المثال الأول: رسالة في تفسير قول الله تعالى: {يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم}
الغُرور في اللغة مصدر غرَّ يغُرُّ غُروراً ، وهو الخداع بالباطل بسبب الجهل والغفلة وقلة التجربة، ومنه الانخداع بالأماني الباطلة ، قال الله تعالى في الشيطان: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}
وقال آكل المرار والد امرئ القيس :
إن من غرَّه النساء بشيء .. بعد هندٍ لجاهل مغرور
وقال طرفة بن العبد:
أبا منذر كانت غُروراً صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
أي منيتموني بالباطل حتى خدعتموني بتلك الصحيفة
والمغترّ: المنخدع.
ورجل غرَّته الدنيا: أي خدعته بزينتها وباطلها؛ فهو مغرور منخدع بها.
وغرَّرَ الرجلُ بنفسه إذا عرَّضها للهلكة.
والغِرُّ الذي لم يجرّب الأمور فيسهل انخداعه.
والتغرير بالشخص تعريضه للخديعة لضعف رشده.
والغَرور هو الذي يَغُرُّ غيرَه.
والمغرور هو المنخدع به.
والغُرور هو وصف فعل الخديعة؛ قال الله تعالى: {فدلاهما بغرور}، وقال: {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}
قال الأصمعي: (الغَرور الذي يغرُّك، والغُرور الأباطيل).
فهذا تلخيص كلام علماء اللغة في معنى الغرور ، وأقوال المفسرين في تفسير الآية لا تخرج عن هذا المعنى اللغوي.
وما شاع في القرون المتأخرة من إطلاق لفظ الغرور على معنى الزهو والعجب ، وقولهم عن صاحب العجب والزهو : إنه مغرور، هو تخصيص لمعنى اللفظ وصرف له عن صريح دلالته في اللغة.
وصاحب العجب يصدق عليه أنه مغرورٌ لأنه منخدع بما غرَّه وفتَنه حتى أصابه ما أصابه من العجب والزهو .
لكن من الخطأ أن يظن أن دلالة اللفظ اللغوية على هذا المعنى هي باعتبار العجب والزهو، وإنما هي باعتبار الجهل والانخداع.
وأما قوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم}
ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ما معنى هذا الأسلوب في اللغة ؟ أي: ما غرك بكذا؟ أو ما غرك بفلان؟
المسألة الثانية: ما معنى الاستفهام في الآية؟
المسألة الثالثة: ما جواب الاستفهام؟ وما مناسبة ذكر اسم الله (الكريم) في هذه الآية؟
فأما جواب المسألة الأولى: فالعرب تقول: ما غرك بفلان؟! تريد: ما جرَّأك عليه؟ وما خدعك حتى أصابك منه ما أصابك أو فاتك من خيره ما فاتك؟
- قال الأصمعي: (ما غرك بفلان؟ أي: كيف اجترأت عليه؟). ونقله أبو علي القالي عن أبي نصر الباهلي.
- وفي مواعظ عبد الله بن عمرو بن العاص أن القبر يقول لصاحبه إذا وضع فيه: (يا بن آدم ما غرَّك بي؟! قد كنت تمشي حولي فِدَادا). رواه ابن أبي شيبة وغيره، فداداً أي اختيالاً.
- وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي بعد أن ظفر ببني أسد وقتل منهم من قتل بعد أن اجترؤا عليه ونالوا منه:
فقل لدودانَ عبيدَ العصا ... ما غرَّكم بالأسد الباسل؟!
دودان لقبٌ لبني أسد.
قال أبو إسحاق الزجاج في تفسير هذه الآية: (أي ما خدعك وسوَّل لك حتى أضعت ما وجبَ عليك؟ ).
وقد تناقله كثير من المفسرين.
وأما جواب المسألة الثانية: فالاستفهام جامع لمعنى الإنكار والتوبيخ والتقريع، والقول في معنى الاستفهام فرع عن فهم دلالة الآية.
ولذلك كان مِنَ السلف مَن يَعِظُ بهذه الآية لما فهم منها من معنى الزجر، كما قال سعيد بن عبيد: رأيت سعيد بن جبير وهو يؤمّهم في رمضان يردد هذه الآية: {إذ الأغلال في أعناقهم}، {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك} يرددها مرتين أو ثلاثا). رواه عبد الرزاق.
وأما جواب المسألة الثالثة فقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنَّ الذي غرّه هو جهله، وروي هذا المعنى عن عمر وابن عباس وأبي موسى الأشعري والربيع بن خثيم والحسن البصري.
والقول الثاني: أنَّ الذي غرَّه هو الشيطان، وهذا قول قتادة رواه عنه ابن جرير بإسناد صحيح.
واستدلَّ له بقول الله تعالى: {وغركم بالله الغرور} أي خدعكم وجرأكم على عصيان الله الغَرورُ وهو الشيطان في أظهر الأقوال.
والقول الثالث: أنَّ الذي غرَّه هو كرم ربّه، وهذا القول نقل معناه عن الفضيل بن عياض ويحيى بن معاذ وأبي بكر الوراق، وذكر الماوردي ما في معناه احتمالاً، ثم ذكره ابن الجوزي من غير نسبة، ثم اشتهر هذا القول في كتب التفسير.
فالقولان الأولان صحيحان متلازمان؛ فالشيطان هو مصدر التغرير، وجهل الإنسان هو منفذ الاغترار، وبه تسلط الشيطان على المغرور.
وأما القول الثالث فخطأ بيّن وهو معارض لمقصد الآية، لأنَّ كرم الله لا يغرُّ بل يوجب الشكر، وتذكّر العبد لكرم الله تعالى وتنزّهه عن النقائص والعيوب يحمله على خشيته والاستحياء منه، وإنما الذي يغر جهل الجاهل بما يجب أن يقابل به هذا الكرم، وعمايته عن العبر والآيات.
والجهل هنا ليس المراد به مجرّد عدم العلم الذي يُعذر به غالباً، وإنما المراد به الجهل الحكميّ الناتج عن الغفلة والإعراض عن ذكر الله؛ فيوصف به صاحبه بأنه من الجاهلين وصاحب جهالة، كما في قول الله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} وكل ما عصي الله به فهو عن جهالة ونوع سفاهة منافية للرشد.
وقد أحسن ابن القيم وابن كثير في رد هذا القول فقال ابن كثير: وقوله: {يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}: هذا تهديد، لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب؛ حيث قال: "الْكَرِيمِ" حتى يقول قائلهم: "غرَّهُ كرمه".
بل المعنى في هذه الآية: ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم-أي: العظيم-حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث: "يقول الله يوم القيامة: ابنَ آدم! ما غرك بي؟ ابنَ آدم! ماذا أجبتَ المرسلين؟").
وقال ابن القيم في الجواب الكافي: (كاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم} فيقول: كرمه، وقد يقول بعضهم: إنه لقَّن المغترَّ حجته!!
وهذا جهل قبيح، وإنما غرَّه بربه الغَرور، وهو الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء وجهله وهواه، وأتى سبحانه بلفظ الكريم وهو السيد العظيم المطاع الذي لاينبغي الاغترار به ولا إهمال حقه؛ فوضع هذا المغتر الغرور فى غير موضعه واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به)ا.هـ.
وقال البغوي: (وقال بعض أهل الإشارة: إنما قال: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دون سائر أسمائه وصفاته، كأنه لقنه الإجابة).
قال ابن كثير معقباً على هذا القول: (وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل؛ لأنه إنما أتى باسمه الْكَرِيم لينبه على أنه لا ينبغي أن يُقَابَل الكريم بالأفعال القبيحة، وأعمال السوء).
والكريم من أسماء الله الحسنى ومعناه المتصف بكل كمال وصفات حسنى، فهو كريم في ذاته، كريم في صفاته، كريم في أفعاله، كريم في أحكامه لا يأمر إلا بالعدل والإحسان، كريم في ثوابه، كريم في إنعامه لا تحصى نعمه، ولا يُحَدُّ فضله، وهو الكريم الذي بيده الخير كله، فكل خير هو موليه والمتفضل به، وهو الكريم المتنزه عن كل نقص وسوء.
وهو الكريم فيما يأمره به وينهى عنه ويرشد إليه، إن الله نعما يعظكم به
فما الذي غرَّ هذا الجاهل المغرور بربه الكريم المكرَّم عن كلّ سوء الذي لا يليق أن يقابلَ إحسانُه بعمل السيئات؟!
وما الذي غرَّه بربّه الكريم الذي أنشأه من العدم وأسبغ عليه النعم وعرَّفه بحقّه عليه وعاقبة عصيانه؛ فما الذي غرَّه حتى صرفه عن طاعته وعرَّضه لسخطه؟!
وما الذي غرَّه بربّه الكريم فمنعه من تصديق وعده واتّباع هداه؟! وحرمه من ثواب ربه وعطائه وفضله العظيم؟!
وما الذي غره بربه الكريم الذي لا أكرم منه في ذاته وصفاته، الذي من كرمه تشتاق نفوس العارفين به أعظم شوق إلى لقائه والنظر إلى وجهه الكريم فما الذي غره بربه وحجبه عنه؟!
وما الذي غره بربه الكريم الذي لا يأمر إلا بالعدل والإحسان وما فيه زكاة نفس العبد وطهارتها وقيام مصالح العبد ورشاد أمره، فما الذي غرَّه بربّه وأوقعه في أسر الهوى وعواقب الذنوب وتسلط الشيطان؟!
وما الذي غره بربه الكريم الذي أنعم عليه بالنعم العظيمة من مبدأ خلقه إلى موته فقابلَ نعمه وإحسانه بهذا الكفر والنكران؟!!
فتدبُّر هذه المعاني ومعرفة أوجه اتصالها بمعنى اسم الكريم وآثاره في الخلق والأمر والجزاء يفتح لك أبواباً من فهم القرآن، والله الموفق والمستعان.