الجزء الثاني
القسم الأول: من 0 إلي 5
القسم الثاني: من 5 إلي 10
وقد صنف العلماء في بيان فضل العلم مصنفات عظيمة ، جليلة القدر ، عظيمة النفع ، وأفرد له بعض العلماء أبوابا في بعض كتبهم ، فأفرد الإمام البخاري في صحيحه كتاب العلم وضمنه بابا في فضل العلم ، وكذلك فعل الإمام مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي والدارمي وغيرهم كثير ، كثير من العلماء المحدثين المصنفين للجوامع والسنن يفردون لفضل العلم كتابا ، وهذا دليل على عظم شأنه وعلى والحث على طلبه ، ومن أهل العلم من أفرد فضل العلم بالتصنيف ، فصنف كتابا مستقلا في بيان فضل العلم أو الحث على طلبه ، ومن هؤلاء :أبو نعيم الأصبهاني ، وأبو العباس المرهبي واسمه أحمد بن علي من شيوخ أبو نعيم ، و كذلك ابن عبد البر وابن القيم كتب في فضل العلم كتابات كثيرة ومن أجلها كتابه " مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة " فإنه قد أطال جدا في بيان فضل العلم في هذا الكتاب ، وابن رجب رحمه الله له كتاب " فضل علم السلف على علم الخلف " ، وكذلك الكثير من العلماء كتبوا في بيان فضل العلم كتابات كثيرة منها ما هو مفرد ، ومنها ما ضمن في أبواب من كتبهم .
ولا توجد أمة من الأمم اعتنت بتعلم أحكام دينها كعناية هذه الأمة المباركة التي هي خير أمة أخرجت للناس ، فإنها قد بلغت فيه غاية لم تبلغها أمة من الأمم قبلها ، واختصها الله فيه بخصائص لم تعط لأمة قبلها .
والناس يتفاضلون في العلم تفاضلا كبيرا كما قال الله تعالى : { وفوق كل ذي علم عليم } ، وكلما كان الإنسان أكثر علما بما ينفع كان أكثر فضلا ، وأعظم شأنا ، وأعلى درجة .
نأتي الآن إلى بيان مسألة مهمة ، وهي ما هي أنواع العلم النافع ؟ ، ذكرنا الآن فضل العلم ، وفضل طلبه والحث على طلبه و الآيات والأحاديث والآثار الواردة في ذلك ، فما هو هذا العلم النافع الذي يُحث على طلبه ؟؟ .
أولا : لابد من بيان مقدمة مهمة وهي أن العلم ينقسم إلى قسمين :
• علم نافع .
• علم غير نافع .
وسنأتي للتنبيه على أنواع العلم غير النافع ، أما العلم النافع فمنه :
• علم ينفع المرء في دنياه ، من الأمور التجريبية وغيرها مما ينفع الناس في حياتهم ومعاشهم .
• ومنه علم ينفع الناس في أمور دينهم في التفقه في الدين ، ومعرفة هدى الله عز وجل في الشؤون كلها ، ومعرفة هدى الله نافع للمرء في دينه ودنياه .
فالعلم النافع ينقسم إلى قسمين :
• علم دنيوي .
• وعلم شرعي .
والمراد في هذه المحاضرة هو : العلم الشرعي ، وهو العلم بدين الله عز وجل ، وهو ثلاثة أقسام كما قال ابن القيم رحمه الله :
والعلم أقسام ثـــــلاث مالها من رابع والفضل للرحمن
علم بـأوصاف الإلـه وفعــله وكـذلك الأســـماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاءه يوم المــعاد الثان
فقسم أنواع العلوم الشرعية النافعة إلى ثلاثة أقسام :
• علم العقيدة ، ومدراه على معرفة الأسماء والصفات ، وما يعتقد في أبواب الإيمان .
• والعلم الثاني هو معرفة الأمر والنهي ، و الحلال والحرام ، وهو علم الفقه في الدين .
• والعلم الثالث هو علم الجزاء ، جزاء المرء على أفعاله في الدنيا والآخرة .
فهذه أنواع العلم النافع الثلاثة ، فهذا تقسيم للعلوم الشرعية من وجه ، ومن وجه آخر العلم على قسمين :
• علم ظاهر .
• وعلم باطن .
العلم الظاهر : هو ما تقدم ذكره من المسائل التي يتفقه فيها العلماء وطلاب العلم من معرفة مسائل الاعتقاد ، والحلال والحرام ، والجزاء وغير ذلك .
والعلم الباطن : يقصد به ما يقوم في قلب طالب العلم من خشية الله عز وجل والإنابة إليه وتعظيم شأنه ، وصدق الرغبة فيما لديه ، وما يقوم في قلبه من اليقين ، واليقين لا يكون إلا بالعلم .
وقد قال الطحاوي رحمه الله في شرح مشكل الآثار كلاما خلاصته :
أن أهل العلم الذين يسممون في الشريعة علماء على صنفين :
الصنف الأول : الفقهاء في الكتاب والسنة الذين تعلموا الأحكام والسنن وعلموها وهم الذين يُرحل إليهم في طلب العلم وفقه مسائل الأحكام في العبادات والمعاملات والقضاء .
والصنف الآخر : أصحاب الخشية والخشوع على استقامة وسداد ، مع حدوث شرط الاستقامة والسداد ، فأصحاب الخشية والخشوع قد تبين في الأدلة من الكتاب والسنة أنهم من أهل العلم ، وسيأتي بإذن الله ذكر بعض الأدلة على ذلك ، وقد يكون أحدهم أميا لا يقرأ ولا يكتب ولم يشتغل بما اشتغل به كثير من المتفقة لكنه عند الله من أهل العلم ، وفي ميزان الشريعة من أهل العلم ، وعند الرعيل الأول والسلف الصالح هو العالم الموفق وإن كان لا يقرأ ولا يكتب بسبب ما قام في قلوبهم من الخشية والإنابة على الحق والهدى ، وسبب ذلك أنهم بما يوفقون إليه من اليقين النافع الذي يصيب كبد الحقيقة ويفرق لهم به بين الحق والباطل ، وما يوفقون إليه من حسن التذكر والتفكر والفهم والتبصر يعلمون علما عظيما قد يُفني بعض المتفقة والأذكياء من غيرهم أعمارهم ولمّا يحصلوا عشره ، ذلك بأنهم يرون ببصائرهم ما يحاول غيرهم استنتاجه ، ويصيبون كبد الحقيقة و غيرهم يحوم حولها .، ويأخذون صفو العلم وخلاصته وغيرهم قد يفني وقته ويضني نفسه في البحث والتنقيب فيبعد ويقترب من الهدى بحسب ما معه من أصل الخشية والإنابة ، فكانوا بما عرفوه وتيقنوه ووجدوه وانتفعوا به أهل علم نافع .
ومن أدلة ذلك قول الله تعالى :{أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } الحذر والرجاء من الأعمال القلبية ، فلما قامت في قلوب هؤلاء قياما صحيحا أنتجت أثرها ، وهو القنوت لله عز وجل لله آناء الليل ساجدا وقائما فكان هذا هو أصل العلم النافع ، ولذلك قال الله عز وجل بعدها : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} ، فجعلهم الله عز وجل أهل العلم وغيرهم قسيمهم الذين لا يعلمون ، ونفي العلم في قوله : {والذين لا يعلمون} فيه وجهان للعلماء :
الوجه الأول : نفي حقيقته .
والوجه الآخر : نفي فائدته .
ما الفرق بين النوعين ؟
النوع الأول إذا قلنا نفي حقيقته أي هل يستوي الذين يعلمون والذين ليس لديهم علم ، وإذا قلنا نفي فائدته يكون المعنى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا ينتفعون بعلمهم ، قد يتعلم بعض طلاب العلم شيئا يقرأون كتبا كثيرة وقد يتعلمون مسائل كثيرة لكنهم لا ينتفعون بها ، فهل يستوي من ينتفع بعلمه ومن لا ينتفع ؟ فالآية على هذين القولين .