الإسرائيليات في التفسير
مما تدعو الحاجة لبيانه عند الحديث عن معالم التفسير في القرون الأولى ما يتعلق برواية الإسرائيليات ودخولها في التفسير.
والمراد بالإسرائيليات أخبار بني إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
وأخبار بني إسرائيل على مراتب وأنواع:
فمنها: ما قصّه الله في كتابه من أخبارهم وما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع حقّ يجب التصديق به، لأنه منه خبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: ما قصّه بعض أحبار أهل الكتاب على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فموقفنا منه هو ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم تجاهه؛ فما أقرَّه صدّقنا به، وما كذَّبه كذَّبناه، وما توقّف فيه توقّفنا فيه، ولكل ذلك أمثلة مبسوطة في مواضعها.
ومنها: ما كان يقصّه بعض الصحابة رضي الله عنهم من أخبار بني إسرائيل، ومنهم: عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهؤلاء ممن قرأوا كتب أهل الكتاب، ومنهم من كان من الأحبار ثم أسلم، وما صحّ عنهم فهو أمثل من كثير مما أتى بعدهم.
ومنها: ما قصّه بعض التابعين وتابعو التابعين ممن قرأوا كتب أهل الكتاب، ومنهم: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وربيعة الجرشي، وهلال الهجري، وأبو الجلد جيلان بن فروة الأسدي، ونوف بن فضالة البكالي وهو ابن امرأة كعب الأحبار، وتبيع بن عامر الحميري، ومغيث بن سُمي الأوزاعي، وغيرهم، وما صحّ عن هؤلاء فهو من جياد الإسرائيليات وإن كان قد يقع في بعض أخبارهم أخطاء نبّه على بعضها من هو أعلم منهم، كما رُوي أنّ عبد الله بن سلام كان يردّ على بعض ما يذكره كعب الأحبار، وكان عبد الله بن سلام أعلم منه وأمكن.
لكن وقع الخلل الأكبر من جهة الرواة عن هؤلاء وأضرابهم، فقد ابتلي بعضهم برواة ضعفاء، وبعضهم برواة متّهمين بالكذب، فلذلك لا تُعامل مرويات الكذابين معاملة ما صحّ من الإسرائيليات عن هؤلاء العلماء.
ومن رواة الإسرائيليات المتّهمين بالكذب: محمد بن السائب الكلبي، ومقاتل بن سليمان البلخي، وأبو الجارود زياد بن المنذر، وموسى بن عبد الرحمن الثقفي، وعبد المنعم بن إدريس اليماني ابن بنت وهب بن منبّه.
وقد تجنّب ابن جرير وابن أبي حاتم الرواية عن هؤلاء، وكانت رواياتهم مشهورة في زمانهم، وما رواه ابن جرير عن الكلبي وأبي الجارود فإنما هي مرويات قليلة جداً انتقاها. وأكثرها في نقل الأقوال لا في الإسرائيليات.
وإنما كثرت الرواية عن هؤلاء في الكتب المتأخرة كتفاسير ابن شاهين والثعلبي والماوردي والواحدي وأضرابهم.
وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في التحديث عن بني إسرائيل، ونهى عن تصديقهم وتكذيبهم.
- ففي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد من طريق حسان بن عطية، عن أبي كبشة، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار».
- وفي صحيح البخاري من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: {آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم} » الآية).
- وروى البخاري في صحيحه من طريق ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث، تقرؤونه محضاً لم يُشَبْ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم "
- وروى عبد الرزاق في مصنفه من طريق عمارة عن حريث بن ظهير قال: قال عبد الله [بن مسعود]: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء , فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم فتكذبون بحق , أو تصدقون بباطل , وإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا في قلبه تالية تدعوه إلى الله وكتابه»
- قال عبد الرزاق: وزاد معن عن القاسم بن عبد الرحمن , عن عبد الله في هذا الحديث , أنه قال: «إن كنتم سائليهم لا محالة؛ فانظروا ما قضى كتابُ الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته؛ لما تقدم. وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا. ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم
الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا})ا.هـ
والخلاصة في شأن رواية الإسرائيليات:
1: أن الإذن بالتحديث عنهم إذن مطلق يدخله التقييد، وتلك القيود منها ما نصّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه ما نصّ عليه بعض أصحابه مما علموه وأدركوه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لهم وتعليمه إيّاهم.
2: ما كان من أخبارهم يخالف دليلاً صحيحاً فهو باطل؛ لا تحلّ روايته إلا على سبيل الاعتبار والتشنيع، وبيان تحريفهم، ويجب تكذيبه، كما كذّب ابنُ عباس نوفاً البكالي لما زعم أن موسى الذي لقي الخضر ليس كليم الله، وإنما هو رجل آخر اسمه موسى؛ كما في الصحيحين عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى بني إسرائيل ليس بموسى الخضر، فقال: (كذب عدو الله) ، وفي رواية لمسلم: قال ابن عباس: أسمعته يا سعيد؟
قال سعيد: قلت: نعم.
قال: كذب نوف.
3: أن لا يعتقد تصديق ما يروى عنهم ما لم يشهد له دليل صحيح من الأدلة المعتبرة لدى أهل الإسلام.
4: أن بعض الإسرائيليات قد تتضمن زيادات منكرة لأخبار محتملة الصحة في الأصل؛ فتنكر الزيادات المنكرة، وتردّ، مع بقاء احتمال أصل القصة إذا كان له ما يعضده.
5: أن لا تجعل أخبارهم مصدراً يعتمد عليه في التعلّم والتحصيل؛ ولذلك يحذّر طلاب العلم من التفقه بها واعتمادها في أوّل الطلب، ويوجّهون إلى مناهل أهل الإسلام في التعلّم، فإذا أحكم الطالب دراسة أصول العلم على منهج صحيح؛ فلا حرج عليه أن يستأنس ببعض ما يروى من أخبار بني إسرائيل، وعلى ذلك يُحمل نهي ابن مسعود وابن عباس عن سؤال أهل الكتاب، مع ما روي عن ابن عباس من التحديث ببعض أخبار بني إسرائيل.
6: أن يفرّق بين الإذن المطلق بالتحديث عن بني إسرائيل وبين التحديث عن الكذابين والمتّهمين بالكذب الذين يروون الإسرائيليات المنكرة، وروايات هؤلاء في كتب التفسير كثيرة.