فيما ليس بعزّة على الحقيقة، ولذلك كان من أهمّ المهمات التفريق بين العزّة المتوهّمة والعزة الحقيقية.

فالعزّة المتوَهَّمة هي التي يتوهّمها كثير من الناس، ويغترّون بظاهرها، ويدأبون في طلبها، ثم يقعون فيما يؤول إلى نقيضها، وذلك بسبب خطئهم في تصوّر معنى العزة، وفي أسباب نيلها، وفي سبل طلبها، وفي مقاصدهم من طلبها.

1. فأما تصوّرهم لمعنى العزّة؛ فكثير من الناس يتصوّر العزّة في العلوّ في الأرض، والبغي فيها بغير الحقّ، وغلبة الأقران، وفي التمتّع بالمتَعِ الظاهرة التي يمدّ الناس إليها أبصارهم، وتشرئبّ إليها أعناقهم.

2. وأما اختلافهم في أسباب نيلها؛ فمنهم من يتصوّرها في السلطة والنفوذ، ومنهم من يتصورها في الجاه والرئاسة، ومنهم يتصورها في القوة والشجاعة، ومنهم من يتصوّرها في الثروة والغنى، ومنهم من يتصورها في العلم والحذق فيه، ومنهم من يتصورها في غير ذلك.

3. ولذلك يتفاوتون في طلب العزة بحسب ما تصوّروه من معانيها، وما يريدون أن يكونوا عليه مما يناسب أحوالهم، ويرون سبلَ طلب العزّة فيما سلكه كبراؤهم ومعظَّموهم من البغاة، والطغاة، والمفسدين في الأرض الذين يُعجّل الله لهم بعض ما يريدون من متاع الدنيا ابتلاء وفتنة لهم ولغيرهم ثم تكون عاقبة من أصرّ منهم على مخالفة هدى الله تعالى سيئة.

4. وتختلف مقاصدهم في طلب العزة أيضاً:
- فمنهم من يريد أن يعتزّ على أقرانه.
- ومنهم من يريد أن يعتزّ على أقاربه وجيرانه.
- ومنهم من يريد أن يعتزّ على أهل بلده.
- ومنهم من يريد أن يطلب العزة بالملك والإمارة.
- ومنهم من يطلب عزّة تخلّد ذكرَه في الناس.
- وأدناهم من تكون أقصى همّته من طلب العزة أن يتخلَّص من بعض ما هو فيه من الذلّة والقلّة، كما قال الحصين بن حمام المري:


فعوذي بأفناء العشيرة إنما ... يعوذ الذليل بالعزيز ليُعصَما





وأمّا العزّة الحقيقية فهي العزّة الإيمانية التي كتبها الله تعالى لأوليائه المؤمنين؛ فقال تعالى: {ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون}
فالمنافقون لا يعلمون ما هي العزّة على الحقيقة، ولا يذوقون لها طعماً، ولا يجدون لها ريحاً، لأنَّ قلوبهم متعلقة بطلب العزّة من أعداء الله، ولذلك اشتدّ غضب الله تعالى عليهم؛ فقال تعالى: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}.

ولما كانت عزّة المخلوقين عزّة نسبية، ولا مناص لهم من التعزّز بغيرهم كان أسعدهم نصيباً من العزّة من تعزّز بالله تعالى الذي له العزّة جميعاً، وعزَّته عزّة ذاتية مطلقة لا تفنى ولا تنقص، كما أنّ قدرته تامة فلا يعجزه شيء، وعلمه تامّ فلا يخفى عليه شيء، وقوّته تامّة فلا يؤوده شيء، فكذلك عزّته تعالى عزّة تامة لا تشوبها شائبة نقص.
فمن أعزّه الله فلا مذلّ له، ومن أذلّه الله فلا معزّ له، وقد بيّن الله تعالى السبيل الميسر لنيل العزّة منه تعالى، وضمن لمن سلك ذلك السبيل أن يتمّ له مقصده.
قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}
وقال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
وقال تعالى: {وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين}
وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}
وقال تعالى: {وإنّ جندنا لهم الغالبون}.

فالعزّة الحقيقية أن تكون ولياً لله تعالى؛ تحبّه ويحبك، وتؤمن به وتتوكّل عليه، إذا استهديته هداك، وإذا استكفيته كفاك، وإذا دعوته أجابك، وإذا سألته أعطاك، وإذا استعذت به أعاذك، وإذا استغثت به أغاثك، يشرّفك بمعيَّته الخاصة؛ فتكون ممن قال الله تعالى فيهم: {وأنّ الله مع المؤمنين}؛ فيقرّبك ويدنيك، ويحفظك وينصرك، ويدافع عنك، بل يؤذن من يعاديك بالحرب؛ فهذه هي العزّة السامية الحقيقية، التي لا عزّة لمخلوق فوقها كما في الحديث القدسي العظيم الذي رواه البخاري في صحيحه من طريق سليمان بن بلال قال: حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: [ من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته] )).

وهذه العزّة متحققة لكلّ من سلك سبيلها الذي أرشد الله إليه وبيّنه؛ فمن وفَّى وُفِّيَ له، ومن قصّر كان نصيبه على قدر ما أتى به من الأسباب الشرعية، ولحقه من النقص بقدر تفريطه وتقصيره، وما يعفو الله عنه أكثر.

فمن أبصر معنى العزّة على الحقيقة تبيّن له الفرق الكبير بين ما يطلبه مبتغو العزّة المتوهَّمة بالعلو في الأرض والفساد فيها والاختيال بمتعها الظاهرة، وبين ما يناله المؤمن من العزّة الحقيقية التي تثمر له حياة طيبة، وعاقبة حسنة، ورفعة في الدرجات، وسلامة من السيئات وآثارها، وخلاصاً من رقّ العبودية لغير الله تعالى، ومِن تعلّق القلب بغيره.

وأدرك بيقين جازم وبصيرة نافذة أنّ الله تعالى هو ربّ العزّة، وأنه بيّن سبيل ابتغائها بما يرضيه ويثيب عليه من الأسباب المشروعة، فيهب الله تعالى من يتّبع رضوانه عزّة حقيقية تحصل له بها حال طيبة، وتفضي به إلى عاقبة حسنة، وهذا بخلاف تعزّز أهل الباطل بباطلهم وما يجري فيهم من سنّة الله تعالى التي لا تتبدّل ولا تتحوّل أنَّ تعززهم غرور مقرون بالشقاء والعذاب، وينتهي بهم إلى الذلة والمهانة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة.

وقد تقرر أنّ الله تعالى إذا رغّب في أمرٍ وبيّن السبيل إلى نيله أنّ ذلك يقتضي وعداً كريماً منه تعالى بأن من سلك ذلك السبيل الذي بيّنه طلباً لما رغّب فيه أن ييسره له، ويقرّ عينه به، وهذا وعد رباني لا يُخلف ولا يتبدّل.
ومن طلبه بخلاف ما أرشد الله إليه، وأعرض عن هدى الله لم يحصل له إلا نقيض قصده، وهذا حال من يطلب العزّة بالاستكبار في الأرض والمكر السيء، وقد قال الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}
فبيّن تعالى أنّ العزّة له جميعاً، وأنه وحده هو الذي يهب من يشاء من عباده عزّة تناسب حاله، ومن أعزّه الله فلا مذلّ له، ومن أذلّه الله فلا معزّ له.

أصناف الناس في طلب العزّة
بيّن الله تعالى أن الناس في إرادة العزّة والتماس سبيلها على صنفين:
صنف: يطلبونها بما أرشد الله إليه من الكلم الطيب والعمل الصالح؛ فتزكوا نفوسهم، ويحصل لها من الرفعة عند الله تعالى، والبصيرة في دينه، والتوفيق للصالحات ما يتحقق لهم به معنى العزة الحقيقية، ويسلمون من شرور النفوس وآفات الأعمال والمعاصي التي هي سبب الذلة الحقيقية.
وصنف: يطلبونها بالمكر السيء؛ ليتوصّلوا به إلى العلو في الأرض والفساد فيها، وهؤلاء لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور.
وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}.
ومن الناس من يكون مقيماً على معصية الله تعالى في أمرٍ يرى أنّ له فيه عزة وصولة؛ فيمنعه من قبول الدعوة والاستجابة لله تعالى الخوف على ما هو فيه مما توهّمه عزّة، ولو أنّه استجاب لله تعالى لأثابه بعزّة حقيقية هي خير له وأهنأ وأسلم عاقبة مما هو فيه، بل ما هو فيه مما يتوهّمه عزة لا بدّ أن يؤول به إلى ذلّة مهينة ما لم يُنِب إلى الله تعالى ويسلك سبيل العزة الحقيقية.
قال الله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)}
فمن كان له فضل في مالٍ أو جاه أو رئاسة فإن الله تعالى يزيده بالاستجابة له رفعة وعزة ولا ينقصه. (( ومن تواضع لله رفعه )).
ومن تولى فقد عرّض نفسه لعذاب شديد، ونقمة من الله تعالى، وأشدّ الإعراض إعراض الكافرين، وقد قال الله تعالى: { وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)}.
فهم على نقيض حال من اتّبع هدى الله وابتغى العزّة منه جلّ وعلا.
وأما الظالمون فيغرّ بعضهم بعضاً بالوعود الكاذبة والأماني الباطلة ويوهمونهم بعزّة يظلّون يدأبون في طلبها وهم ضالون عن سبيل العزّة الحقيقية فيوقعهم هذا السعي في ذلّة لا مخرج لهم منها إلا الرجوع إلى الله تعالى والإنابة إليه وطلب العزّة منه وحده، وبما أرشد إليه.
قال الله تعالى: { بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا}
وهذه الآية تبيّن حقيقة ما تؤول إليه وعود الظالمين بعضهم بعضاً؛ فهي وعود تُوردهم المهالك، وتنتهي بخلاف ما أمّلوه، فكل من وُعد بعزّ يأتيه بمعصية الله فحقيقة ذلك الوعد إنما ينتهي به إلى ذلّ.


الفرق بين سلوك أهل الإيمان وسلوك أهل الطغيان في طلب العزة
سلوك السبيل المفضي إلى تحقيق العزّة ينبني على تصورها؛ ومن أحسن تصوّر معنى العزّة وعرف سبيلها كان لمعرفته تلك أثر عظيم في تقويم سلوكه.
وكثير من الناس يتوهّم العزّة فيما ليس بعزة عليه الحقيقة، وإنما هو علوّ في الأرض وبغي فيها بغير الحق، ولذلك يكثر فيهم ظلم بعضهم لبعض، وتغرير بعضهم لبعض، وبغي بعضهم على بعض؛ لأنهم يطلبون عزة متوهمة، لا يزالون يلهثون وراءها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.
فيقول قائلهم: "إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب "
كما قال الأول: ومن لا يظلم الناس يُظلم
حتى يصل الأمر لدى بعضهم إلى استحسان البغي على الناس وظلمهم لأنه دلالة على عزَّتهم فيما زُيّن لهم، كما قال عمرو بن كلثوم يفخر بقومه:


بغاة ظالمون وما ظُلمنا ... ولكنا سنبدأ ظالمينا




وهذا التصور لمعنى العزّة عندهم لا شكّ أنّ له أثراً كبيراً في انحراف سلوكهم في طلبها، وانجرافهم إلى المكر السيء والبغي والعدوان.

وأمّا طلاب العزة الإيمانية فهم بين موقفين حسنين في معاملة من يبغي عليهم إذا كانت الخصومة لها تعلّق بحظوظ أنفسهم:
الموقف الأول: الانتصار من الخصم بما أرشد الله إليه، وأهم أسباب النصر التحرز من ظلم الخصم، وعدم بخسه حقه؛ ليتمحّض لهم النصر الذين يرجونه من الله تعالى؛ لأن الله لا يحب المعتدين، ولا ينصر الظالمين، وهم إنما يطلبون العزّة والنصر من الله تعالى، {وما النصر إلا من عند الله}.
فمن الناس من يكون له أكثر الحق في الخصومة، لكنّه يقع في قَدْرٍ من الظلم والبغي على خصمه؛ فلا يكون له النصر التام عليه.
ولذلك إذا كنتَ طرفاً في خصومة، وأردت أن تُنصر على خصمك؛ فاحرص على أداء حقه كاملاً، وألا تظلمه بقول ولا فعل؛ فإنَّك إن فعلت ذلك لم يكن لخصمك سلطان يُنصر به عليك، وكان النصر لك بما ظلمك وهضمك حقك.

الموقف الثاني: العفو، ومقابلة الإساءة بالإحسان، وهي مرتبة أكمل وأجمل، ولا ينالها إلا ذو حظّ عظيم من اليقين والتقوى، كما قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقّاها إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}
- وقال إسماعيل بن عياش، عن أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي، عن فروة بن مجاهد اللخمي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ((يا عقبة بن عامر! صلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، واعف عمن ظلمك)). رواه أحمد في المسند، والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناده حسن، وفروة بن مجاهد هذا من العبَّاد الزهاد؛ قال عنه البخاري: (كانوا لا يشكّون أنه من الأبدال).
- وقال العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل». رواه أحمد، ومسلم، والدارمي.

وقد جمع الله هاتين المرتبتين في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}

فتأمل الفرق الكبير بين بصيرة أهل العزة الإيمانية وعماية أصحاب العزة المتوهَّمة، والتباين الشديد بين سلوك هؤلاء، وسلوك هؤلاء.
فأهل العزّة الإيمانية أبصروا العزّة الحقيقية، وعلموا أنهم لن ينالوها إلا بما أرشد الله إليه من الكلم الطيب والعمل الصالح، والتحرز من الظلم والعدوان؛ فحققوا شروط التعزّز بالله تعالى؛ فكانت معاملتهم للناس دائرة بين العدل والإحسان.
وأصحاب العزة المتوهَّمة عموا عن العزة الحقيقية، وجروا خلف عزّة متوهَّمة وسلكوا في طلبها سبل البغي والعدوان والمكر السيء؛ فكان لهذا التصور أثر سيء على سلوكهم وحالهم وعاقبتهم.

بيان يسر السبيل إلى العزّة الإيمانية
من وهبه الله الفرقان بين العزّة الحقيقية والعزة المتوهّمة، ووفّقه لسلوك سبيل العزة الإيمانية فإنه يجد أسبابها يسيرة بعون الله تعالى غير شاقّة ولا محرجة، وهي عزة تنال بالقول الطيب والعمل الصالح كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}.
والقول الطيب، والعمل الصالح يسيران على من يسّرهما الله عليه؛ وبهما تتحقق ولاية الله تعالى لعبده، ومن كان الله وليّه فقد نال العزّة.
فقوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} فيه عناية بالمؤمنين وتشريف لهم بأن ما يقولونه من كلام طيب يصعد إلى الله تعالى بأسرع مما يصل كلام المخلوقين بعضهم إلى بعض عبر وسائلهم السريعة، وقدم الضمير {إليه} للعناية والاختصاص؛ وفيه معنى الضمان لمن تكلّم بكلام طيّب يحبّه الله أنّ الله تعالى يعلمه من حين يقوله بل يصعد إليه جلّ وعلا، وأنه لا يضيع عند الله، كما في الصحيحين من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبراً، تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً، تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
- قال القرطبي رحمه الله: (فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذلّ، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه، قال صلى الله عليه وسلم: ((من تواضع لله رفعه الله))، ومن طلبها من غيره وَكَلَه إلى من طلبها عنده)ا.هـ.


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 2 ذو القعدة 1443هـ/1-06-2022م, 02:41 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

المقصد الثاني: الشفاء من أوهام الغرور وآثاره السيئة

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)}.
والغَرور هو الشيطان في قول عامة مفسري السلف، والتعريف فيه للعهد الذهني، وقرئ في الشواذ بضمّ الغين، وهو مصدر، ويصحّ إطلاق المصدر على القائم بالفعل للمبالغة كما قال طرفة بن العبد:
أبا منذر كانت غُروراً صحيفتي ... ولم أعطكم بالطَّوع مالي ولا عرضي
فيشمل هذا الوجه كلّ ما يقع بسببه اغترار.
ويحتمل أن يكون جمع غارّ، والأصل غارِر، وجمع على غُرور، مثل: قاعد وقعود، وشاهد وشهود.
والاغترار بالدنيا وبالشيطان هو أصل كلّ اغترار، وقد ضل بسببهما أكثر الناس، وكان السبب الحامل على الاغترار بهما عدم التصديق بوعد الله تعالى أو ضعف التصديق بسبب طول الأمد وقسوة القلب.
ثمّ ذكر عداوة الشيطان للإنسان، وأنه يجب علينا أن نتخذه عدواً، فقال تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}.
فكان الواجب تجاه الشيطان أمرين:
الأمر الأول: أن نعتقد أنه عدوّ، وهذا يستلزم الإيقان بأنه يسعى لمضرتنا، ولا يريد بنا خيراً، وأنه إنما يدعو من يتبعه ليكون من أصحاب السعير، وهذا تقرير للجانب الاعتقادي العلمي، وهو أصل مهم لما بعده.
والأمر الثاني: أن نتّخذه عدواً، وهذا يستلزم أن يُعامل معاملة العدوّ، فيستعاذ بالله من شرّه، ويُحترز من كيده ومكره ووسوسته، ويُحذر من اتباع خطواته.
وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة الجليلة أصنافاً مما يغترّ به الناس، وفرّق ذكرها في السورة ليأتي كلّ صنف في موضعه الأليق به؛ فيكون له من التأثير في القلب عند التدبّر ما هو أقوى وأنفع.
1. فذكر الله تعالى الاغترار بالدنيا وحذر منه، وبيّن أن الشفاء منه يكون بالتصديق بوعده تعالى؛ فمن صدّق بوعد الله لم يغترّ بالدنيا، ولم يؤثِرْها على الآخرة.
2. وذكر الاغترار بالشيطان وحبائله، وبيّن أن الشفاء من الاغترار به يكون بأمرين: أن نعتقد أنّه عدّو، وأن نتخذه عدواً؛ فالأول أمر علمي اعتقادي، والثانيأمر عملي سلوكي يتطلب يقظة وتحرزاً من كيده، وحراسة لمداخله.
3. وذكر الاغترار بالأعمال السيئة وتزيين الشيطان لها في نفوس أصحابها حتى يروها حسنة ويغتروا بها ثم تكون عاقبتهم سيئة، والشفاء منها بالإنابة إلى الله تعالى وطلب الهداية منه، واعتقاد أن الهدى والإضلال بيده تعالى.
4. وذكر اغترار المشركين بآلهتهم التي يعبدونها من دون الله تعالى، وبيّن دلائل التوحيد بما يكفي ويشفي ويغني، فلا تقوم للمشرك بعد ذلك حجة على شركه، فذكر تعالى سعة ملكه وتصرّفه في الكون وتدبيره من غير شريك ولا معين، ثم قال تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ}
5. وذكر تعالى الاغترار بالمتبوعين وطاعتهم في معصية الله، وبيّن أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنّ لكل نفس سعيها الذي ستحاسب عليه؛ فلا يغني أحد من المخلوقين عن أحد شيئاً.
6. وذكر الاغترار بما يكون لبعض أهل الباطل من الزخرف والمتاع في الدنيا، وما يكون فيه بعض أهل الحقّ من الفاقة وقلة المتاع؛ فبيّن حال الفريقين بأحسن وصف وأبدع بيان يكشف للمؤمن الفرق البيّن، والبون الشاسع بين الفريقين في حالهم ومآلهم؛ فقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}
وهذه الآيات كالتفصيل والبيان لما أُجمل في سورة آل عمران في قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)}.
7. وذكر الاغترار بالمكر السيء الذي هو من دأب أهل الباطل ليتوصّلوا به إلى العلو في الأرض والفساد فيها؛ فذكر ما يحصل لهم من شدّة العذاب في الدنيا والآخرة، وبيّن أن مكرهم مآله إلى البوار، وأنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله؛ فقال تعالى: {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور}، وقال تعالى: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}
8. ثم ذكر تعالى حقيقةً جامعةً تؤول إليها دعوة كلّ من يدعو إلى معصية الله تعالى وإلى مخالفة هداه من المستكبرين والضعفاء؛ فقال تعالى: {بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً} وهذا أسلوب حصر شامل لجميع وعود الظالمين بعضهم بعضاً؛ فكل من يدعو إلى معصية الله تعالى لتحقيق منفعة متوهَّمة فإنما يغرّ من يدعوه، ولا يتحقق له إلا نقيض قصده.
وما يحصل له من المتعة العاجلة -إن وجدت- فلا نسبة لها إلى العاقبة السيئة، وإلى مقت الله تعالى لصاحبها، وإلى آثار هذا المقت عليه في نفسه وحاله ومآله.
وهذا ينطبق على جميع أصناف الظالمين الذين يدعون إلى معصية الله تعالى، ويصدون عن الخير، فإنهم لم يحققوا لمن يدعونهم نفعاً على الحقيقة وإنما غرّوهم فازدادوا إثماً وعصياناً لله تعالى استحقوا به مزيداً من العذاب.
ولو تأمّلت حال الكبراء المعظمين وما يَعِدُون به الضعفاء حتى يخضعوا لهم ثم ما يكون للضعفاء من الاغترار بتلك الوعود حتى يلاقوا عواقب فعلهم وطاعتهم للكبراء في معصية الله لرأيت حقيقتين بارزتين لا تخطئهما عينُ البصيرة:
الأولى: أنهم لم يحصلوا على ما وعدهم به الكبراء مما غروهم به.
والثانية: أنهم عوقبوا بأشدّ مما فروا منه لو أنهم ثبتوا على الحق والهدى ولم يطيعوا سادتهم وكبراءهم في معصية الله تعالى.
وكذلك الكبراء والمعظمون يغرّهم الضعفاء بطاعتهم وخضوعهم وما يعدونهم به من المتابعة فيما تهواه أنفسهم فيزدادون طغياناً إلى طغيانهم ويكون عليهم من الإثم والعقوبة ما هو أشدّ عليهم وأشنع، ولم يقدروا على شيء مما كسبوا، ولا ما وعدهم به جندهم من النصرة والتأييد؛ فإنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً حين تحلّ بهم نقمة الله وبطشته التي لا مردّ لها عن القوم الظالمين، فيذهب ملكهم وجبروتهم ويستحيل ما كانوا يتمتعون به إلى عذاب وبيل، وعقاب شديد.
9. ثم ذكر تعالى الاغترار بالقوة والعلو في الأرض، وهو داء الظلمة والطغاة، وبيّن أن الشفاء منه يكون بالتفكر في أحوال الأمم السابقة، والتفكّر في قدرة الله تعالى الذي لا يعجزه شيء؛ فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)}.
10. ثم ذكر تعالى ما يغترّ به كثير من الظالمين المجرمين وهو الاغترار بالإمهال؛ فيزدادون بغياً وظلماً وطغياناً فقال تعالى في ختام السورة: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}.
وهذا فيه تنبيه وإرشاد للمؤمنين أن لا يعجلوا على المشركين، ولا أن يودوا تقديم ما أراد الله تأخيره؛كما في قول الله تعالى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}؛ فإنه ما أخرّ جزاءهم إلا لحكمة بالغة، وهو آتيهم لا محالة بعد أن يستنفدوا المهلة التي جعلها الله لهم بحكمته، وحجب عنهم أمَدَها.


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 2 ذو القعدة 1443هـ/1-06-2022م, 02:41 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

فضل تلاوة كتاب الله
ولما كان القرآن هدى وبشرى للمؤمنين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويرشدهم إلى سبيل العزة الحقيقية غير المتوهَّمة، وكانت النفوس تتطلّع إلى أمثلة يستمسك بها للكلم الطيّب والعمل الصالح، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}
فهذه أصول العبادات وهي جامعة بين بين الكلم الطيب والعمل الصالح
ولفظ "التلاوة" يجمع معنيي القراءة والاتباع، فالذين يقرأون كتاب الله تعالى ويتبعون ما فيه؛ يقودهم كتابُ الله تعالى إلى تجارة مضمونة الربح لن تبور، وإلى أجر كريم، وفضل عظيم، ومغفرة لذنوبهم، ومضاعفة لحسناتهم.
ومن الثواب الذي جعله الله تعالى لهم في الدنيا أن يحييهم حياة طيبة، وأن تزكوا نفوسهم وتطمئنّ قلوبهم وتتحرر من الرقّ للدنيا وللمخلوفين، فلا تتعلق قلوبهم إلا بالله تعالى، وتلك عزّة حقيقية لا يشمّ رائحتها أصحاب المكر السيء وطلاب العزّة بغير ما أرشد الله إليه.
وكان مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله إذا قرأ هذه الآية: {إن الذين يتلون كتاب الله ...} يقول: (هذه آية القرّاء). رواه ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وغيرهم.

ولما كان الفرق كبيراً بين ما وَعَدَ الله به عباده وبين ما يعدِ الظالمون به بعضهم بعضاً قال الله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}
فهذا الكتاب المبين هو الحقّ، وما فيه من وعد فهو وعد صدق لا يتخلّف، وكلّ وعد فيه فهو مُحكم غاية الإحكام، وتأمل ختام الآية بقوله تعالى: {إن الله بعباده لخبير بصير} ليدلّك على مقصد أوّل الآية وما قبلها؛ فما يحتاجه الناس في جميع شؤونهم فالله تعالى خبير به قد أحاط به علماً، وهو تعالى بصير بعباده وأحوالهم؛ فما أرشدهم إليه مبني على علم محكم وخبرة تامة، وبصر نافذ؛ فلا احتمال لنقصٍ ولا خللٍ، ولا مدّخل لاستدراك ولا تتميم، بل قد أحكم الله البيان وأتمّه، وأرشد عباده إلى ما يكفيهم ويشفيهم ويغنيهم.
ثم لما كان القرآن مشتملاً على الغاية في الإحكام والتمام، وكان الناس يتفاوتون في أخذهم بما فيه من الهدى وتمسّكهم به، صنّفهم الله تعالى إلى ثلاثة أصناف في الآية التي تليها فقال تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}.


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 2 ذو القعدة 1443هـ/1-06-2022م, 02:43 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا}
تقدير معنى الآية
في هذه المسألة ثلاثة أقوال للمفسرين:
القول الأول: من كان يريد نيلَ العزّة، أي يريد أن يكون عزيزاً؛ {فلله العزة جميعاً} أي: فلا تُطلب العزة إلا منه تعالى، وبما أرشد إليه، وهذا قول قتادة، ورجحه ابن جرير الطبري.
- قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قوله: {من كان يريد العزّة فللّه العزّة جميعًا} يقول: (فليتعزّز بطاعة اللّه). رواه ابن سلام البصري، وابن جرير.
- وقال ابن عطية: (من كان يريد العزة وطريقها القويم، ويحبّ نيلها على وجهها {فلله العزة} أي: به وعن أمره، لا تنال عزّته إلا بطاعته).
- وقال ابن القيم رحمه الله: (المعصية تورث الذل ولا بد؛ فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعة الله.
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.
قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وقال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
... وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك
... وأحبار سوء ورهبانها).
- وقال ابن كثير: (وقوله: {من كان يريد العزّة فللّه العزّة جميعًا} أي: من كان يحبّ أن يكون عزيزًا في الدّنيا والآخرة، فليلزم طاعة اللّه، فإنّه يحصل له مقصوده؛ لأنّ اللّه مالك الدّنيا والآخرة، وله العزّة جميعها، كما قال تعالى: {الّذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة للّه جميعًا}، وقال تعالى: {ولا يحزنك قولهم إنّ العزّة للّه جميعًا}، وقال: {وللّه العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون}).

القول الثاني: من كان من أولئك المشركين يريد العزَّة بعبادة الأوثان؛ فقد ضلّوا سبيلها، {فلله العزة جميعاً} أي: ليست لغيره مما يُعبد من دون الله تعالى، وهذا معنى قول مجاهد، وروي عن الحسن البصري.
وهذا القول مبناه على أنّ السبب الحامل للمشركين على عبادة غير الله تعالى هو طلب العزة منهم بالنصر والرزق والشفاعة؛ كما قال الله تعالى: { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}.
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)}.
- قال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {من كان يريد العزّة} يقول: (من كان يريد العزّة بعبادته الآلهة {فإنّ العزّة للّه جميعًا}). رواه ابن جرير.
- وقال يحيى بن سلام البصري: (وتفسير الحسن أنّ المشركين عبدوا الأوثان لتعزّهم كقوله: {واتّخذوا من دون اللّه آلهةً ليكونوا لهم عزًّا} فقال: (من كان يريد العزّة، فليعبد اللّه حتّى يعزّه).

القول الثالث: من كان يريد معرفة العزّة لمن هي {فلله العزة} ليست لغيره، وهذا قول الفراء، وابن قتيبة.
- قال الفراء: (قوله: {من كان يريد العزّة فللّه العزّة جميعاً...} فإن {العزّة} معناه: من كان يريد علم العزّة، ولمن هي؛ فإنها لله جميعاً، أي كل وجه من العزّة فلله).
- وقال ابن قتيبة: (أي: من كان يريد علم العزّة: لمن هي؛ فإنها لله تعالى).

معاني العزّة في اللغة
العزّة في اللغة مصدر لثلاثة أفعال:
أحدها: عزَّ يعَزُّ، بفتح العين إذا اشتدّ وقوي وصَلُب، ومنه يقال: أرضٌ عزاز أي: صلبة، وهي الأرض القوية المتماسكة التي ليست بحجارة.
- قال أبو منصور الأزهري: (وكلّ شيءٍ صَلُب فقد استعزَّ، وَبِه سمّي العَزاز من الأرض).
والتعزيز من هذا المعنى، وهي التقوية والتشديد، ومنه قول الله تعالى: {فعزَّزنا بثالث} على قراءة التشديد.
وقول الله تعالى: {أعزّة على الكافرين} أي: أشدّاء غلاظ.
ومنه قولهم: إذا عزَّ أخوك فهِن، أي: إذا عاسرك فياسره.
وكذلك قولهم: يعزّ عليَّ كذا وكذا، أي يشتدّ عليّ، ومنه قول الله تعالى: {عزيز عليه ما عنتّم}

والثاني: عزَّ يَعِزُّ، بكسر العين، وله معنيان:
أحدهما: الامتناع، فيقال: عزّ يعِزّ إذا امتنع ممن يرومه، ومنه قول الله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}.
وقال مالك بن عجلان:
نمنع ما عندنا بعزّتنا ...والضيم نأبى وكلنا أنُف
وقال شبيب بن البرصاء:
وجاراتنا ما دُمْن فينا بعزَّةٍ ... كأروى ثبير لا يحلّ اصطيادها
أروى ثبير: أي إناث وعول جبل ثبير؛ فهي في الحرم لا يحلّ اصطيادها، والأروى جمع، وواحدتها أرويّة.
وقال الفرزدق:
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعزّ وأطول
ومنه أخذت عزّة النفس أي: إباؤها وشموخها وامتناعها عن النقائص والمعايب.
والآخر: الندرة والقلّة، فيقال: عزّ يعِزُّ إذا ندر حتى لا يكاد يوجد مثله، ومنه أخذت عزَّة القدر؛ فيقال: فلان عزيز القدر إذا كان في محلّ لا يكاد يماثله فيه أحد.

والثالث: عَزَّ يَعُزُّ، بضمّ العين، إذا غلب وقهر، ومنه قول الله تعالى فيما حكى عن أحد الخصمين الذين تخاصما إلى داوود عليه السلام: {إنَّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزّني في الخطاب}.
ومنه قول العرب: من عزَّ بزّ، أي: من غَلَب سَلَب.
قالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حِمَى يُتّقى ... إذِ الناسُ إذ ذاكَ مَن عزّ بزّا
وقال الأعشى:
ولستَ بالأكثر منهم حصىً ... وإنما العزّة للكاثر
أي: الغلبة.
وقال الكميت بن زيد:
ولما رأيتُ النسرَ عزَّ ابنَ دَأْيةٍ ... وعَشَّشَ في وكريهِ جاشتْ له نفسي
ابن دأية اسم للغراب، أراد: ولما غلب بياضُ الشيب سواد شعر الشباب اضطربت له نفسي وأسفت على ما فات من ريعان الشباب.

معنى اتصاف الله تعالى بالعزّة
مما تقدّم يتبيّن أنّ لفظ "العزّة" يجمع أربعة معانٍ:
الأول: عزّة القدر.
والثاني: عزّة الامتناع.
والثالث: عزّة القوّة.
والرابع: عزّة القهر والغلبة.
والله تعالى له العزّة بهذه المعاني جميعاً.

- قال أبو الحسن ابن سيده: (العزّ والعزة: الرفعة، والامتناع، والشدة، والغلبة، وفي التنزيل: {من كان يريد العزة فلله العزة}).
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والعرب تقول: عز يعز بالفتح إذا قوي وصلب، وعز يعز بالكسر إذا امتنع، وعز يعز بالضم إذا غلب، فإذا قويت الحركة قوي المعنى، والضم أقوى من الكسر، والكسر أقوى من الفتح.
فإذا كان مغلوباً لم يكن منيعاً، وإذا لم يكن منيعاً لم يكن قوياً بطريق الأولى، ومن لا يكون قوياً لا يكون رباً فاعلاً).

- وقال ابن القيم: (والعزة يراد بها ثلاثة معان: عزة القوة، وعزة الامتناع، وعزة القهر، والرب تبارك وتعالى له العزة التامة بالاعتبارات الثلاث.
ويقال من الأول: عزَّ يعَزّ بفتح العين في المستقبل، ومن الثاني: عَزَّ يَعِزّ بكسرها، ومن الثالث: عَزَّ يَعُزُّ بضمها، أعطوا أقوى الحركات لأقوى المعاني، وأخفها لأخفها، وأوسطها لأوسطها، وهذه العزة مستلزمة للوحدانية، إذ الشِرْكة تنقض العزة، ومستلزمة لصفات الكمال؛ لأن الشركة تنافي كمال العزة، ومستلزمة لنفي أضدادها، ومستلزمة لنفي مماثلة غيره له في شيء منها.
فالروح تعاين بقوة معرفتها وإيمانها بهاء العزة وجلالها وعظمتها، وهذه المعاينة هي نتيجة العقيدة الصحيحة المطابقة للحق في نفس الأمر، المتلقاة من مشكاة الوحي، فلا يطمع فيها واقف مع أقيسة المتفلسفين، وجدل المتكلمين، وخيالات المتصوفين).


معنى وصف العزة بـ {جميعا}
وصف العزة وهي لفظ مفرد بقوله تعالى: {جميعا} فيه وجهان يؤولان إلى تأدية معنى واحد:
الوجه الأول: أنّ {جميعاً} بمعنى "كلّ"؛ فيفيد أنَّ كلَّ معاني العزة لله تعالى.
والوجه الثاني: أنّ {جميعاً} بمعنى مجتمعة، كما قال امرؤ القيس:
فلو أنها نفس تموت جميعةً ... ولكنّها نفس تساقط أنفساً
فيكون المعنى: أنّ العزّة بجميع معانيها لله تعالى.
وبين الوجهين فرق دقيق، وهو أنّ الوجه الأول فيه النص على أنّ جميع معاني العزة لله تعالى.
والوجه الثاني فيه النص على أن معاني العزة تجتمع كلها في حق الله تعالى في آن واحدٍ فلا يتخلف عنه معنى من معاني العزة، ولا تنقص عزّته في حال من الأحوال، ولا زمن من الأزمنة مهما قلّ.

- قال الفراء: (فإنها [أي: العزّة] لله جميعاً، أي كل وجهٍ من العزّة فلله).
- وقال أبو إسحاق الزجاج: ({فلله العزة جميعاً}، أي: في حال اجتماعها).
فقول الفراء مبنيّ على الوجه الأول، وقول أبي إسحاق الزجاج مبنيّ على الوجه الثاني.

معنى التعريف في العزة
في معنى التعريف في {العزة} وجهان في التفسير:
أحدهما: التعريف على معنى التمام والكمال، أي: العزة التامة لله تعالى، فتكون اللام في قوله تعالى: {فلله العزة جميعاً} مفيدة لمعنى الاختصاص، أي: العزة التامة لله تعالى لا لغيره.
والعزّة على هذا المعنى صفة من صفاته تعالى.

والوجه الآخر: التعريف للجنس، وهي هنا مفيدة للجنس الصحيح، أي: ما يصحّ أن يوصف بأنه عزّة على الحقيقة، فمن كان يريد العزة الحقيقية فهي ملك لله تعالى يهبها لمن يشاء، وتكون اللام مفيدة لمعنى المِلك.
قال الله تعالى: {سبحان ربّك ربّ العزة} أي: مالكُها، وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
وعزة الرسول صلى الله عليه وسلم وعزة المؤمنين من آثار عزّة الله تعالى، والله تعالى عزيزٌ يُعِزّ أولياءَه.
- قال أبو الحوراء السعدي: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فذكر أحاديث ثم قال: وكان يعلّمنا هذا الدعاء: ((اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت)). رواه أحمد وعبد الرزاق والطبراني في الكبير من حديث بريد بن أبي مريم السلولي عن أبي الحوراء، ورجاله ثقات.
وفي رواية عند أبي داوود والطبراني في الدعاء والبيهقي في السنن الكبرى زيادة: (ولا يعزّ من عاديت).
- وقال عبيد الله بن موسى: أخبرنا موسى بن عبيدة، عن عمر بن الحكم الأنصاري، قال: سألته: هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح الذي يقال له: مسجد الأحزاب؟
قال: لم يصلّ فيه، لكنه دعا فكان من دعائه أن قال: «اللهم لك الحمد لا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مهين لمن أكرمت، ولا مكرم لمن أهنت، ولا ناصر لمن خذلت، ولا خاذل لمن نصرت، ولا معز لمن أذللت، ولا مذل لمن أعززت، ولا رازق لمن حرمت، ولا حارم لمن رزقت، ولا مانع لمن أعطيت، ولا معطي لمن منعت، ولا رافع لمن خفضت، ولا خافض لمن رفعت، ولا ساتر لمن خرقت، ولا خارق لمن سترت، ولا مقرب لمن باعدت، ولا مباعد لمن قربت»، ثم دعا عليهم فلم يصبح في المدينة كذاب من الأحزاب، ولا من المشركين إلا أهلكه الله غير حُييّ بن أخطب، وقريظة قتلها الله وشتتها). رواه ابن أبي شيبة.
وموسى بن عبيدة الربذي لا بأس به في المغازي، وهذا خبر مرسل، وعمر بن الحكم الأنصاري تابعي من رجال الصحيحين.

أنواع العزّة المضافة إلى الله تعالى
إضافة العزّة إلى الله تعالى على معنيين:
المعنى الأول: إضافة صفة إلى موصوف، والله تعالى من أسمائه "العزيز"، وهذا الاسم الجليل يتضمّن اتصاف الله تعالى بالعزّة المطلقة.
وهذه العزّة لا يشابهه فيها أحدٌ من خلقه، كما لا يشابهه شيء في أيّ صفة من صفاته تعالى، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} بل نسبة عزّة المخلوقات كلّها ولو اجتمعت إلى عزّة الله تعالى كنسبة علمهم إلى علمه جلّ وعلا، وقدرتهم إلى قدرته.
والمعنى الثاني: إضافة مملوكٍ إلى مالكه، فالله تعالى هو ربّ العزّة؛ المتصرّف فيها؛ فيعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء، ويعطي كلّ مخلوقٍ نصيبه الذي قدّره له من العزّة.

- قال ابن القيّم رحمه الله: (والعزَّةُ كلُّها له [سبحانه ] وَصْفاً وَمِلكاً، وهو العزيز الذي لا شيءَ أعزُّ منه، ومَنْ عَزَّ منْ عبادِهِ فبإعزازه له).
قوله: (وصفاً ومِلكاً) ينتظم المعنين الأول والثاني.

معنى اللام في قوله تعالى: {فلله}
اللام قد تكون للملك وقد تكون للاختصاص.
فعلى المعنى الأول: جميع معاني العزّة لا يملكها إلا الله؛ فهو ربّ العزّة؛ الذي يعزّ من يشاء ويذل من يشاء.
وعلى المعنى الثاني: لا تكون العزة إلا لله تعالى؛ فهو العزيز الذي لا أعزّ منه، وتكون العزّة على هذا المعنى صفة من صفاته تعالى.

فائدة تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {فلله العزّة جميعاً}
تقديم الجارّ والمجرور في قوله تعالى: {فلله العزة جميعا} لإفادة الحصر، على المعنيين المتقدمين، فلا يملك العزّة إلا الله تعالى، ولا يتّصف بالعزة التامة إلا الله تعالى.

جواب الشرط في الآية
جواب الشرط في الآية محذوف، وأما قوله تعالى: {فلله العزة جميعاً} فهو دليل الجواب.
وجواب الشرط إذا حذف وأقيم مكانه دليل الجواب جاز تعدّد تقدير جواب الشرط بما يوافق دليل الجواب؛ فتكون المعاني المدلول عليها بدليل الجواب صالحة للتقدير، ولذلك احتمل جواب الشرط هنا أن يقدّر بأوجه عدة:
الوجه الأول: من كان يريد نيل العزّة فليتعزز بطاعة الله؛ {فلله العزّة جميعاً}، وهذا يقتضي أنه لا يفوت طالب العزة معنى من معانيها، ولا وجه من أوجهها يتأتّى له أن يناله بغير طاعة الله.
والوجه الثاني: من كان يعبد غير الله ليكون له عزّاً فقد أخطأ سبيل طلب العزّة {فلله العزّة جميعاً} ولا تنال إلا بما أرشد إليه.
والوجه الثالث: من كان يريد العزّة ويسأل عمّن يملكها {فلله العزّة جميعاً} هو الذي له العزّة التامة، وهو الذي يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء.


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 2 ذو القعدة 1443هـ/1-06-2022م, 06:41 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب}

مرجع الضمير في قوله تعالى: {إليه}
مرجع الضمير في قوله تعالى: {إليه} أي: إلى الله، لا خلاف بين المفسرين في ذلك.

الفرق بين "يصعد" و"يرفع"
قال الله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه} فذكر الصعود والرفع؛ ووضع كلّ لفظ موضعه الأليق به، فلما كان مرجع الضمير في قوله تعالى: {إليه} يعود إليه جلّ وعلا، وهو العليّ الأعلى كان الأنسب استعمال لفظ الصعود لأنه ارتقاء إلى العلوّ، وأسند فعل الصعود إلى "الكلم الطيب"، فدلّ على عنايته تعالى به، وتشريفه لأصحاب الكلم الطيب بأن جعل كلامهم يصعد إليه.
وصعود الكلم الطيب إلى الله تعالى يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تتمثل الكلمات الطيبات أجراماً تصعد إلى الله تعالى، كما ورد في الحديث.
- قال أبو عيسى موسى بن مسلم الطحان: حدثني عون بن عبد الله، عن أبيه أو عن أخيه، عن النعمان بن بشير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الذي تذكرون من جلال الله، وتسبيحه، وتحميده، وتهليله يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدويّ النحل، يذكّرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شيء يذكر به؟!!)). رواه أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة، والحاكم.
والآخر: أن كتبة الذكر من الملائكة تكتبها ثم تصعد بها، كما في حديث حماد بن سلمة قال:أخبرنا قتادة، وثابت، وحميد، عن أنس، أن رجلاً جاء فدخل الصف وقد حفزه النفس، فقال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: «أيكم المتكلم بالكلمات؟» فأرمَّ القوم، فقال: «أيكم المتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأساً» فقال رجل: جئت وقد حفزني النفس فقلتها، فقال: «لقد رأيت اثني عشر مَلَكاً يبتدرونها، أيّهم يرفعها». رواه مسلم.
- وقال عبد الرّحمن بن عبد اللّه المسعوديّ، عن عبد اللّه بن المخارق، عن أبيه المخارق بن سليمٍ، قال: قال لنا عبد اللّه: (إذا حدّثناكم بحديثٍ أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب اللّه، إنّ العبد المسلم إذا قال: سبحان اللّه وبحمده، الحمد للّه لا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر، تبارك اللّه، أخذهنّ ملكٌ، فجعلهنّ تحت جناحيه، ثمّ صعد بهنّ إلى السّماء، فلا يمرّ بهنّ على جمعٍ من الملائكة إلاّ استغفروا لقائلهنّ حتّى يجيء بهنّ إلى وجه الرّحمن، ثمّ قرأ عبد اللّه: {إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه}). رواه ابن جرير، والحاكم.

وقال تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} فذكر الفعل {يرفعه} هنا، وهو فعل متعدٍّ يستلزم رافعاً ومرفوعاً، ويصلح لمصدري الرَّفْع والرِّفْعَة، فالرفع للعمل، والرفعة لمقام صاحبه، وكلاهما على درجات ومراتب بحسب أحوال العباد وأعمالهم؛ فبعض العباد أرفع من بعض، وقد يصطفي الله تعالى من أعمال بعض عباده ما يشرّفهم ويقرّبهم به، وأخّر فعل "يرفعه" فكان صالحاً للدلالة على معانٍ متعددة كما سيأتي إن شاء الله.

القراءات في {الكلم الطيب}
- قال يحيى بن زياد الفرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {إليه يصعد الكلم الطّيّب} القرّاء مجتمعون على {الكلم} إلا أبا عبد الرحمن ؛ فإنه قرأ : [الكلام الطيّب]، وكلٌّ حسن، و{الكلم} أجود؛ لأنها كلمة، وكلم، وقوله: {الكلمات} في كثير من القرآن يدلّ على أن الكلم أجود، والعرب تقول كلمة وكلم، فأمّا الكلام فمصدر، وقد قال الشاعر:
مالك ترغين ولا يرغو الخَلِف ... وتضجرين والمطيّ معترف
فجمع الخَلِفَة بطرح الهاء، كما يقال: شجرة، وشجر)ا.هـ.
وأبو عبد الرحمن هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي(ت:74هـ) إمام جامع الكوفة في زمانه، ومقرئ أهلها.
لكن هذه القراءة لا أصل لها في كتب القراءات سوى ما ذكره الفراء.

المراد بالكلم الطيب
في المراد بالكلم الطيب قولان للسلف:
القول الأول: المراد كلّ كلام طيّب في العبادات والمعاملات؛ والتعريف للجنس، فيشمل كلّ ذكر لله تعالى من تهليل وتسبيح وحمد وتكبير، وتلاوة، ودعاء، وأمرٍ بالمعروف، ونهي عن المنكر، وغير ذلك، ويشمل أيضاً القول الحسن في معاملة الناس من السلام، وردّ السلام، وبذل النصيحة، والإصلاح بين الناس، وغير ذلك.
- قال معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكلمة الطيبة صدقة). رواه البخاري ومسلم.
- وقال أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن خيثمة، عن عدي بن حاتم، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار فأعرض وأشاح، ثم قال: «اتقوا النار» ثم أعرض وأشاح، حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها، ثم قال: «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة». رواه البخاري ومسلم.
وقوله: (فبكلمة طيبة) كلمة نكرة مفردة مطلقة ليس لها قيد إلا أن تكون طيبة؛ فتشمل كلّ كلمة طيبة من الذكر لله عزّ وجلّ، ومن الإحسان إلى عباده.
- قال النووي: (فيه أن الكلمة الطيبة سبب للنجاة من النار، وهي الكلمة التي فيها تطييب قلب إنسان إذا كانت مباحة أو طاعة).
- وقال عبد الله بن صالح: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه} قال: (الكلام الطّيّب: ذكر اللّه، والعمل الصّالح: أداء فرائضه؛ فمن ذكر اللّه سبحانه في أداء فرائضه، حمل عمله ذكر اللّه فصعد به إلى اللّه، ومن ذكر اللّه، ولم يؤدّ فرائضه، ردّ كلامه على عمله، فكان أولى به). رواه ابن جرير.
- وقال ابن عليّة: أخبرنا سعيدٌ الجريريّ، عن عبد اللّه بن شقيقٍ، قال: قال كعبٌ: (إنّ لسبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر، لدويًّا حول العرش كدويٍّ النّحل، يذكّرن بصاحبهنّ، والعمل يرفعه في الخزائن). رواه ابن جرير.

القول الثاني: الكلم الطيب هو التوحيد، وهو قول السدي، ويحيى بن سلام البصري.
- قال يحيى بن سلام البصري: (قال السّدّيّ: {إليه يصعد الكلم الطّيّب}، يعني: الكلام الحسن، يعني: شهادة أن لا إله إلا اللّه).
- وقال يحيى بن سلام البصري: (قوله عزّ وجلّ: {إليه يصعد الكلم الطيّب} التّوحيد).
- وقال أبو إسحاق الزجاج: (ثم بين كيف يعزّ باللّه؛ فقال:{إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه}
أي: إليه يصل الكلم الذي هو توحيد اللّه، وهو قول لا إله إلا اللّه).


مرجع الضمير في قوله تعالى: {يرفعه}
اختلف في مرجع الضمير في قوله تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} على أقوال:
القول الأول: يرجع إلى الكلم الطيب، أي: العملُ الصالح يرفع الكلمَ الطيب.
وهو قول مجاهد، والضحاك، والحسن البصري، وشهر بن حوشب، ورواية عن قتادة، وروي عن ابن عباس.
- قال عبد الله بن صالح: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه} قال: (الكلام الطّيّب: ذكر اللّه، والعمل الصّالح: أداء فرائضه؛ فمن ذكر اللّه سبحانه في أداء فرائضه، حمل عمله ذكر اللّه فصعد به إلى اللّه، ومن ذكر اللّه، ولم يؤدّ فرائضه، ردّ كلامه على عمله، فكان أولى به). رواه ابن جرير، وأبو جعفر النحاس.
- وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه} قال: (العمل الصّالح يرفع الكلامَ الطيّب). رواه ابن جرير.
- وقال أبو سنانٍ الشيباني: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} قال: (العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله). رواه ابن المبارك في الزهد، وسعيد بن منصور في سننه.
- وقال معمر عن الحسن في قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} قال: (العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله).
قال: (فإذا كان كلامٌ طيب وعمل سيئ رُدَّ القول على العمل، وكان عملك ألحقَ بك من قولك). رواه عبد الرزاق.
- وقال يزيد بن زريع: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه} قال: قال الحسن وقتادة: (لا يقبل اللّه قولاً إلا بعملٍ، من قال وأحسن العمل قَبِلَ الله منه). رواه ابن جرير.
- وقال سفيان بن عيينة، عن ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب، في قوله عزّ وجلّ: {إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه}، قال: (العمل الصالح يرفع الكلام الطيب). رواه سعيد بن منصور، وابن جرير.
- وقال يحيى بن زياد الفراء: (وقوله: {والعمل الصّالح يرفعه}: أي: يرفع الكلم الطيّب، يقول: يُتقبّل الكلام الطيّب إذا كان معه عمل صالح).
- وقال ابن جرير: (وقوله: {إليه يصعد الكلم الطّيّب} يقول تعالى ذكره: إلى اللّه يصعد ذكر العبد إيّاه وثناؤه عليه {والعمل الصّالح يرفعه} يقول: ويرفع ذكر العبد ربّه إليه عمله الصّالح، وهو العمل بطاعته، وأداء فرائضه، والانتهاء إلى ما أمر به).

القول الثاني: يرجع إلى الله، أي: إلى الله يصعد الكلم الطيب، وهو يرفع العمل الصالح.
وهو قول قتادة، ورجّحه ابن عطية.
- وقال معمر: قال قتادة: {والعمل الصلح} قال: (يرفع الله العمل الصالح لصاحبه). رواه عبد الرزاق.
- قال أبو جعفر النحاس: (قول قتادة ليس ببعيد في المعنى؛ لأن الله عزَّ وجلَّ يرفع الأعمال).
- وقال يحيى بن زياد الفراء: (ولو قيل: {والعمل الصّالح} بالنصب على معنى: يرفع الله العمل الصّالح، فيكون المعنى: يرفع الله {العمل الصّالح}، ويجوز على هذا المعنى الرفع، كما جاز النصب لمكان الواو في أوّله).
- وقال ابن عطية: (وقال بعضهم: الفعل مسند إلى الله تعالى، أي: والعمل الصالح يرفعه هو، وهذا أرجح الأقوال).

القول الثالث: يرجع إلى الكلم الطيب، وفاعل يرفعه هو الكلم الطيب، أي: العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب.
وتحصيل المعنى: أن الكلم الطيب يصعد إلى الله تعالى، ويرفع العمل الصالح للعبد.
وهذا القول قال به السدي، ويحيى بن سلام البصري، وهو رواية عن الحسن البصري، وذكره غير واحد من المفسرين.
ويشهد لهذا القول قول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}
وإذا أصلح الله عمل عبدٍ رفعه إليه، ورفع العمل أمارة على قبوله.

- قال يحيى بن سلام البصري: المبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: {إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصّالح يرفعه} قال: (العمل الصّالح يرفعه الكلم الطيّب).
- وقال يحيى بن سلام البصري: (خالدٌ، عن الحسن، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يقبل اللّه عمل قومٍ حتّى يرضى قوله»).
- وقال يحيى بن سلام البصري: قال السّدّيّ: {إليه يصعد الكلم الطّيّب}، يعني: الكلام الحسن، يعني: شهادة أن لا إله إلا اللّه {والعمل الصّالح يرفعه}، يعني: (وبه يقبل العمل الصّالح، وإلا رُدّ القول على العمل).
- وقال يحيى بن سلام البصري: (قوله عزّ وجلّ: {إليه يصعد الكلم الطيّب} التّوحيد.
{والعمل الصّالح يرفعه} التّوحيد، لا يرتفع العمل إلا بالتّوحيد، كقوله: {وسعى لها سعيها وهو مؤمنٌ فأولئك كان سعيهم مشكورًا}).

- وقال أبو إسحاق الزجاج:({إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه} أي: إليه يصل الكلم الذي هو توحيد اللّه، وهو قول لا إله إلا اللّه، والعمل الصالح يرفعه.
المعنى: إذا وحّد اللّه، وعمل بطاعته ارتفع ذلك إلى اللّه، واللّه عزّ وجل يرتفع إليه كل شيء، ويعلم كل شيء).

- قال ابن عطية: (قال قوم: الفاعل بـ"يرفع" هو "الكلم"، أي: والعمل يرفعه الكلم، وهو قول: "لا إله إلا الله"; لأنه لا يرتفع عمل إلا بتوحيد).
- وقال ابن القيم: (فلا ريب أن هذه الكلمة [يريد كلمة التوحيد] من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت؛ فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى، وهذه الكلمة الطيبة تثمر أكلها كثيراً طيباً يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب، كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملاً صالحاً كل وقت)ا.هـ.

وقد لخّص أبو إسحاق الزجاج هذه الأقوال الثلاثة فقال: (والضمير في {يرفعه} يجوز أن يكون أحد ثلاثة أشياء، وذلك قول أهل اللغة جميعاً:
- فيكون: والعملُ الصالحُ يرفعُ الكلمَ الطيبَ.
- ويجوز أن يكون: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، أي: لا يقبل العمل الصالح إلا من موحّد.
- والقول الثالث: أن يرفعه الله عزّ وجلّ)ا.هـ.

معنى الواو في قوله تعالى: {والعمل الصالح يرفعه}
الواو هنا تحتمل ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول: أن تكون عاطفة، أي: إليه تعالى يصعد الكلم الطيب ويصعد العمل الصالح وهو يرفعه.
والمعنى الثاني: أن تكون استئنافية، أي: إليه يصعد الكلم الطيب، ثم يستأنف: والعمل الصالح يرفعه.
والمعنى الثالث: أن تكون حالية، أي: إليه يصعد إليه الكلم الطيب في حال كون العمل الصالح يرفعه.


مناسبة قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} لما قبله
- قال أبو إسحاق الزجاج:(ثم بين كيف يعزّ باللّه؛ فقال:{إليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه}).
- وقال ابن القيم رحمه الله: (وقال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} أي: من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح).


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 2 ذو القعدة 1443هـ/1-06-2022م, 11:28 PM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد}
معنى مكر السيئات
قوله تعالى: {يمكرون السيئات} اختصار بديع يجمع ثلاثة معانٍ: الأقوال السيئة، والأعمال السيئة، والمكر فيهما.
فلفظ "السيئات" صفة لموصوف محذوف، يُقدّر بما يقابله في الجملة السابقة؛ فالأقوال السيئة تقابل الكلم الطيب، والأعمال السيئة تقابل العمل الصالح، واختير لفظ "يمكرون" لأنهم يُظهرون مقاصد يستحسنها الناس ليتوصلوا بها إلى أطماع لهم فيها عزّة متوَهَّمة؛ فأمرهم قائمٌ على المكر السيء، ووعودهم كلها غرور.
- قال ابن عطية: (وقوله تعالى: {يمكرون السيئات} إما أنه عدّى {يمكرون} لما أحله محل "يكسبون"، وإما أنه حذف المفعول وأقام صفته مقامه، وتقديره: يمكرون المكرات السيئات).

والأقوال المروية عن السلف فيها تقريب للمعنى:
- قال يزيد بن زريع: حدّثني سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {والّذين يمكرون السّيّئات} (أي: يعملون السّيّئات {لهم عذابٌ شديدٌ}). رواه ابن جرير.
- وقال سفيان بن عيينة: (المكر: العمل). رواه سعيد بن منصور.
- وقال يحيى بن سلام البصري: ({والّذين يمكرون السّيّئات} يعملون السّيّئات).
- وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ({ يمكرون السّيّئات}: يكسبون ويجترحون).
- وقال ابن جرير: (وقوله: {والّذين يمكرون السّيّئات} يقول تعالى ذكره: والّذين يكسبون السّيّئات ويعملون بها).
- وقال ابن عطية:{يمكرون} معناه: يتخابثون ويخدعون وهم يظهرون أنهم لا يفعلون).

المراد بالذين يمكرون السيئات
في المراد بالذين يمكرون السيئات أقول للمفسرين:
القول الأول: هم أهل الرياء، وهو قول مجاهد، وشهر بن حوشب، وهو تفسير بالمثال؛ فالمراؤون يُرون الناس أنهم يعملون لله تعالى وهم إنما يريدون مقاصد دنيوية بأعمالهم؛ وهو مثال جليّ على المكر بالأعمال.
- قال ابن المبارك: أخبرنا أبو سنان الشيباني أنه بلغه عن مجاهد، في قوله: {والذين يمكرون السيئات لهم عذابٌ شديدٌ ومكر أولئك هو يبور} قال: الرياء)
- وقال سعيد بن منصور: حدّثنا ابن المبارك، عن أبي سنان، قال: قال مجاهد: {والّذين يمكرون السّيّئات}، قال: أصحاب الرياء.
- وقال أبو جعفر النحاس: (وروى قيس، عن منصور، عن مجاهد: {ومكر أولئك هو يبور} قال: الرياء).
- وقال سعيد بن منصور: حدّثنا سفيان، عن ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب، في قوله عزّ وجلّ: {والّذين يمكرون السّيّئات}، قال: (الذين يراؤون).
- وقال سفيان بن عيينة، عن ليث بن أبي سليمٍ، عن شهر بن حوشبٍ {ومكر أولئك هو يبور} قال: (هم أصحاب الرّياء). رواه ابن جرير.
- وقال سهل بن أبي عامرٍ: حدّثنا جعفرٌ الأحمر، عن شهر بن حوشبٍ، في قوله {ومكر أولئك هو يبور} قال: (هم أصحاب الرّياء). رواه ابن جرير.
- قال ابن كثير: (يعني: يمكرون بالنّاس، يوهمون أنّهم في طاعة الله، وهم بُغَضاء إلى الله عزّ وجل، يراؤون بأعمالهم، {ولا يذكرون اللّه إلا قليلا}).

القول الثاني: هم أهل الشرك، وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ويحيى بن سلام البصري، وهو تفسير بالمثال أيضاً، فإنّ أمر المشركين قائم على المكر السيء، ولا يمكن أن يتحقق لهم بالشرك بالله تعالى مقصد حسن.
- وقال ابن وهبٍ: قال ابن زيدٍ، في قوله: {والّذين يمكرون السّيّئات لهم عذابٌ شديدٌ} قال: (هؤلاء أهل الشّرك). رواه ابن جرير.
- قال يحيى بن سلام البصري: ({والّذين يمكرون السّيّئات} يعملون {السّيّئات}: الشّرك).

القول الثالث: الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج، وأبو جعفر النحاس، وهو تفسير بمثال خاص.
- قال أبو إسحاق الزجاج: ({والّذين يمكرون السّيّئات لهم عذاب شديد}: المعنى مكر الذين يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم).

- وقال أيضاً: (وقد بين ما مكرهم في سورة الأنفال، في قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك}: ففسد جميع مكرهم؛ فجعل اللّه كلمة نبيّه وأوليائه العليا، وأيديهم العالية بالنصر والحجة).
- وقال أبو جعفر النحاس: (وقد بيّن الله جلَّ وعزَّ هذا المكرَ في قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك}).

والصحيح أنّ الآية تعمّ المشركين والمنافقين ومن شابههم في مكر السيئات، ولم يسلم من مشابهتهم إلا الذين جمعوا الكلم الطيب والعمل الصالح.
- قال ابن عطية: (وقال بعض المفسرين: يدخل في الآية أهل الرياء، ونزول الآية أولاً في المشركين).
- وقال ابن كثير: (والصّحيح أنّها عامّةٌ، والمشركون داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال: {لهم عذابٌ شديدٌ ومكر أولئك هو يبور}، أي: يفسد ويبطل، ويظهر زيفهم عن قريبٍ لأولي البصائر والنّهى، فإنّه ما أسرَّ عبدٌ سريرةً إلّا أبداها اللّه على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسرّ أحدٌ سريرةً إلّا كساه اللّه رداءها، إن خيرًا فخيرٌ، وإنّ شرًّا فشرٌّ؛ فالمرائي لا يروج أمره ويستمرّ إلّا على غبيٍّ، أمّا المؤمنون المتفرّسون فلا يروج ذلك عليهم، بل يكشف لهم عن قريبٍ، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافيةٌ).

معنى التعريف بالاسم الموصول
التعريف بالاسم الموصول في قوله تعالى: {والذين يمكرون السيئات} فيه فوائد:
أحدها: تعيين المعرَّف بأوصاف تعمّ كلّ من يتّصف بها.
والثاني: صلاحية جملة صلة الموصول للإتيان بالفعل المضارع {يمكرون} الذي يفيد التجدد.
والثالث: إفادة معنى التهديد لأصحاب المكر السيء بضميمة دلالة السياق.
والرابع: إفادة معنى التبشير للمؤمنين وأنّ الله تعالى محيط بأعدائهم، وعالم بمقاصدهم وأحوالهم، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.

معنى قوله تعالى: {لهم عذاب شديد}
- قال ابن جرير: ({لهم عذابٌ شديدٌ} بمعنى أنّ لهم عذاب جهنّم).
- وقال يحيى بن سلام البصري: ({لهم عذابٌ شديدٌ} جهنّم).
والصواب أنّ العذاب الشديد مطلق غير مقيد، وهم مستحقون للعذاب الشديد في الدنيا والآخرة.
ودلّت دلالة الإيماء الجلي على أنّهم مستحقون للعذاب الأليم بسبب مكرهم السيئات، فهم من حين شروعهم في المكر داخلون في هذا الوعيد ما لم يتوبوا إلى الله تعالى، وينتهوا عن مكر السيئات، ويسلكوا سبيل أهل الإيمان والعمل الصالح.


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 3 ذو القعدة 1443هـ/2-06-2022م, 03:15 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

تفسير قول الله تعالى: {ومكر أولئك هو يبور}
معنى التعريف بأولئك
التعريف بأولئك لاسم الإشارة البعيد، يفيد معنى إبعادهم، وهو مقابل لتقريب أصحاب الكلم الطيب والعمل الصالح.

معنى {يبور}
{يبور} يجمع ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول: يفسد، ويبطل.
ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
كل دين يوم القيامة عند ... الله إلا دين الحنيفة بور
أي: دين باطل.
والمعنى الثاني: يكسد فلا ينتفع به صاحبه، ومن يقال: بارت السلعة إذا كسدت ولم يُرغب بها.
قال الكسائي: ومنه الحديث: «أنه كان يتعوذ من بوار الأيّم»، وذلك أن تكسد فلا تجد زوجاً، ذكره ابن فارس في مقاييس اللغة.
والمعنى الثالث: يهلك فلا يبقى فيه خير، ومنه يقال للأرض الذي لا نبت فيها: أرض بور.

فمكر أولئك المجرمين المبعدين بائر بالمعاني المتقدمة كلّها؛ فهو مكر فاسد باطل، وكاسد لا يُقبل عند الله، ولا ينتفع به صاحبه، وهالك لا خير فيه.
والإتيان بالفعل المضارع لإفادة التجدد، وأنّ هذا حكم كلّ مكر سيء إلى أن تقوم الساعة.

وأقوال السلف في تفسير هذه الآية لا تخرج عن هذه المعاني:
- قال معمر عن قتادة في قوله: {هو يبور} قال: (يفسد). رواه عبد الرزاق.
- وقال يزيد بن زريع: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة {ومكر أولئك هو يبور} (أي: يفسد). رواه ابن جرير.
- وقال ابن وهبٍ: قال ابن زيدٍ، في قوله: {ومكر أولئك هو يبور} قال: (بار فلم ينفعهم، ولم ينتفعوا به، وضرّهم). رواه ابن جرير.
- وقال يحيى بن سلام البصري: ({ومكر أولئك} أي: وعمل أولئك، {هو يبور} هو يفسد عند اللّه، لا يقبل اللّه الشّرك، ولا ما يعمل المشرك من العمل الصّالح، ولا يقبل العمل إلا من المؤمن).
- وقال ابن جرير: (وقوله: {ومكر أولئك هو يبور} يقول: (وعمل هؤلاء المشركين يبور، فيبطل فيذهب، لأنّه لم يكن للّه، فلم ينفع عامله).
- وقال ابن قتيبة: ({ومكر أولئك هو يبور}: أي: يبطل).
- وقال أبو إسحاق الزجاج: ({هو يبور}: أي : يفسد).
- وقال أبو عمر الزاهد: ({يبور}: أي: يهلك، ويفنى).
- وقال ابن عطية: (و"يبور" معناه: يفسد ويبقى لا نفع فيه).

فائدة التخصيص بـ{هو}
التخصيص بـ{هو} لإفادة الحصر والتأكيد على بواره، وليخرج من هذا الحكم كلّ مكر حسن يحتاج إليه أهل الإيمان.
وأن ما يصدر من المؤمن من قول طيب وعمل صالح لا يبور عند الله، بل هو كريم على الله، مرضيّ عنده، يصعد إليه ويرتفع عنده ويذكّر بصاحبه، ولا يضيع عند الله تعالى من ذلك شيء، قال الله تعالى: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} و{عملاً} نكرة في سياق النفي فتعمّ كلّ عمل مهما قلّ، وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)}
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 3 ذو القعدة 1443هـ/2-06-2022م, 03:16 AM
عبد العزيز الداخل عبد العزيز الداخل غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 13,456
افتراضي

الفوائد السلوكية
في هذه الآية الكريمة فوائد سلوكية جليلة منها:
1: بيان معنى العزّة الحقيقية.
2: بيان أنّ العزة لله جميعاً، وما يقتضي الإيمان بذلك من آثار عظيمة على قلب المؤمن وسلوكه.
3: أنّ إرادة العزّة محمودة إذا أريد بها المعنى الذي يحبّه الله، وسُلك سبيلها الذي أرشد الله إليه.
4: أنه لا بدّ في الإيمان من قول وعمل، وأنّ القول الطيب لا ينفع بغير عمل صالح، كما لا ينفع العمل الصالح إذا لم يكن قائماً على الكلم الطيب.
- قال عبيد الله بن موسى الكوفي: أخبرنا أبو بشر الحلبي، عن الحسن البصري قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، من قال حسنا وعمل غير صالح رده الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل، ذلك بأن الله تعالى قال: {إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه}). رواه ابن بطة العكبري في الإبانة، والبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب البغدادي في "اقتضاء العلم العمل".
5. أنّ الإنسان بطبعه همّام وحارث؛ يطلب العزّة لنفسه بما يناسب حاله؛ فمن أراد العزّة المحمودة وسلك سبيلها المشروع وفّق لها، ويسّرها الله له، ومن مكر مكراً سيئاً ليعزّ به نفسه فيما يرى فإنما يمكر بنفسه، ويسعى في مذلتها وهوانها.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من أذلَّ نفسه لله فقد أعزَّها، ومن بذل الحقَّ من نفسه فقد أكرم نفسه؛ فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن اعتز بالظلم مِنْ منع الحق وفعل الإثم؛ فقد أذلَّ نفسه وأهانها، قال الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} وقال تعالى عن المنافقين: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}).
6. أن المؤمنين يقع بينهم تفاضل في تصوّر معنى العزّة التي يحبّها الله، وتفاضل في سلوك سبيلها، فَهُم على مراتب بحسب تفاضلهم في إرادة معنى العزة، وتفاضلهم في طاعة الله تعالى بالكلم الطيب، والعمل الصالح.
- قال ابن القيم رحمه الله: (وقد جعل الله سبحانه العزَّ قرين طاعته، والذلَّ قرين معصيته؛ فقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وقال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين}.
والايمان قول وعمل، ظاهر وباطن، وقال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} أي من كان يريد العزة فيطلبها بطاعة الله وذِكْرِه من الكلم الطيب والعمل الصالح، وفي دعاء القنوت: ((إنَّه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت)).
ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العزّ بحسب طاعته، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وله من الذل بحسب معصيته).
7. أنّ مكر السيئات لطلب العلو في الأرض والفساد فيها مما يمقته الله تعالى ويتوعّد مرتكبيه، وأنّه لا يثمر لأصحابه إلا المقت والبوار، وأنّ ما يكون لهم من متاع ظاهر إنما هو استدراج ليزدادوا إثماً وعذاباً مهيناً.
8. البون الشاسع في الحال والمآل بين المؤمنين أصحاب الكلم الطيب والعمل الصالح، وبين الكفار والمنافقين أصحاب المكر السيء والعمل البائر؛ فلا يستوون عند الله.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهو سبحانه {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، وهو طيب لا يقبل إلا طيباً، وهو نظيف يحب النظافة، وجميل يحب الجمال، وليس كل ما خلقه يصعد إليه، ويكون طيباً محبوباً له مرضياً عنده، بل إنما يسكن في جنته من يناسبها ويصلح لها، قال تعالى: {طبتم فادخلوها خالدين}).

9. أنّ المكر منه سيء وحسن؛ فالمذموم منه هو المكر السيء، وأما المكر الحسن الذي ليس فيه بغي ولا عدوان، وله مقصد صالح كنصرة مظلوم، واستنقاذ حقّ، وحفظ أمانة، ومداراة لظالمٍ اتقاء شرّه، ونحو ذلك مما قد يحتاجه بعض المؤمنين؛ فليس من المكر السيء في شيء، بل هو مكر حسن، وعمل صالح عند الحاجة إليه لا يبور، وإنما الذي يبور هو مكر أولئك المجرمين الظالمين.



رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رسالة, في

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:01 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir