3: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}.
بسم الله واهب النعم, المتفضل بنعمه علينا, ثم بتوفيقه وتيسيره الهدى إلينا, ثم بتثبيتنا على الحق والهدى بعد أن ضلينا, وبعد:
فإن توسيع الله الرزق على عباده نعمة عظيمة, واستشعار العبد ذلك مما يستوجب عليه إزاء نعمته وفضله, واستشعار توفيق الله له على أن استشعر نعمته وحمده عليها لهي مرتبة أعلى, والموفق من وفق لهذه الدرجة من الحمد ومعرفة عظيم نعم الرب, وإن من حمد النعم بعد شكرها بالقلب واللسان, أن يتجاوز ذلك للبدن والأركان, فحق كل نعمة زكاتها, وزكاة النعم على أشكال, نتناول أحدها في آيتنا لهذا الدرس بإذن الله.
يقول تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
في هذه الآية يوجه الله الخطاب لعباده المؤمنين في تعاملهم مع إخوتهم الفقيرين, فيقول :(للفقراء), واللام في قوله للفقراء متعلقة بمحذوف مقدر، تقديره الإنفاق أو الصدقة للفقراء, كما ذكر ذلك ابن عطية.
والمقصود بالفقراء في هذه الآية فقراء المهاجرين من قريش في المقام الأول, ثم يدخل بعد ذلك كل فقير اكتملت فيه صفات الفقر, كما ورد ذلك عن مجاهد والسدي, وذكره ابن عطية وابن كثير, وسبب تخصيص المهاجرين في المقام الأول ذلك لأنهم كانوا قد شردوا من ديارهم وأوطانهم, ومنعوا من التجارة مع غيرهم من المشركين حتى ضاقت عليهم الدنيا, على عكس الأنصار الذين كانوا أهل مال وتجارة في الغالب.
ثم بعد ذلك يسترسل الله في وصف حالهم بما يوجب الشفقة والحنو عليهم, فيقول: (الذين أحصروا في سبيل الله)
والحصر لغة: الحبس والمنع. وقد فسر ابن كثير (الحصر) بمعنى الانقطاع.
واختلف علماء اللغة في التفريق بين (الحصر) و(الإحصار):
فمنهم من رأى أن كليهما بمعنى الحبس والمنع كابن سيده وغيره, كما ذكره عنه ابن عطية.
ومنهم من رأى أن الإحصار يكون بسبب المرض والعذر, والحصر يكون بسبب العدو, وعلى هذا فسره ابن زيد, وقتادة, والسدي, ورجحه الطبري.
والمراد بكيفية الحصر في هذه الآية على قولين:
1- قالوا: أحصرهم فرض الجهاد فمنعهم من التصرف.
2- وقالوا: أحصرهم عدوهم لأنه شغلهم بجهاده.
والمعنى العام الذي يجتمع به المعنى: أنهم صاروا إلى أن حصروا وحبسوا أنفسهم للجهاد بربقة الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذا أحاط بهم الكفر، فصار خوف العدو عذرا أحصروا به. كما ذكر ذلك الزجاج وابن عطية.
وقوله: (في سبيل الله) قد يكون المراد به أمران:
1- الجهاد. كما قال به الزجاج, وذكره ابن عطية.
2- الدخول في الإسلام.كما ذكره ابن عطية, وأوضح أن اللفظ يشتمل المعنيين.
(لا يستطيعون ضربا في الأرض)
والضرب في الأرض بمعنى: السفر لأجل التجارة وقضاء حاجة الإنسان ونحوه.كما ذكر ذلك ابن عطية وابن كثير.
ومعنى الآية: لا أن المراد عدم التصرف, وإنما إلزامهم أنفسهم بالجهاد حتى منعهم ذلك من التصرف, أو أن قلتهم تمنع من الاكتساب بالجهاد, وإنكار الكفار عليهم إسلامهم يمنع من التصرف في التجارة, كما أوضح ذلك الزجاج, وابن عطية.
وقوله: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف)
أي: أن الجاهل بباطن أمرهم وحقيقته, يحسبهم أغنياء من شدة تعففهم, والتعفف: بناء مبالغة من عفّ عن الشيء إذا أمسك عنه وتنزه عن طلبه. فهذا مما يوحي بشدة مبالغتهم في محاولة إخفاء فقرهم, وعدم سؤالهم.
وحرف من في قوله: {من التّعفّف} قيل: لابتداء الغاية أي من تعففهم ابتدأت محسبته، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غناء تعفف، وإنما يحسبهم أغنياء غناء مال، ومحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة عن المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين, كما ذكر ذلك ابن عطية.
وقيل: أنها لبيان الجنس, كما سيتبين معنى ذلكمن خلال شرح الآية أدناه.
(تعرفهم بسيماهم)
والسيما: العلامة. ذكره ابن عطية. وأوضح ابن كثير أن هذه السيما يعرفها أولوا الألباب, كما في الحديث الّذي في السّنن: «اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللّه»، ثمّ قرأ: {إنّ في ذلك لآياتٍ للمتوسّمين}[الحجر: 75]. وذكر ابن عطية عدة علامات يعرف بها أولاء المتعففين, منها:
- التخشع والتواضع. قاله مجاهد.
- جهد الحاجة وقضف الفقر في وجوههم وقلة النعمة. قاله السدي والربيع.
- رثة الثياب. قاله ابن زيد.
- أثر السجود. قاله قوم, وحكاه مكي, وحسنه ابن عطية, وعلل ذلك بقوله: أنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة، فكان أثر السجود عليهم أبدا.
ثم بعد ذلك يمتدحهم الله بقوله: (لا يسألون الناس إلحافا)
والإلحاف: مشتق من اللحاف الذي يشمل الإنسان بالتغطية, وقد ذكر ابن عطية وابن كثير أنه هو والإلحاح واحد, ومعناه هنا: أن يشتمل بالمسألة وهو مستغن عنها. ذكره الزجاج وابن عطية وابن كثير.
وقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليس المسكين الّذي تردّه التّمرة والتّمرتان، ولا اللّقمة واللّقمتان، إنّما المسكين الّذي يتعفّف؛ اقرؤوا إن شئتم -يعني قوله-:{لا يسألون النّاس إلحافًا}». ذكره ابن كثير.
والمراد: أنه ليس منهم سؤال ابتداء فيكون منهم إلحاف. كما ذكر ذلك الزجاج والطبري وابن عطية.
وعلى ذلك يكون قوله: لا يسئلون النّاس إلحافاً لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافا من الناس، كما تقول: هذا رجل خير لا يقتل المسلمين، فقولك: «خير» قد تضمن أنه لا يقتل ولا يعصي بأقل من ذلك، ثم نبهت بقولك لا يقتل المسلمين على قبح فعل غيره ممن يقتل، وكثيرا ما يقال مثل هذا إذا كان المنبه عليه موجودا في القضية مشارا إليه في نفس المتكلم والسامع. كما أوضح ذلك ابن عطية.
وذكر ابن عطية معنى آخر فقال: قد يكون التّعفّف داخلا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالا، بل هو قليل, وهذا المعنى هو مراد السدي, وعلى هذا المعنى تكون (من) في قوله :(من التعفف) لبيان الجنس.
وقوله :(وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)
إخبار يراد به الوعد بالعاقبة والثواب, فلسان حال الآية: أن الله يعلم كل ما تنفقون, فلن يضيعكم أعمالكم, وسيجازيكم عليها إحسانا, فعلمه علم إثابة, لا مجرد علم يقتضي المعرفة, وفي هذه الآية حض عظيم على الإنفاق في سبيل الله, فالمرء يتعامل مع من يحصي كل ما تعمل, ويجازي بالضعف على كل ما تفعل.
فوائد تحت ظلال الآية:
1- (الذين أحصروا) يتبين لك من خلال هذا اللفظ كيف أن المهاجرين -رضي الله عنهم- حبسوا أنفسهم على الخير وفي سبيل الله, وهذا تعبير بليغ دقيق, يبين لك أنهم وصلوا لمرحلة عظمى من الإيمان, حيث أنهم كمن حوصر بالمعروف من كل جهة, حتى كأنه أصبح لا يملك سبيلا لأي أمر آخر.
2- (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) وهذه مرتبة عظيمة من التعفف وعدم التعرض للناس ولنظراتهم وهمساتهم, فالفقير هنا لم يكتف بسكوته عن طلب المال, بل إنه يشعر من حوله بأنه غني غير محتاج, وهذا من قمة التعفف وحسن الأدب مع الله, وذلك أنهم لا يقبلون المسألة إلا من الله.
3- (تعرفهم بسيماهم) المؤمن الحق يرزقه الله فراسة بها يعرف مراد الله, على الكيفية التي يريدها منه الله, وهذه منزلة لا تعطى إلا لمن طهر قلبه, ونقاه من الذنوب والعاصي التي كانت تعكر صفو رؤيته, فلا يصبح يرى الحق واضحا, ولا المعروف معروفا.
4- (لا يسألون الناس إلحافا) سؤال الناس مكروه على أقل أحواله, وقد يكون في سؤال الحاجة البسيطة, وقد ورد عن بعض السلف أنهم كانوا لا يسألون الناس حتى ما يقع منهم في أن يساعدوهم على استرداده من شدة حرصهم ألا يكون للناس عليهم يد, فاليد تذل المرء, والذلة لغير الله مهانة, والمؤمن يحرص أشد الحرص ألا يذل نفسه إلا لله وفي سبيله.
5- (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) هذه الآية شعار المؤمن ودثاره, فعلمه بعلم الله يستوجب عليه الخوف والرجاء, ومراجعة النفس في صحة نواياها, وعدم الالتفات للخلق وتقديرهم لكل فعل وأمر, فإن مما يتعب المرء ولا يكسبه إلا الخسر, أن ينتظر من الناس المعروف وأن يفعله مقابل كلمة شكر منهم, أو شهادة تكريم, أو عطية مجازاة, فإن هذا كله مما يبخس العمل, ويحقر من النية, والمصيبة أن البشر قد لا ينتبهون لكل خير تعمله, وإن انتبهوا فقد لا يجازونك حق جزائك, وشتان ما بين جزائهم وجزاء الله, فالله لا يجازي وحسب, بل يكرم ويضاعف لمن يشاء, وللمرء في اختيار المستحق بإفراد النية في أعماله ما يشاء.
ختاما: فإن هذه الآية على قصرها إلا أنها تحتوي فوائد عديدة, ولطائف خفية, فيما يخص الصدقة والعطاء, كما أن فيها تأكيدا على الأخوة الإسلامية, وتوثيقا لعرى المحبة بين المجتمع الإسلامي, حتى أنها التفتت لأولئك الذين أحصروا فلم يعد يراهم أحد, وسكتوا فأصم آذان الناس عنهم ضجيج غيرهم, لكن الله لم ينسهم, وكيف ينسى الله أولياءه وأصفياءه, فاللهم أنعم علينا بولايتك, وارزقنا النعم وارزق بنا العباد, وامنن علينا بفضلك وإحيانك, إنك ولي ذلك والقادر عليه, والحمدلله رب العالمين.