تفسير قول الله تعالى: {مثل نوره}
● معنى {مثل}
مَثَل أي وصف، كما في قول الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}
فقوله تعالى: {مَثَل نوره} أي: وصف نوره.
● معنى الإضافة في قول الله تعالى: {مثل نوره}
إضافة "مثل" إلى "نور" إضافة حقيقية معنوية تفيد الاختصاص.
وإضافة النور إلى الضمير العائد إلى الله جلّ وعلا إضافة تشريف، لأنه نورٌ منَ الله هدى له من شاء من عباده فأبصروا به الحق.
● بيان أثر اختلاف درجات الأنوار
مما ينبغي أن يُعلم ولا يُجهل أن النور على درجات كثيرة متفاوتة تفاوتاً عظيماً، وليس كلّ نور يمكن للناس أن يبصروه بأبصارهم، بل ما لا يبلغون إبصارَه من النور أكثر وأعظم، ولولا أنّ الله تعالى خلق النهار يجلّي الشمس لما أمكن لنا رؤية ضيائها كما قال الله تعالى: {والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها} أي: جلَّى الشمسَ، قال قتادة: ({والنهار إذا جلاها}: إذا غشيها النهار). رواه ابن جرير.
- وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}.
- وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)}
- وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)}.
- وقال تعالى: { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}.
- وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)}.
فالليل والنهار مخلوقان مسخّران، واختلافهما تعاقبهما، أي يخلف أحدهما الآخر بتقدير من الله تعالى، {والله يقدّر الليل والنهار}، ومن ذلك تقدير تنقّل النهار في مساره في أوقات محددة ليجلّي الشمس بإذن الله تعالى بمقدارٍ يُلائم حياة الكائنات في الأرض، ولو شاء الله لجعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة، لكنه من رحمته يولج النهار في الليل، ويولج الليل في النهار؛ فتقوم بهاتين الآيتين المسخّرتين مصالح عظيمة للناس والأنعام في هذه الأرض.
وما لا يجليه النهار من درجات أنوار الشمس، ومن أنوار الكواكب الأخرى أعظم وأكثر، ولذلك فإنَّ من جاوز ما يُعرف بالغلاف الجوي لا يرى إلا ظلاماً، وذلك بسبب عدم قدرته على إبصار ما في الكون الفسيح من الأنوار، كما أنّ الأعمى لا يستطيع رؤية الشمس في رابعة النهار لعدم وجود ما يمكّنه من الرؤية.
فوجود النور في الأجسام المنيرة غير كافٍ ليبصره الناظر، بل لا بد معه مما يمكّن الناظر من إبصار ذلك النور.
والمقصود أنّ مجال إبصار الناس محدود، وأنّ عدم رؤيتهم لكثير من أنواع الأنوار لا ينفي وجودها.
ومن ذلك ما يكون في بعض الأرواح من النور، وقد قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)}
فهذا نورٌ جعله الله لروح المؤمن يبصر به الحق، ويمشي به في الناس، ويسلك به الصراط المستقيم، وهو نور لا تبصره العيون، يتفاضل فيه المؤمنون، ولو خلق الله للناس آلة يبصرون بها أنوار الأرواح لأبصر كل واحد مقدار ما في الآخرين من النور والظلمة.
- قال هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما خلق الله آدم مسح ظهره؛ فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كلّ إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم؛ فقال: أي ربّ! من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيصُ ما بين عينيه؛ فقال: أي رب من هذا؟
فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود.
فقال: ربّ كم جعلت عمره؟
قال: ستين سنة.
قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة.
فلما قضي عمر آدم جاءَه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟
قال: أولم تعطها ابنك داود؟
قال: ((فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته)). رواه الترمذي، والبزار، وأبو يعلى، وغيرهم.
- وفي رواية عند الترمذي وابن خزيمة وغيرهما من طريق الحارث بن عبد الرحمن ابن أبي ذباب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً: (فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت؛ قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها؛ فإذا فيها آدم وذريته؛ فقال: أي رب ما هؤلاء؟
فقال: هؤلاء ذريتك.
فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه؛ فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم؛ قال يا رب: من هذا؟
قال: هذا ابنك داود). وساق الحديث بنحوه.
فدلّ هذا الحديث على أنّ للأرواح أنواراً، وأنها تتفاضل في الإنارة لتفاضل أسباب تلك الإنارة من الإيمان، والتقوى، والعلم، والعبادة، وإحسان الذكر وكثرته.
● بيان نور قلوب المؤمنين
مما دلّت عليه النصوص أنّ القلوب تنير وتظلم، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله أن يجعل في قلبه نوراً.
- قال سلمة بن كهيل، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً». رواه البخاري ومسلم.
ومن المعلوم أن الإنسان مخلوق من جسد وروح، وأنّ كلّ عضو من أعضاء الجسد له حياة مستمدّة من تلك الروح، ولذلك كانت أعمال الأعضاء على نوعين:
1: نوع من شأن الجسد كقبض اليد، ومشي الرجل، ونظر العين، وسماع الأذن، ونبض القلب، وغير ذلك.
2: ونوع من شأن الروح: كتصديق القلب وعَقله وإدراكه، وأعمال القلب من الحبّ والبغض، والخوف والرجاء، والألفة والنفور، والتمني والتشهّي، وغيرها كثير.
وإذا انقطع اتصال الروح بأيّ عضو من أعضاء الجسد مات ذلك العضو؛ فلم تكن له قدرة على القيام بشيء من خصائص الروح من الإحساس والاستجابة والنمو وغيرها.
والبدن مقترن بالروح؛ فلا يحصل للبدن عمل اختياري إلا بالروح، وهذا أمر ظاهر.
- وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وغيرهما من حديث أبي الصهباء، عن سعيد بن جبير، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان؛ فتقول: "اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا")).
فهذا إخبار عن أمر غيبي يدلّ على صلة كلّ عضو من أعضاء الجسد بالروح؛ فإنّ هذه الأعضاء كلها تتكلّم بكلام لا تسمعه الأذن، والكلام من شأن الأرواح، فإنّ الميت لا يتكلّم.
ومعنى قوله: (تكفّر اللسان) أي تحرّج عليه، وتنقاد له.
والقلب من حيث كونه عضواً جسدياً محضاً ليس له قدرة على القيام بأعمال الإدراك والتصديق والإرادة والحب والبغض والتمني وغيرها من الأعمال التي هي من شأن الروح، وقد دلّت النصوص على أنّ محلّ ذلك هو القلب.
فتبيّن بذلك أنّها من شأن القلب الذي فيه روح، كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ومن المعلوم المتقرر أن صلاح القلب إنما هو بالإيمان والعمل الصالح، وهما قائمان على صحة الإدراك، وصلاح الإرادة.
فبصحة الإدراك يكون التصديق صحيحاً موافقاً للحق.
وبصلاح الإرادة تستقيم الجوارح على عمل الطاعات.
والإدراك والإرادة من شأن الروح لا من عمل الجسد.
- قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله: (يطلق القلب على معنيين:
أحدهما: أمر حسي وهو العضو اللحمي الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وفي باطنه تجويف وفي التجويف دم أسود، وهو منبع الروح.
والثاني: أمر معنوي وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية، لها بهذا العضو تعلق واختصاص، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانية) ا. هـ.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نحو هذا لكنه متفرق في كتبه، وقبلهما أبو حامد الغزالي له كلام قريب من هذا.
ولو قُدّر اختراع نظارة أو آلة تعطي من النتيجة ما تعطيه الأشعة السينية أو المقطعية أو الموجات فوق الصوتية لأبصر الإنسان من التفاصيل العجيبة في داخل جسد من ينظر إليهم من الناس ما لم يكن ليدرك إبصاره من غير هذه الآلة، ولنفذ إبصاره إلى ما وراء الجلد واللحم.
فإذا كان هذا في شأن بعض أعضاء الجسد التي يُمكن أن يوصل إليها بالجراحة أو المناظير أو غيرهما؛ وكان لا يستطيع إبصارها قبل ذلك؛ فكيف بما حُجب عن الناس رؤيته من الملائكة، والجنّ، والأرواح، والأجسام الدقيقة، وغيرها.
ومما دلّت عليه النصوص أنّ لروح المؤمن نوراً، وهذا النور لا يدركه الناس بأبصارهم، ومركزه من روح الإنسان هو قلبُه الذي هو محلّ الإيمان واليقين، ولذلك فإن الأعمال التي هي من شأن الأرواح تسند إلى القلب.
وقد دلّت النصوص أيضاً على أنّ القلوب تستنير وتظلم؛ وأنّ الجوارح تتأثر بها استنارة وظلمة، فاستنارتها بالعلم والإيمان والأعمال الصالحة، وظلمتها بالجهل والكفر والفسوق والعصيان.
ولبعض الأعمال أثر قوي في استنارة القلوب كالصبر والصلاة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصلاة بأنها نور، والصبر بأنه ضياء، كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
والذكر يجلّي القلب فيظهر نوره، وتذهب عنه غشاوة الغفلة، وجفاء القسوة، فيلين لين الخميلة، ويصفو صفاء الزجاجة، وذلك من شأن القلب الروحي.
وقد أثنى الله تعالى على داوود عليه السلام بهذه الصفات فقال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)}
فأثنى عليه بالصبر إذ جعله محلاً لاتساء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم أثنى عليه بإحسان العبادة، والقوّة فيها، وكثرة الأوب إلى الله تعالى، والذكر الحسن الكثير، وذلك من أسباب كون داوود عليه السلام من أضوإِ بني آدم وأكثرهم نوراً كما تقدّم في الحديث.
وفي الصحيحين من حديث عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس الثقفي، سمع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوماً، وأحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه».
وأنوار المؤمنين تتفاضل بتفاضل منازلهم، ومقاماتهم في العبادة، وتفاضل أعمالهم؛ فللصالحين نورٌ يتفاضل بتفاضل صلاحهم، {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم}، وللصديقين نور أعظم، وللأنبياء نور أعظم من أنوارهم جميعاً.
وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} اختلف في جملة {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم}؛ فذهب مسروق والضحاك إلى أنها مفصولة عما قبلها، وفي ذلك بيان لعظم أجر الشهداء ونورهم.
وذهب مجاهد إلى أنَّ جملة {والشهداء} تابعة لما قبلها، والأجر والنور لعموم الذين آمنوا بالله ورسله، وهم الصديقون وهم الشهداء.
والقولان صحيحان تحتملهما الآية.
- فعلى القول الأول: الواو استئنافية، والتعريف في {الشهداء} للعهد الذهني، وهم الذين قُتلوا في سبيل الله؛ فلهم أجرهم ونورهم، وهذه الإضافة تقتضي تعظيم أجرهم وتعظيم نورهم.
- وعلى القول الثاني: الواو عاطفة، وفي ذلك بيان لسبيل الصديقية أنها إنما تنال بالإيمان بالله ورسله، والتعريف في {الشهداء} للجنس، والمراد: الذين يُستشهدون يوم القيامة، كما في قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
والله تعالى أعلم.
● أقوال المفسرين في معنى {مثل نوره}
اختلفت عبارات المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {مثل نوره} على أقوال:
القول الأول: هو نور المؤمنِ بما جعل الله في قلبه من الإيمان والقرآن، وهذا قول أبيّ بن كعب، ورواية عن ابن عباس، وسعيد بن جبير.
- قال عبيد الله بن موسى الكوفي: أخبرنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ، في قول اللّه: {مثل نوره} قال: ذكر نورَ المؤمن فقال: {مثل نوره} يقول: (مثل نور المؤمن).
قال: (وكان أبيّ يقرؤها كذلك: [مثل المؤمن] قال: (هو المؤمن قد جعل الإيمان والقرآن في صدره). رواه ابن جرير.
- وقال سنيد المصيصي: حدّثني حجّاجٌ، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ: {اللّه نور السّموات والأرض مثل نوره} قال: بدأ بنور نفسه فذكره، ثمّ قال: {مثل نوره} يقول: (مثل نور من آمن به).
قال: (وكذلك كان يقرأ أبيٌّ).
قال: (هو عبدٌ جعل اللّه القرآن والإيمان في صدره). رواه ابن جرير.
- وقال محمّد بن سعيد بن سابقٍ: حدثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع بن أنسٍ عن أبي العالية عن أبيّ بن كعبٍ في قول اللّه: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره} قال: (هو المؤمن الّذي قد جعل اللّه الإيمان والقرآن في صدره فضرب اللّه مثله؛ فقال: {اللّه نور السماوات والأرض} فبدأ بنور نفسه عزّ وجلّ ثمّ ذكر نور المؤمن فقال: [مثل نور من آمن به] قال: فكان أبيّ بن كعبٍ يقرؤها: [مثل نور من آمن به] فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره). رواه ابن أبي حاتم.
- وقال عمرو بن أبي قيس الرازي، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {اللّه نور السماوات والأرض} يقول: ({مثل نوره}: (مثل نور من آمن باللّه). رواه ابن أبي حاتم، والحاكم.
- وقال سفيان الثوري، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ: {مثل نوره} قال: (مثل نور المؤمن). رواه ابن جرير.
- وقال أبو سنان البرجمي، عن ثابت بن جأبان، عن الضّحّاك، في قوله: {مثل نوره} قال: (نور المؤمن). رواه ابن جرير.
القول الثاني: مثل القرآن في قلب المؤمن، وهو قول الحسن البصري، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن.
- قال ابن عليّة، عن أبي رجاءٍ، عن الحسن، في قوله: {مثل نوره} قال: (مثل هذا القرآن في القلب كمشكاةٍ). رواه ابن جرير.
- وقال عبد الله بن عياش: قال زيد بن أسلم في قول الله تبارك وتعالى: {الله نور السموات والأرض مثل نوره} ونوره الذي ذكر القرآن، ومَثَلُه الذي ضرب له نورٌ على نورٍ يضيء بعضُه بعضاً). رواه ابن وهب، وابن جرير.
- وقال يونس بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله تعالى: {مثل نوره}: (نور القرآن الّذي أنزل على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وعباده، هذا مثل القرآن {كمشكاةٍ فيها مصباحٌ المصباح في زجاجةٍ}).
فقرأ حتّى بلغ:{مباركةٍ} قال: (فهذا مثل القرآن يستضاء به في نوره، ويعلمونه، ويأخذون به، وهو كما هو لا ينقص، فهذا مثلٌ ضربه اللّه لنوره). رواه ابن جرير.
القول الثالث: المراد بالنور هدى الله في قلب المؤمن، وهو رواية عن ابن عباس.
- قال معاوية بن صالح، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: ({مثل نوره}: مثل هداه في قلب المؤمن). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
القول الرابع: نوره أي نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القول يُروى عن كعب الأحبار بإسناد فيه ضعف، وهو رواية عن سعيد بن جبير.
- قال محمد بن حميد الرازي: حدّثنا يعقوب القمّيّ، عن حفصٍ، عن شمرٍ، قال: جاء ابن عبّاسٍ إلى كعب الأحبار، فقال له: حدّثني عن قول اللّه، عزّ وجلّ: {اللّه نور السّموات والأرض}. الآية.
فقال كعبٌ: ({اللّه نور السّماوات والأرض مثل نوره} مثل محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، كمشكاةٍ). رواه ابن جرير.
- وقال يحيى بن اليمان العجلي، عن أشعث القمّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، في قوله: {مثل نوره} قال: (محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم). رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
فهذه أربعة أقوال لا تعارض بينها، أعمّها القول الأول وأخصّها القول الرابع، وهو تفسير بأولى الأمثلة، فإنَّ قَلْبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم خيرُ قلبٍ نزل عليه القرآن، وأضوإِ القلوب وأتمّها نوراً، وقد نصّ الله تعالى على تنزيل القرآن على قلبه في قوله تعالى: {وإنه لتنزيل ربّ العالمين . نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين}، وقال تعالى: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}.
وكلّ من اتّبع النبي صلى الله عليه وسلم من أمّته فله نصيب من النور في قلبه على قدر اتّباعه، ولا يصحّ حصر المراد بالنور في شخص النبي صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى في الآية: {يهدي الله لنوره من يشاء}.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وفي كلام طائفة من السلف أنَّ النور نورُ القرآن، وفي كلام طائفة أخرى أنه نور الإيمان، والنور يعمّهما جميعاً كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} كما أنَّ في كلام طائفة من السلف أنهم جعلوا هذا مثلاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلام الأكثرين أنه مثل لكل مؤمن، والجميع صحيح؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم سيّدهم وإمامهم).
والإضافة في قوله تعالى: {مثل نوره} إضافة تشريف باعتبار أن مصدره من الله؛ فهو نور نشأ في قلب المؤمن بإذن الله تعالى وتوفيقه وهداه.
ويصح أن يضاف إلى المؤمن باعتبار أنه محلٌّ لذلك النور.
وهذا كما يصح أن يضاف الرسول إلى من أرسله وإلى من أُرسل إليه.
فتقول: محمد رسول الله ، وتقول: هو رسولنا ؛ لاختلاف الاعتبار في الإضافتين، وكلتاهما صوابٌ، وقد وردتا في القرآن.
وهذا الحرف من الآية كتب في المصاحف هكذا: {مثل نوره} والضمير عائدٌ إلى الله جلّ وعلا، وهي القراءة المشهورة، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس أنهما كان يقرآنها: [ مثل نور من آمن به ] ولعلها مما نسخت تلاوته، أو تركت القراءة به في المصاحف العثمانية.
ولا خلاف بين المفسرين أن النور المراد في قول الله تعالى: {مثل نوره} ليس هو نور ذات الله جلّ وعلا، فنور ذات الله تعالى ليس كمثله شيء من الأنوار، ولا يبلغ من في الأرض أن يحتملوا رؤيته.
ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربّك؟
قال: ((نور أنّى أراه)). رواه أحمد ومسلم من حديث قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر رضي الله عنه.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ضرب الله مثلا للمؤمن الذي جعل صدره كالمشكاة، وقلبه كالزجاجة في المشكاة، ونور الإيمان الذي في قلبه - وهو نور الله - كالمصباح الذي في الزجاجة، وذلك النور الذي في قلبه ليس هو نفس صفة الله القائمة به).